قال الله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾.
وقال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
وقال -تعالى-: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾.
وقال-تعالى-: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾.
وقال -تعالى-: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾.
وقال العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "نعم المجلس المجلس الذي تُنشر فيه الحكمة وتُرجى فيه الرحمة هو مجلس الذكر".
وقال: مجلس الذكر محياة العلم ويحدث في القلب الخشوع، القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر.
ودنيانا بذكراه تطيب
وفي مجالس الذكر تنزل الرحمة وتغشى السكينة وتحف الملائكة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فربما رُحِمَ معهم من جلس إليهم وإن كان مذنبًا، وربما بكى فيهم باك من خشية الله فوهب أهل المجلس كلهم له، وهي رياض الجنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: «مجالس الذكر».
فإذا انقضى مجلس الذكر فأهله بعد ذلك على أقسام؛ فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر ولا يزداد هدى ولا يرتدع عن ردى، وهؤلاء شر الأقسام، ويكون ما سمعوه حجة عليهم فتزداد به عقوبتهم، وهؤلاء الظالمون لأنفسهم ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾.
ومنهم من ينتفع بما سمعه، وهم على أقسام:
فمنهم من يَرُدَّه ما سمعه عن المحرمات ويوجب له التزام الواجبات، وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين.
ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات والتورع عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى اتباع آثار من سلف من السادات، وهؤلاء السابقون المقربون.
وينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام؛ فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخشوا لكمال معرفتهم وشدة خوفهم أن يكون نفاقًا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وفي صحيح مسلم عن حنظلة أنه قال: يا رسول الله، نافق حنظلة، قال: وما ذاك؟ قال: نكون عندك تُذكِّرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا رجعنا من عندك عافسنا ([1]) الأزواج والضيعة ونسينا كثيرًا فقال: «لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة».
وفي رواية له أيضًا: «لو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق».
ومعنى هذا أن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جدًا, ولا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه, فيكتفي منهم بذكر ذلك أحيانًا. وإن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة, ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك بل يلوم نفسه عليه ويحزنه ذلك من نفسه.
وقسم آخر يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر, فلا يزال تذكر ذلك بقلوبهم ملازمًا لهم، وهؤلاء على قسمين.
أحدهما: من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم ولا القيام بوفاة حقوقهم، وكان كثير من السلف على هذه الحال.
فمنهم من كان لا يضحك أبدًا، ومنهم من كان يقول لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد.
والثاني: من يستحضر ذكر الله وعظمته وثوابه وعقابه بقلبه، ويدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال والقيام على العيال والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهؤلاء أشرف القسمين، وهم خلفاء الرسل، وهم الذي قال فيهم على رضى الله عنه: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى, وقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم عند الذكر تتغير ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة الناس والقيام بحقوقهم.
ففي مسند البزار ومعجم الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي قلت: نذير قوم, فإذا سُرّي عنه, فأكثر الناس ضحكًا وأحسنهم خلقًا.
وفي مسند الإمام أحمد عن علي أو الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه، وكأنه نذير جيش يصبحهم الأمر غدوة وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكًا حتى يرتفع عنه ([2]) .
([1]) معنى عافسنا: عالجنا.
([2]) من لطائف المعارف لابن رجب باختصار.
اعلم أن العلم والعبادة، جوهران لأجلهما كان كل ما ترى وتسمع من تصنيف المصنفين، وتعلم المعلمين، ووعظ الواعظين، ونظر الناظرين، بل لأجلهما أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، ولأجلهما خلقت السموات والأرض وما فيهما.
فتأمل آيتين في كتاب الله تعالى: إحداهما قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا * ﴾ وكفى بهذه الآية دليلا على شرف العلم ولا سيما علم التوحيد, والثانية قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ وكفى بهذه الآية دليلا على شرف العبادة ولزوم الإقبال عليها.
واعلم أن ما سواهما من الأمور لا خير فيه ولا حاصل فيه فإذا علمت ذلك. فاعلم أن العلم أشرف الجوهرين وأفضلهما, ومع ذلك فلا بد مع العلم من العمل به، وإلا كان هباءً منثورًا فإن العلم بمنزلة الشجرة، والعبادة بمنزلة الثمرة والشرف للشجرة إذ هي الأصل لكن الانتفاع إنما يحصل بثمرها، فإذا لا بد لك من كل من الأمرين حظ ونصيب بل لا بد لك من أربعة أشياء: العلم، والعمل، والإخلاص، والخوف، فيعلم الطريق أولا وإلا فهو أعمى، ثم يعمل بعمل ثانيًا, وإلا فهو محجوب ثم يخلص العمل ثالثًا وإلا فهو مغبون ثم لا يزال يخاف ويحذر من الآفات وإلا فهو مغرور، فإن الأعمال بخواتيمها, وما يدري ما يُختم له([1]) .
الله سبحانه وتعالى المسئول المرجو الإجابة أن يتولانا في الدنيا والآخرة, وأن يسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة، وأن يجعلنا ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر فإن هذه الأمور الثلاثة عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبدًا فإن العبد دائمًا يتقلب بين هذه الأطباق الثلاث.
نعم من الله – تعالى – تترادف عليه، فقيدها الشكر وهو مبني على ثلاثة أركان:
أولا: الاعتراف بها باطنًا والتحدث بها ظاهرا، وتعريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها، فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الثاني: محن من الله – تعالى – يبتليه بها, ففرضه فيها الصبر والتسلي، والصبر حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية كاللطم وشق الثياب ونتف الشعر ونحوه, فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوبًا، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتليه ليهلكه, وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله -تعالى- على العبد عبودية في الضراء كما له عليه عبودية في السراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون فقط. والشأن في إعطاء العبودية في المكاره ففيه تتفاوت مراتب العباد وبحسبه كانت منازلهم عند الله -تعالى- فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية, ونفقته في ضراء عبودية, ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمن كان عبدا لله في الحالتين قائمًا بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ وفي القراءة الأخرى عبادة, وهما سواء؛ لأن المفرد مضاف فيعم عموم الجمع, فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة فمن وجد خيرا فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وهؤلاء عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾.
ولما علم عدو الله إبليس أن الله -تعالى- لا يسلم عباده إليه، ولا يسلطه عليهم قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ فلم يجعل لعدوه سلطانًا على عباده المؤمنين، فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه وتحت كنفه، وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل العاقل, فهذا لا بد منه؛ فإن العبد قد بلي بالغفلة والشهوة والغضب ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احترز العبد ما احترز, فلا بد له من غفلة، ولا بد له من شهوة، ولا بد له من غضب.
وقد كان آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم من أحلم الخلق, وأرجحهم عقلاً, وأثبتهم, ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فما الظن بفراشة الحلم([2]) ومن عقله في جنب عقل أبيه كتفلة في بحر، ولكن عدو الله لا يخلص إلى المؤمن إلا غيلة, وعلى غرة وغفلة فيوقعه.
ويظن أنه لا يستقبل ربه -عز وجل- بعدها. وأن تلك الوقعة قد اجتاحته وأهلكته وفضل الله -تعالى- ورحمته وعفوه ومغفرته وراء ذلك كله.
فإذا أراد بعبده خيرًا فتح له أبواب التوبة والندم والانكسار، والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته حتى يقول عدو الله يا ليتني تركته ولم أوقعه، وهذا معنى قول بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار. قالوا: كيف قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفًا منه مشفقًا وجلا باكيًا نادمًا مستحيًا من ربه -تعالى- ناكس الرأس بين يديه, منكسر القلب له، فيكون ذلك ذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه شيئًا، ويعجب بها، ويستطيل بها ويقول: فعلت وفعلت, فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه, فإذا أراد الله -تعالى- بهذا المسكين خيرًا ابتلاه بأمر يكسره به, ويذل به عنقه، ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه؛ فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق: هو أن لا يكلك الله -تعالى- إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله -تعالى- إلى نفسك([3]) .
([1]) من كلام الغزالي.
([2]) أي: أن حلمه بالنسبة إلى آدم حمق, فإن الفراشة أشد شيء حمقًا إذا ترمي نفسها في النار.
([3]) من الوابل الصيب.
من أراد الله به خيرًا فتح له باب الذل والإنكار ودوام اللجوء إلى الله -تعالى- والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده.
فالعارف: سائر إلى الله -تعالى- بين هذين الجناحين([1]) لا يمكنه أن يسير إلا بهما. فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله – تعالى: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل, وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضي الله عنه: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم, أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي: مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل، فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار التوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا، وأقرب باب يدخل منه العبد على الله -تعالى- هو باب الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها بل يدخل على الله من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه -عز وجل- وكمال فاقته وفقره إليه، وأن كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود إلى الله -تعالى- ويتداركه برحمته, ولا طريق إلى الله -تعالى- أقرب من العبودية, ولا حجاب أغلظ من الدعوة والعبودية: مدارها على قاعدتين هما أصلها حب كامل وذل تام.
ومنشأ هذين الأصلين على ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام.
وإذا كان العبد قد بني سلوكه إلى الله -تعالى- على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله -عز وجل- ويجبره ويتداركه برحمته ([2]) .
لا يستقيم للعبد بناء سلوكه إلى الله -تعالى- على هذين الأصلين إلا باستقامة قلبه وجوارحه، فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله -تعالى- تتقدم عنده على جميع المحاب. فإذا تعارض حب الله -تعالى- وحب غيره سبق حب الله -تعالى- حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه، وما أسهل هذا بالدعوى, وما أصعبه بالفعل، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان، وأكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه، أو يحبه كبيره وأميره وشيخه وأهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله -تعالى- في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها وسنة الله -تعالى- فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه وينغصها عليه ولا ينال شيئًا منها إلا بنكد وتنغيص جزاء له على إيثار هواه وهوى من يعظمه من الخلق، أو يؤثر محبته على محبة الله, وقد قضي الله -تعالى- قضاء لا يرد ولا يدفع أن من أحب شيئًا سواه عذب به ولا بد، وإن من خاف غيره سلطه عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤمًا عليه ومن آثر غيره لم يبارك فيه ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد.
الثاني: الذي يسقيم به القلب تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله -تعالى- ذم من لا يعظمه, ولا يعظم أمره ونهيه قال سبحانه وتعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله -تعالى- عظمة.
وما أحسن ما قال شيخ الإسلام رحمه الله -تعالى- في تعظيم الأمر والنهي، هو أن لا يعارضا بترخص جاف, ولا يعارضا بتشديد غال, ولا يحملا على علة توهن الانقياد, ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق -عز وجل- تعظيم أمره ونهيه، وذلك؛ لأن المؤمن يعرف ربه -عز وجل- برسالته التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه, وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله -عز وجل- وأتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله -تعالى- ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي, ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر؛ فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم. ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقوبات الدنيوية، من الحدود التي رتبها الشارع صلى الله عليه وسلم على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر الناهي.
فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم أنها لو تقبلت منه صلاته منفردًا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفًا، ولو أن رجلا يعاني البيع والشراء يفوته في صفقة واحدة في بلدة من غير سفر ولا مشقة سبعة وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وآسفًا فكيف وكل ضعف ما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف، وما شاء الله -تعالى- فإذا فوت العبد على نفسه هذا الربح – وكثير من العلماء يقول: لا صلاة له – وهو بارد القلب, فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها، فهذا من عدم تعظيم أمر الله -تعالى- في قلبه.
وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله -تعالى- أو فاته الصف الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قرعة.
وكذلك لو فوت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته, وكلما كثر الجمع كان أحب إلى الله -عز وجل- وكلما بعدت الخطى كانت كل خُطوة تحط خطيئة وأخرى ترفع درجة.
وكذلك لو فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيما بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روح الصلاة ولبها فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه, أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتًا أو جارية ميتة فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره, فهكذا سواء الصلاة الخالية من الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله -تعالى- فيها بمنزلة هذه الأمة أو العبد الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله -تعالى- منه, وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها كما في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليصلي الصلاة, وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها حتى بلغ عشرها».
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى فتفاضل الأعمال عند الله -تعالى- بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، والمحبة وتوابعها وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيرًا كاملا والناقص يحسبه وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة, وهما تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان.
وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه، وأما علامات تعظيم الناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وأن يجانب الفضول من المباحات خشية الوقوع في المكروه، ومجانبة من يجاهر بارتكابها ويحسنها ويدعو إليها، ويتهاون بها, ولا يبالي ما ركب منها, فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله -تعالى- وغضبه, ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله -تعالى- وحرماته.
ومن علامات تعظيم النهي: أن يغضب الله -عز وجل- إذا انتهكت محارمه وأن يجد في قلبه حزنًا وكسرة إذا عصى الله -تعالى- في أرضه، ولم يطع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط، مثال ذلك أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصًا جافيًا.
وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بتكره وضجر.
فمن حكمة الشارع صلى الله عليه وسلم: أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر فيصلي العبد بقلب حاضر، يحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام أو عند مدافعة البول والغائط لتعلق قلبه من ذلك بما يشوش عليه مقصود الصلاة, ولا يحصل المراد منها فمن فقه الرجل في عبادته أن يقبل على شغله فيعمله ثم يفرغ قلبه للصلاة فيقوم فيها, وقد فرغ قلبه لله -تعالى- ونصب وجهه له، وأقبل بكليته عليه، فركعتان من هذه الصلاة يغفر للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه, والمقصود أن لا يترخص ترخصًا جافيًا.
ومن ذلك أنه رخص للمسافرين في الجمع بين الصلاتين عند العذر وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير وتعذر النزول أو تعسر عليه, فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم فجمعه بين الصلاتين لا موجب له لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة, فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع سواء وجد عذر أو لم يوجد بل الجمع رخصة عارضة، والقصر سنة راتبة فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة فهذا لون وهذا لون.
ومن هذا أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التخمة والامتلاء فيتطلب ما يصرف به الطعام فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده، بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه, ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت أو يردد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يكاد يأكل شيئًا من طعام عامة المسلمين، خشية دخول الشبهات عليه، ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العباد الذين نقص حظهم من العلم حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد الإسلام, وكان يتفوت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك فأوقعه الجهل المفرط والقلق الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى، نعوذ بالله من الخذلان فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله -عز وجل- بسالكه.
وما أمر الله -عز وجل- بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو, فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين, فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشيمه([3]) فإن وجد فيه فتورًا وتوانيًا وترخيصًا أخذه من هذه الخطة فبسطه وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرجاء وغير ذلك حتى ربما ترك العبد المأمور جملة.
وإن وجد عنده حذرًا وجدًا وتشميرًا ونهضة وأيس أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد، وسول له أن هذا ما يكفيك ونعمتك فوق هذا, وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا ولا تفطر إذا أفطروا, وأن لا تفتر إذا فتروا, وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها ونحو ذلك من الإفراط والتعدي، فيحمله على الغلو والمجاوزة وتعدي الصراط المستقيم، كما يحمل الأول على التقصير دونه, وأن لا يقر به، ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم هذا بأن لا يقر به, ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه، وقد فتن بهذا أكثر الخلق, ولا ينجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط، والله المستعان.
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله -تعالى- وحكمه ممتثلا ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر؛ فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والبذل والتسليم، ولا يحمله ذلك على الانسلاخ منه وتركه كما حمل ذلك كثيرًا من زنادقة الفقراء والمنتسبين إلى التصوف فإن الله -عز وجل- شرع الصلوات الخمس إقامة لذكره واستعمالا للقلب والجوارح واللسان في العبودية، وإعطاء كل منها قسطه من العبودية التي هي المقصود بخلق العبد فوضعت الصلاة على أكمل مراتب العبودية([4]) .
([1]) الأول: شهود عيوب النفس… إلخ، والثاني: شهود فضل ربه… إلخ.
([2]) من الوابل الصيب.
([3]) أصل الشيم للنظر إلى البرق, ومن شأنه أن يبدو ويخفى بسرعة تشبه استراق الشيطان للنظرة والتطلع إلى القلب بذلك. اهـ.
من حاشية الأصل, وفي نسخة (فيستامه), ولعل الصواب: فيشمه.
([4]) من الوابل الصيب باختصار.
روى الإمام أحمد رضي الله عنه والترمذي من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها, ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام: إن الله -تعالى- أمرك بخمس كلمات لتعمل بها, وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها. فإما أن تأمرهم, وإما أن آمرهم فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب، فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف فقال: إن الله تبارك وتعالى أمرني بخمس كلمات أن أعلمهن وأن آمركم أن تعملوا بهن، أولاهن أن تعبدو الله ولا تشركوا به شيئًا، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق, فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك، وإن الله أمركم بالصلاة, فإذا صليتم فلا تلفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحه، وإن ريح الصائم أطيب عند الله -تعالى- من ريح المسك. وأمركم بالصدقة, فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال: أنا أفتدي نفسي منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم، وأمركم أن تذكروا الله تعالى: فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد ولا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى» قال النبي صلى الله عليه وسلم «وأنا آمركم بخمسٍ اللهُ أمرني بهن: السمع والطاعة، والجهاد، والهجرة والجماعة, فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه, إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية, فإنه من جُثَا جهنم » فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام قال: «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فذكر مثل الموحد والمشرك، فالموحد: كمن عمل لسيده في داره وأدى لسيده ما استعمله فيه.
والمشرك: كمن استعمله سيده في داره فكان يعمل, ويؤدى خراجه وعمله إلى غير سيده فهكذا المشرك يعمل لغير الله في دار الله -تعالى- ويتقرب إلى عدو الله -تعالى- بنعم الله تعالى.
ومعلوم أن العبد من بني آدم لو كان عنده مملوك كذلك لكان أمقت المماليك عنده، وكان أشد شيء غضبًا عليه وطردًا له وإبعادًا, وهو مخلوق مثله كلاهما في نعمة غيرهما، فكيف برب العالمين الذي ما بالعبد من نعمة فمنه وحده لا شريك له، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، وهو وحده المنفرد بخلق عبده ورحمته وتدبيره ورزقه ومعافاته وقضاء حوائجه, فكيف يليق به مع هذا أن يعدل به غيره في الحب والخوف والرجاء والحلف والنذر والمعاملة، فيحب غيره كما يحبه أو أكثر. ويخاف غيره ويرجوه كما يخافه أو أكثر، وشواهد أحوالهم، بل وأقوالهم وأعمالهم ناطقة بأنهم يحبون أندادهم من الأحياء والأموات ويخافونهم ويرجونهم ويعاملونهم ويطلبون رضاهم ويهربون من سخطهم أعظم مما يحبون الله -تعالى- ويخافون ويرجون ويهربون من سخطه، وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله عز وجل.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ والظلم عند الله -عز وجل- يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به وديوان لا يترك الله -تعالى- منه شيئًا. وهو ظلم العباد بعضهم بعضًا فإن الله -تعالى- يستوفيه كله، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا, وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه -عز وجل- فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محوًا, فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة ونحو ذلك.
بخلاف ديوان الشرك, فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد وديوان المظالم, فإنه لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها.
ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله -عز وجل- حرم الجنة على أهله، فلا يدخل الجنة نفسه مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد، فإن التوحيد هو ***** بابها، فمن لم يكن معه ***** لم يفتح له بابها, وكذلك إن أتى ب***** لا أسنان له لم يمكن الفتح به.
وأسنان هذا ال***** هي الصلاة، والصيام والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وبر الوالدين فأي عبد اتخذ في هذه الدار *****ًا صالحًا من التوحيد وركب فيه أسنانًا من الأوامر، جاء يوم القيامة إلى باب الجنة ومعه *****ها الذي لا يفتح إلا به، فلم يعقه عن الفتح عائق اللهم, إلا أن تكون له ذنوب وخطايا وأوزار لم يذهب عنه أثرها في هذه الدار بالتوبة والاستغفار، فإنه يحبس عن الجنة حتى يتطهر منها، وإن لم يطهره الموقف وأهواله وشدائده فلا بد من دخول النار ليخرج خبثه فيها, ويتطهر من درنه ووسخه ثم يخرج منها, فيدخل الجنة فإنها دار الطيبين لا يدخلها إلا طيب
وقال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾. فعقب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يؤذن بأنه سبب للدخول أي سبب طيبكم قيل لكم ادخلوها.
وأما النار، فإنها دار الخبث في الأقوال، والأعمال، والمآكل والمشارب، ودار الخبيثين فالله -تعالى- يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكم بعضه على بعض، ثم يجعله في جهنم مع أهله, فليس فيها إلا خبيث.
ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيب ولا يشوبه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى, وهي دار العصاة, فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض، ودار الخبث المحض([2]) .
([1]) من الوابل الصيب.
([2]) من الوابل الصيب.
قوله في الحديث: «وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت».
الالتفات المنهى عنه في الصلاة قسمان:
والثاني: التفات البصر، وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلا على عبده ما دام العبد مقبلا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله -تعالى- عنه، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته, فقال: اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، وفي أثر يقول الله -تعالى: إلى خير مني إلى خير مني، ومثال من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويخاطبه وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا وشمالا، وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما خاطبه به، لأن قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان، أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتًا مبعدًا قد سقط من عينيه فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله -تعالى- في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته, وذلت عنقه له، واستحي من ربه -تعالى- أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه، وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة, وأن ما ببينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله -عز وجل- والآخر ساه غافل، فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه وبينه حجاب لم يكن إقبالا ولا تقريبًا فما الظن بالخالق عز وجل، وإذا أقبل على الخالق -عز وجل- وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها، ملأى منها, فكيف يكون ذلك إقبالا، وقد ألهته الوساوس والأفكار, وذهبت به كل مذهب.
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقر به وأغيظه للشيطان وأشده عليه فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهادات أن لا يقيمه فيه, بل لا يزال به يعده ويمينه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها، فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد, وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله -تعالى- حتى يخطر بينه وبين نفسه ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله -عز وجل- فيقوم فيها بلا قلب.
فلا ينال من إقبال الله -تعالى- وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه -عز وجل- الحاضر القلب في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة، فالصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله -تعالى- بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خفة, في نفسه, وأحس بأثقال قد وضعت عنه: فوجد نشاطًا وراحة وروحًا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينه ونعيم روحه، وجنة قلبه ومستراحة في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال أمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم يا بلال, أرحنا بالصلاة, ولم يقل: أرحنا منها.
وقال صلى الله عليه وسلم «جعلت قرة عيني في الصلاة» فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها.
وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها, فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها, وتقول ضيعك الله كما ضيعتني, وقد روي في حديث مرفوع رواه بكر بن بشر عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه أن قال ما من مؤمن يتم الوضوء إلى أماكنه ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها, فيؤديها لله -عز وجل- لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئًا إلا رفعت له إلى الله -عز وجل- بيضاء مسفرة يستضيء بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهي بها إلى الرحمن عز وجل، ومن قام إلى الصلاة فلم يكمل وضوءها وأَخَّرها عن وقتها, واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها رفعت عنه سوداء مظلمة ثم لا تجاوز شعر رأسه تقول: ضيعك الله كما ضيعتني([1]) .
([1]) من الوابل الصيب.
إذا وقف في الصلاة صاحب القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه، وقف بقلب مخبت خاشع له قريب منه سليم من معارضات السوء، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة وسطع فيه نور الإيمان، وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات فيرتع في رياض معاني القرآن، وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجلالها وكمالها الأعظم، وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله، وصفات كماله، فاجتمع همه على الله وقرت عينه به وأحس بقربه من الله قربًا لا نظير له, ففرغ قلبه له وأقبل عليه بكليته، وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربه؛ فإنه سبحانه أقبل عليه أولا فانجذب قلبه إليه بإقباله، فلما أقبل على ربه حظي منه إقبال آخر أتم من الأول.
وها هنا عجيبة من عجائب الأسماء والصفات: تحصل لمن تفقه قلبه في معاني القرآن, وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه بحيث يرى لكل اسم وصفه موضعًا من صلاته ومحلا منها, فإنه إذا انتصب قائمًا بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيوميته، وإذا قال: الله أكبر شاهد كبرياءه، وإذا قال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، شاهد بقلبه ربا منزهًا عن كل عيب، سالمًا من كل نقص محمودًا بكل حمد، فحمده يتضمن وصفه بكل كمال، وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك اسمه فلا يذكر على قليل إلى كثرة، ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ولا على آفة إلا أذهبها، ولا على الشيطان إلا رده خاسئًا داحرًا وكمال الاسم من كمال مسماه, فإذا كان هذا شأن اسمه، الذي لا يضر معه شيء في الأرض، ولا في السماء فشأن المسمى أعلا وأجل، وتعالى جده، أي: ارتفعت عظمته, وجلت فوق كل عظمة وعلا شأنه على كل شأن, وقهر سلطانه على كل سلطان, فتعالى جده أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيته أو في ألهيته أو في أفعاله أو في صفاته كما قال مؤمنوا الجن ﴿وَأَنَّهُ -تعالى- جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ فكم في هذه الكلمات من تجل لحقائق الأسماء والصفات على قلبه العارف بها، غير المعطل لحقائقها.
وإذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فقد آوى إلى ركنه الشديد، واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه, ويباعده عن قربه؛ ليكون أسوأ حالا.
فإذا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله «حمدني عبدي» فإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ انتظر الجواب بقوله: «أثنى عليَّ عبدي» فإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ انتظر جوابه بقوله: «مجدني عبدي».
فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه، عبدي ثلاث مرات، فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحًا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: حمدني عبدي وأثنى علي عبدي، ومجدني عبدي، ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء الثلاثة التي هي أصول الأسماء الحسنى, وهي الله والرب والرحمن، فشاهد قلبه من ذكر اسم الله تبارك وتعالى إلهًا معبودًا موجودًا مخوفًا لا يستحق العبادة غيره, ولا تبتغي إلا له، قد عنت له الوجوه, وخضعت له الموجودات.
وخشعت له الأصوات تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن, وأن من شيء إلا يسبح بحمده: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ وكذلك خلق السموات والأرض وما بينهما وخلق الجن والإنس والطير والوحش والجنة والنار، وكذلك أرسل الرسل, وأنزل الكتب, وشرع الشرائع, وألزم العباد الأمر والنهى.
وشاهد من ذكر اسمه ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قيومًا قام بنفسه وقام به كل شيء فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها قد استوى على عرشه، وتفرد بتدبير ملكه فالتدبير كله بيديه، ومصير الأمور كلها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع، والخفض والرفع والأحياء والإماتة، والتوبة والعزل والقبض والبسط، وكشف الكروب، وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا معقب لحكمه ولا راد لأمره ولا مبدل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه, وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه، فيقدر المقادير، ويوقت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائمًا بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.
ثم يشهد عند ذكر اسم الرحمن جل جلاله ربا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان متحببًا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلاً فوسعت رحمته كل شيء، ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته حيث بلغ علمه، فاستوى على عرشه برحمته، وخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته, وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته، وخلق الجنة برحمته والنار أيضًا برحمته، فإنها سوطه الذي يسوق به عبادة المؤمنين إلى جنته، ويطهر بها أدران الموحدين من أهل معصيته، وسجنه الذي يسجن فيه أعداء من خليقته.
فتأمل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعظه من الرحمة البالغة والنعمة السابغة, وما في حشوها من الرحمة والنعمة، فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده كما أن العبودية هي السبب المتصل منهم به؛ فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرحمة، ومن أخص مشاهد الاسم شهود المصلى نصيبه من الرحمة الذي أقامه بها بين يدي ربه، وأهله لعبوديته ومناجاته وأعطاه ومنع غيره، وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره، وذلك من رحمته به، فإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين، فيشهد ملكًا قاهرًا قد دانت له الخليفة، وعنت له الوجوه، وذلت لعظمته الجبابرة، وخضع لعزته كل عزيز, فيشهد بقلبه ملكًا على عرش السماء مهيمنًا لعزته تعنو الوجوه وتسجد, وإذا لم تعطل صفة حقيقة صفة الملك أطلعه على شهود حقائق الأسماء والصفات التي تعطيلها تعطيل لملكة, وجحد له فإن الملك الحق التام الملك لا يكون إلا حيا قيوما سميعًا بصيرًا مدبرا قادرا متكلمًا آمرا ناهيًا مستويًا على سرير مملكته، يرسل إلى أقاصي مملكته بأوامره فيرضى على من يستحق الرضا ويثيبه ويكرمه ويدنيه، ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويعطى من يشاء ويقرب من يشاء، ويقصى من يشاء له دار عذاب, وهي النار، وله دار سعادة عظيمة, وهي الجنة .
فمن أبطل شيئًا من ذلك أو جحده, وأنكر حقيقه فقد قدح في ملكه سبحانه وتعالى ونفى عنه كماله وتمامه, وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره فقد أنكر عموم ملكه وكماله, فيشهد المصلي مجد الرب -تعالى- في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ففيها سر الخلق والأمر والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو, ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في أربعة, وهي التوراة والإنجيل والقرآن والزبور وجمع معانيها في القرآن، وجمع معانيها في المفصل، وجمع معانيها في الفاتحة وجمع معاينها في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته، فكان أول السور ذكر اسم الله والرب والرحمن تطابقًا لأجل الطالب من عبادته وإعانته وهدايته، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله لا يعين على عبادته سواه، ولا يهدي سواه، ثم يشهد الداعي بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها ألبتة، فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين.
وهذا المطلوب من هذا الدعاء لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه, والهداية فيه، وهي هداية التفصيل وخلق القدرة على الفعل وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه على الوجه المرضى المحبوب للرب سبحانه وتعالى وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله.
ولما كان العبد مفتقرًا في كل حال إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه, ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية, فهو يحتاج إلى التوبة منها، وأمور هدى إلى أصلها دون تفصيلها، أو هدى إليها من وجه دون وجه, فهو يحتاج إلى تمام الهداية فيها؛ ليزداد هدى، وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو يحتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية، وأمور قد هدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها؛ فهو محتاج إلى الثبات عليها، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات، فرض الله – سبحانه – عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله مرات متعددة في اليوم والليلة، ثم بين أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته دون المغضوب عليهم، وهم الذين عرفوا الحق, ولم يتبعوه ودون الضالين، وهم الذين عبدوا الله بغير علم، فالطائفتان اشتركتا في القول في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم، فسبيل المنعم عليهم مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها علمًا وعملا.
فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد شرع له أن يطبع على ذلك بطابع من التأمين يكون كالخاتم له وافق فيه ملائكة السماء، وهذا التأمين من زينة الصلاة كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة واتباع للسنة، وتعظيم أمر الله، وعبودية اليدين وشعار الانتقال من ركن إلى ركن، ثم يأخذ في مناجاة ربه بكلامه واستماعه من الإمام بالإنصات وحضور القلب وشهوده.
وأفضل أذكار الصلاة ذكر القيام، وأحسن هيئة المصلي هيئة القيام، فخصت بالحمد والثناء والمجد وتلاوة كلام الرب جل جلاله([1]) .
([1]) من كتاب الصلاة لشمس الدين بن القيم رحمه الله, وإن شئت المزيد فراجع بقية هذا المبحث في هذا الكتاب ترَ العجب العجاب.
فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه -عز وجل- فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة.
أحدهما: أن يصلي العبد, ويعمل سائر الطاعات, وقلبه متعلق بالله -عز وجل- ذاكر لله -عز وجل- على الدوام، فأعمال هذا العبد تعرض على الله -عز وجل- حتى تقف قبالته فينظر الله -عز وجل- إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية قد صدرت عن قلب سليم مخلص محب لله -عز وجل- متقرب إليه أحبها ورضيها وقبلها.
والقسم الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاهٍ عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رفعت أعمال هذا إلى الله -عز وجل- لم تقف تجاهه, ولا يقع نظره عليها، ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال حتى تعرض عليه يوم القيامة؛ فتميز, فيثيبه على ما كان له منها، ويُرَدُّ عليه ما لم يرد وجهه به منها، فهذا قبوله لهذا العمل إثابته عليه بمخلوق من مخلوقاته من القصور والأكل والشرب والحور العين.
وإثابة الأول رضا العمل لنفسه ورضاه عن معاملة عامله وتقريبه منه وإعلاء درجته ومنزلته، فهذا يعطيه بغير حساب، فهذا لون والأول لون.
إحداها: مرتبة الظالم لنفسه المفرط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثانية: من يحافظ على مواقيتها وحدودها، وأركانها الظاهرة ووضوئها, لكن قد ضيع مجاهدة نفسه في الوسوسة, فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالثة: من حافظ على حدودها وأركانها وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهدة عدوه؛ لئلا يسرق صلاته, فهو في صلاة وجهاد.
الرابعة: من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يضيع شيئًا منها, بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي وإكمالها وإتمامها قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
الخامسة: من إذا قام إلى الصلاة، قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه -عز وجل- ناظرًا بقلبه إليه مراقبًا له ممتلئًا من محبته وعظمته, كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات, وارتفعت حجبها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه -عز وجل- قرير العين.
فالقسم الأول: معاقب. والثاني: محاسب. والثالث: مكفر عنه. والرابع: مثاب. والخامس: مقرب من ربه؛ لأن له نصيبًا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة, فمن قرت عينه بصلاته في الدنيا قرت عينه بقربه من ربه -عز وجل- في الآخرة، وقرت عينه به في الدنيا، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله -تعالى- تقطعت نفسه على الدنيا حسرات؛ وقد روى أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل: ارفعوا الحجب، فإذا التفت قال أرخوها, وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله -عز وجل- إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره أرخي الحجاب بينه وبين العبد, فدخل الشيطان وعرض عليه أمور الدنيا وأراه إياها في صورة المرأة، وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله -تعالى- وبين ذلك القلب، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب، فإن فر إلى الله -تعالى- وأحضر قلبه فر الشيطان، فإن التفت حضر الشيطان، فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة ([1]).
وبيان أنواع القلوب:
إنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربه -عز وجل- إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة وأسره الهوى، وجد الشيطان فيه مقعدًا تمكن فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار.
والقلوب ثلاثة:
قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا, وتحكم فيه بما يريد, وتمكن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قد استنار بنور الإيمان, وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهواء؛ فللشيطان هناك إقبال وإدبار ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر, ومنه من هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان, وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق؛ ولذلك الإشراق إيقاد لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم, فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رجم فاحترق، وليس السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله -تعالى- له أتم من حراسة السماء والسماء متعبد الملائكة ومستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤممن مستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان, وفيه أنوارها، فهو حقيقي أن يحرس ويحفظ من كيد العدو, فلا ينال منه شيئًا إلا خطفه([2]).
([1]) من الوابل الصيب.
([2]) من الوابل الصيب.
قوله صلى الله عليه وسلم: «وأمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك مثل رجل في عصابة, معه صرة فيها مسك, فكلهم يعجب أو يعجبه ريحه, وإن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك».
إنما مثَّل صلى الله عليه وسلم ذلك بصاحب الصرة التي فيها المسك؛ لأنها مستورة عن العيون مخبوءة تحت ثيابه كعادة حامل المسك، وهكذا الصائم صومه مستور عن مشاهدة الخلق لا تدركه حواسهم.
والصائم: هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته.
وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب.
ففي الحديث الصحيح: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» وفي الحديث: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش».
فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام, فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم.
وقد اختلف في وجود هذه الرائحة من الصائم؛ هل هي في الدنيا أو في الآخرة على قولين: وفصل النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة؛ لأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباته من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر, وتبدو على الوجوه, وتصير علانية ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف وحين يمسون, فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذ صيبها على ريح المسك عند الله -تعالى- وعند ملائكته, وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد، فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله -تعالى- وبالعكس، فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم والله -تعالى- يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته, فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد وصار علانية وهذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة.
وقد يقوى العمل, ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعد أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة.
قال ابن عباس: إن للحسنة ضياء في الوجه ونورًا في القلب وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب ووهنًا في البدن ونقصًا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق، وقال عثمان بن عفان: ما عمل رجل عملا إلا ألبسه الله -تعالى- بردائه، إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر، وهذا أمر معلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم، حتى إن الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة, وإن لم يمس طيبًا فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه، والفاجر بالعكس والمزكوم الذي أصابه الهوى لا يشم لا هذا ولا هذا, بل زكامه يحمله على الإنكار، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ([1]) .
([1]) من الوابل الصيب المختصر.
قوله: «وأمركم بالصدقة, فإن مثل ذلك مثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه, فقال: أنا أفدي نفسي منكم بالقليل والكثير, ففدى نفسه منهم».
هذا أيضًا من الكلام الذي برهانه وجوده ودليله وقوعه، فإن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء, ولو كانت من فاجر أو ظالم بل من كافر, فإن الله -تعالى- يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء, وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض كلهم مقرون به؛ لأنهم جربوه.
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصدقة تطفئ غضب الرب, وتدفع ميتة السوء, وكما أنها تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى, فهي تطفئ الذنوب الخطايا كما يطفئ الماء النار».
وفي الترمذي عن معاذ بن جبل قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, فأصبحت يومًا قريبًا منه, ونحن نسير فقال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار, وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين» ثم تلا ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ وفي بعض الآثار باكروا بالصدقة, فإن البلاء لا يتخطى الصدقة.
وفي تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمن قدم؛ ليضرب عنقه, فافتدى نفسه منهم بماله كفاية، فإن الصدقة تفدي العبد من عذاب الله تعالى، فإن ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكه فتجيء الصدقة تفديه من العذاب, وتفكه منه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد: «يا معشر النساء, تصدقن, ولو من حُلِيِّكُنْ, فإني رأيتكن أكثر أهل النار» وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار.
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلى النار تلقاء وجهه فاتقوا النار, ولو بشق تمرة».
وفي حديث أبي ذر أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار قال: «الإيمان بالله» قلت: يا نبي الله, مع الإيمان عمل قال: «أن ترضخ مما خولك الله، أو ترضخ مما رزقك الله» قلت: يا نبي الله, فإن كان فقيرًا لا يجد ما يرضح قال: «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر» قلت: إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال: «فليعن الأخرق» قلت: يا رسول الله, أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع قال: «فليعن مظلومًا» قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مظلومًا. قال: «ما تريد أن تترك في صاحبك من خير ليمسك أذاه عن الناس» قلت يا رسول الله أرأيت إن فعل هذا يدخل الجنة قال: «ما من مؤمن يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى أدخلته الجنة» ذكره البيهقي في كتاب شعب الإيمان.
وقال عمر بن الخطاب: ذكر لي أن الأعمال تتباهى؛ فتقول الصدقة: أنا أفضلكم.
وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾.
وكان عبد الرحمن بن عوف – سعد بن أبي وقاص – يطوف بالبيت, وليس له دأب إلا هذه الدعوة: رب قِنِي شحَّ نفسي، رب قِنِي شحَّ نفسي، فقيل له: أما تدعو بغير هذه الدعوة، فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد أفلحت.
والفرق بين الشح والبخل: أن الشح هو شدة الحرص على الشيء والإخفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله وجشع النفس عليه، والبخل: منع إنفاقه بعد حصوله وحبه وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله, فالبخل ثمرة الشح، والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس فمن بخل فقد أطاع شحه، ومن لم يبخل فقد عصى شحه ووقى شره، وذلك هو المفلح: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ والسخي قريب من الله, ومن خلقه وأهله، وقريب من الجنة، وبعيد عن النار، والبخيل بعيد من الله -تعالى- بعيد من خلقه بعيد من الجنة قريب من النار، فجود الرجل يحببه إلى أضداده, وبخله يبغضه إلى أولاده.
ويستره عنهم جميعًا سخاؤه
تغطَّ بأثواب السخاء فإنني
أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه
وقارن إذا قارنت حرًا فإنما
يزين ومن يرى بالفتى قرناؤه
واقلل إذا ما استطعت قولا فإنه
إذا قل قول المرء قل خطاؤه
إذا قل مال المرء قل صديقه
وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وأصبح لا يدري وإن كان حازما
أقدامه خير له أم وراؤه
إذا المرء لم يختر صديقًا لنفسه
فناديه في الناس هذا جزاؤه
وحد السخاء: بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة.
وإذا كان السخاء محمودًا, فمن وقف على حده سمي كريمًا, وكان للحمد مستوجبًا, ومن قصر عنه كان بخيلا, وكان للندم مستوجبًا.
فأشرفهما: سخاؤك عما بيد غيرك.
والثاني: سخاؤك ببذل ما في يدك؛ فقد يكون الرجل من أسخى الناس, وهو لا يعطيهم شيئًا؛ لأنه سخى عما في أيديهم، وهذا معنى قول بعضهم: السخاء أن تكون بمالك متبرعًا, وعن مال غيرك متورعًا.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: أوحى الله إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم: أتدري لِمَ أتخذتك خليلا؟ قال: لا. قال: لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ.
وهذه صفة من صفات الرب جل جلاله, فإنه يعطي ولا يأخذ, ويطعم ولا يطعم، وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، وأحب الخلق إليه من اتصف بمقتضيات صفاته, فإنه كريم يحب الكريم من عباده، وعالم يحب العلماء, وقادر يحب الشجعان، وجميل يحب الجمال. وفي الصحيح: أن الله -تعالى- وتر يحب الوتر، وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء, وإنما يرحم من عباده الرحماء, وهو ستير يحب من يستر على عباده، وعفو يحب من يعفو عنهم، وغفور يحب من يغفر لهم، ولطيف يحب اللطيف من عباده, ويبغض اللفظ الغليظ القاسي الجعظري الجوَّاظ, ورفيق يحب الرفق، وحليم يحب الحلم، وبر يحب البر وأهله, وعدل يحب العدل، وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده، ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجودًا وعدما فمن عفا عفا عنه، ومن غفر غفر له، ومن سامح سامحه، ومن رفق بعباده رفق به، ومن رحم خلقه رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليه, ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه، ومن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره, ومن شاق شاق الله -تعالى- به, ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه, ومن عامل خلقه بصفة عاملة الله -تعالى- بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة؛ فالله -تعالى- بعبده على حسب ما يكون العبد خلقه، ولهذا جاء في الحديث: «من ستر مسلمًا ستره الله -تعالى- في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله -تعالى- عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله -تعالى- حسابه, ومن أقال نادمًا أقال الله -تعالى- عثرته، ومن أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله -تعالى- في ظل عرشه» لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر ونجاة من حر المطالبة وحرارة تكلف الأداء مع عسرته وعجزه نجاه الله -تعالى- من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش.
وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يومًا: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه, ولو في جوف بيته، فكما تدين تدان، وكن كيف شئت, فإن الله -تعالى- لك كما تكون أنت له ولعباده».
ولما أظهر المنافقون الإسلام, وأسروا الكفر أظهر الله -تعالى- لهم يوم القيامة نورًا على الصراط, وأظهر لهم أنهم يجوزون الصراط, وأسر لهم أن ينطفئ نورهم، وأن يحال بينهم وبين الصراط من جنس أعمالهم، وكذلك من يظهر للخلق خلاف ما يعلمه الله فيهن, فإن الله -تعالى- يظهر له في الدنيا والآخرة أسباب الفلاح والنجاح والفوز ويبطن له خلافها، وفي الحديث: «مَن راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به».
والمقصود: أن الكريم المتصدق يعطيه الله ما لا يعطي البخيل الممسك ويوسع عليه في ذاته وخلقه ورزقه ونفسه وأسباب معيشته جزاء له من جنس عمله([1]) .
([1]) من الوابل الصيب باختصار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأمركم أن تذكروا الله -تعالى- فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى إلى حصن حصين, فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى» فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقيًا بالعبد أن لا يفتر لسانه عن ذكر الله -تعالى- وأن لا يزال لَهِجًا بذكره، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، فهو يرصده فإذا غفل وثب عليه وافترسه، وإذا ذكر الله -تعالى- أخنس عدو الله -تعالى- وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع([1]) وكالذباب، ولهذا سمي الوسواس الخناس أي: يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله -تعالى- خنس أي: كُفَّ وانقبض، قال ابن عباس: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس فإذا ذكر الله -تعالى- خنس.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة أنه بلغه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل» وقال معاذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم » قالوا: بلى يا رسول الله قال: «ذكر الله عز وجل».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له: جمدان, فقال: «سيروا هذا جمدان سبق المفردون» قيل: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات».
وفي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله -تعالى- فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار, وكان عليهم حسرة».
وفي رواية الترمذي: ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه, ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة, فإن شاء عذبهم, وإن شاء غفر لهم.
وفي صحيح مسلم عن الأغر أبي مسلم: قال أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة, وذكرهم الله فيمن عنده».
وفي الترمذي عن عبد الله بن بشر أن رجلا قال: يا رسول الله, إن أبواب الخير كثيرة, ولا أستطيع القيام بكلها, فأخبرني بما شئت أتشبث به, ولا تكثر علي فأنسى.
وفي رواية: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي, وأنا قد كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى».
وفي الترمذي أيضًا عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرا» قيل يا رسول الله، ومِن الغازي في سبيل الله؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى يتكسر ويختضب دمًا كان الذاكر لله -تعالى- أفضل منه درجة».
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يذكر ربه, والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة».
وفي الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة قال: «حلق الذكر».
وفي الترمذي أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله -عز وجل- أنه يقول: «إن عبدي كُلَّ عبدي الذي يذكرني وهو مُلاقٍ قِرْنَه».
وهذا الحديث, وهو فصل الخطاب في التفضيل بين الذاكر والمجاهد، فإن الذاكر المجاهد أفضل من الذاكر بلا جهاد والمجاهد الغافل، والذاكر بلا جهاد أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى، فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون.
وقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ فأمرهم بالذكر الكثير والجهاد معًا؛ ليكونوا على رجاء من الفلاح.
وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾.
وقال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ أي: كثيرًا, وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ ففيه الأمر بالذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه وعدم استغائة عنه طرفة عين, فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله -عز وجل- كانت عليه لا له, وكان خسرانه فيها أعظم مما ربح في غفلته عن الله.
وقال بعض العارفين: لو أقبل عبد على الله -تعالى- كذا وكذا سنة ثم أعرض عنه لحظة لكان ما فاته أعظم مما حصله.
وذكر البيهقي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله -تعالى- فيها إلا تحسر عليها يوم القيامة».
وذكر عن معاذ بن جبل يرفعه أيضًا: ليس تحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -عز وجل- فيها.
وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا أمرا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكر الله عز وجل».
وعن معاذ بن جبل قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أحب إلى الله -عز وجل- قال: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل».
وقال أبو الدرداء رضي الله -تعالى- عنه لكل شيء جلاء, وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل.
وذكر البيهقي مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «لكل شيء صقالة, وإن صقالة القلوب ذكر الله عز وجل، وما من شيء أنجى من عذاب الله -عز وجل- من ذكر الله عز وجل» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: «ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع».
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر, فإنه بجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صدئ فإذا ذكر جلاه.
وصدأ القلب بأمرين بالغفلة والذنب وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ مترًا كما على قلبه، وصدأه بحسب غفلته, وإذا صدأ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه, فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا, ولا ينكر باطلا, وهذا أعظم عقوبات القلب.
وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى, فإنهما يطمسان نور القلب, ويعميان بصره، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر.
هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين، وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي، فإن كان الحاكم عليه هو الهوى, وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطًا، ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلزمه, ويقوم به, وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرَّط فيه، وفسر بالإسراف، أي: قد أفرط، وفسر بالإهلاك, وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كذلك فليبعد عنه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله -عز وجل- واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره, فليستمسك بغرزه، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر، فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت. وفي المسند مرفوعًا: «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون»([2]) .
([1]) الوصع طائر أصغر من العصفور.
([2]) من الوابل الصيب.