فقد يقول قائل: كيف يصحُّ أنْ يلعنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لا يستحقُ اللعن؟ ويسبَّ من لا يستحق السبّ؟ ويجلدَ من لا يستحق الجلد؟ أو يفعل مثل ذلك عند الغضب وهو معصوم من هذا كله فاعلم – شرح الله صدرك – أن قوله صلى الله عليه وسلم أولا: (ليس لها بأهل) أي عندك ياربّ في باطن أمره فإنَّ حُكمه صلى الله عليه وسلم على الظاهر كما قال وللحكمة التي ذكرناها حَكَمَ صلى الله عليه وسلم بجلده أو أدبَّه بسبِّه أو لعنه بما اقتضاه عنده حال ظاهره ثم دعا له صلى الله عليه وسلم – لشفقته على أمته ورأفته ورحمته للمؤمنين التي وصفه الله بها – وَحَذَرَهُ أن يتقبل اللهُ فيمن دعا عليه دعوته أن يجعل دعاءه وفعله له رحمة وهو معني قوله (ليس لها بأهل) لا أنه صلى الله عليه وسلم يحمله الغضب ويستفزه الضجر لن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم وهذا معني صحيح
ولا يفهم من قوله (أغضب كما يغضب البشر) أن الغضب حمله على ما لا يجب بل يجوز أن يكون المراد بهذا: أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبِّه وأنه مما كان يحتمل ويجوز عفوه عنه أو كان مما خُيِّرَ بين المعاقبة فيه والعفو عنه وقد يُحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف والحَذَرَ من تعدي حدود الله وقد يحمل ما ورد من دعائه هنا ومن دعواته على غير واحد في غير موطنٍ على غير العزم والقصد بل بما جرت به عادة العرب في محاورتهم يدعون على مخاطبهم بنحو (قاتله الله) (وويل لأمه) (ولا أب له) لمن قصد مدحه وتحسين فعله – وهو مشهور في غير لسان العرب أيضا – وليس المراد بها الإجابة
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تربت يمينك) [1] وقوله (لا أشبع الله بطنه) قاله صلى الله عليه وسلم لمعاوية فيما رواه مسلم عن ابن عباس ولفظه (كنت مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف الباب فقال: اذهب فادع لي معاوية قال فجئته وقلت: هو يأكل فقال ثانياً: اذهب فادعه فجئته وقلت: هو يأكل فقال صلى الله عليه وسلم (لا أشبع الله بطنه)
وقوله (عقري حلقي) وقد قاله صلى الله عليه وسلم لصفية بنت حيي أم المؤمنين في حجة الوداع وهو في البخاري بسنده عن عائشة قالت (خرجنا مع رسول الله للحجِّ فلما كانت ليلة النَّفر حاضتْ صفيَّة فقال صلى الله عليه وسلم : ما أراها إلا حابستكم) وعقري: دعاء عليها من العقر وهو عرقبة الدواب والألف: للتأنيث كسكري. أو من العقرة: وهو رفع الصوت وحلقي: دعاء عليها وهو وجع في حلقها
وقد ورد في صِفَتِهِ في غير حديث (أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فحاشاً) وقال أنس (لم يكن سبَّاباً ولا فاحشاً ولا لعَّاناً. وكان يقول لأحدنا عند المعتبة (مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ) فيكون حمل الحديث على هذا المعني ثم أشفق صلى الله عليه وسلم من موافقة أمثالها إجابة فعاهد ربَّه – كما قال في الحديث – أن يجعل ذلك للمقول له زكاة ورحمة وقربة وقد يكون ذلك إشفاقاً على المدعو عليه وتأنيسا له لئلا يلحقه من استشعار الخَوْفِ والحَذَرِ – من لَعْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وتَقَبُلِ دعائه – ما يحمله على اليأس والقنوط وقد يكون ذلك سؤالاً منه لربِّه لمن جلده أو سبَّه – على حقٍّ وبوجه صحيح – أن يجعل ذلك كفَّارة لما أصابه وتمحيةً لما اجترم وأن تكون عقوبتُهُ له في الدنيا سببَ العفو والغفران كما جاء في الحديث الآخر (ومَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ)
[1] رواه الشيخان
https://www.fawzyabuzeid.com/table_bo…82&id=91&cat=4
منقول من كتاب [الكمالات المحمدية]