(يَاأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُواْاتَّقُواْاللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَتَمُوتُنَّ إِلاَّوَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)([1])[سورة آل عمران، الآية: 102]. (يَاأَيُّهَاالنَّاسُ اتَّقُواْرَبَّكُمُ الَّذِ ي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍوَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَاوَبَثَّ مِنْهُمَارِجَالاًكَثِيرًاوَنِسَاءوَاتَّقُواْاللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)([2])[سورة النساء،الآية:1]. (يَاأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوااتَّقُوااللَّهَ وَقُولُواقَوْلًاسَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْفَازَفَوْزًاعَظِيمًا)([3])[سورة الأحزاب، الآية: 70].
أما بعد:
فإن الحديث عن القلب وامتحانه وابتلائه حديث بالغ الأهمية في وقت قست فيه القلوب، وضعف فيه الإيمان، واشتغل فيه بالدنيا، وأعرض الناس عن الآخرة.
ونحن نرى في هذا العصر تطورا هائلا في جراحة القلب البشري، حتى كان من آخر ذلك ما نسمع عن زراعة القلب ونقله مع الدقة المتناهية في تحديد الأمراض الحسية التي تنتـاب القلب، وبيان طرق معـالجتهـا وتشخيصها. ولن أتحدث هنا عن الأمراض الحسية، وما ينتاب هذا القلب من أدواء.
لكنني سأتحدث عما يعرض لهذا القلب خلال سيره إلى الله من امتحانات وابتلاءات وما علامات صحته وعلته؟ وما مواطن الابتلاء والامتحان لهذا القلب؟
وسوف أركز خلال الحديث عن القلب على الاستشهاد بكلام الله وكلام رسوله، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الأصل هو الاستقاء من منبع الكتاب والسنة؛ وإنما نصصت على هذا حتى يعلم أن الحديث عن القلب ليس بالأمر الهين ولا السهل، فلا أحد أعلم بأحوال هذا القلب وما ينتابه من خالقه (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)([4])[سورة الملك، الآية: 14]. (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)([5])[سورة طه، الآية: 7]. (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)([6])[سورة غافر، الآية: 19]. ومن أنـزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)([7])[سورة النجم، الآيتان: 3-4].
ولأنبه إلى خطورة دعوى كثير من الناس معرفة المقاصد من أعمال القلوب مما لا يعلمه إلا الله -جل وعلا- وانشغلوا بما نهوا عنه وتكلموا شططا:
(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)([8])[سورة الإسراء، الآية: 36]. وأنى لنا بمعرفة أسرار القلوب وخواطرها:
ومكلف الأشياء فوق طباعها
لماذا الحديث عن القلب
يكتسب الحديث عن القلب أهمية خاصة، لعدة أمور أجملها فيما يأتي:
أولا: أن الله -سبحانه وتعالى- أمر بتطهير القلب، وتنقيته، وتزكيته، بل جعل الله -سبحانه وتعالى- من غايات الرسالة المحمدية تزكية الناس، وقدمها على تعليمهم الكتاب والحكمة لأهميتها، يقول الله -تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)([9])[سورة الجمعة، الآية: 2]. قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)([10])[سورة المدثر، الآية: 4]. جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا: القلب ([11]).
ويقول – سبحانـه وتعالى- عن اليهود والمنافقين: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)([12])[سورة المائدة، الآية: 41].
فهذا سبب بارز ومهم للحديث عن القلب.
ثانيا: أثر هذا القلب في حياة الإنسان فهو الموجه والمخطط، والأعضاء والجوارح تنفذ.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه"القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث القلب خبثت جنوده". ([13]).
ثالثا: ومن الأسباب الجوهرية للحديث عن هذا الموضوع غفلة كثير من الناس عن قلوبهم، فتجد -مثلا- بعض طلبة العلم يتوسع في بحث بعض الأعمال الدقيقة، ويتفقه فيها فقها عجيبا: هل تحريك الأصبع سنة؟ ومتى وكيف يحرك؟… إلخ، والبحث فيها نافع ومهم ولا شك، في حين يغفل البحث في أعـمال القلب وأحوالـه، وأدوائه وعلله، وهذا أهمّ وأجلّ.
رابعا: أن كثيرا من المشكلات بين الناس، وبالأخص بين طلبة العلم، سببها أمراض تعتري القلوب، ولا تبنى على حقائق شرعية، فهذه المشكـلات تترجم أحوال قلوب أصحابها، وما فيها من أمراض مثل: الحسد، والغل، والكـبر، والاحتقار، وسوء الظن… إلخ، وسبيل حلها الأمثل هو علاج هذه القلوب؟ وإلا فالمرض سيظهر بين حين وآخر كلما ظهرت دواعيه.
ونظرة إلى واقع المجتمع، وما يحدث فيه بين الناس من مشكلات اجتماعية، وخصومات في الحقوق والأموال تثبت صحة ذلك.
خامسا: إن سلامـة القلب وخلوصـه سبب لسعـادة الدنيا والآخرة، فسلامة القلب من الغل والحسد والبغضاء وسائر الأدواء سبب للسعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)([14])[سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89]. وانظر إلى حال أبي بكر رضي الله عنهوغيره ممن رزق قلبا سليما، خاليا من الضغائن والعلل.
سادسا: يقول الإمام عبد الله بن أبي جمرة. "وددت أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم؛ فما أتي كثير ممن أتي إلا من قبل تضييع ذلك ([15]).
حيث يبين هذا الإمام أهمية تعليم الناس مقاصدهم في أعـمالهم، وتنبيههم على مفسـدات الأعمال. فإنه كـما أننا نشهد من يتخصص في أنواع العلوم كالحديث والفقه والتفسير والنحو والفرائض وغيرها، فيتقن هذه العلوم، ويبلغها الناس، فنحن بحاجة إلى من يتقن الحديث عن مقامات القلب وأحواله، وأعماله وعلله وأدوائه، فيعلمها الناس ويصحح مقاصدهم ونياتهم.
سابعا: ما أعطي الله لهذا القلب من مكانه في الدنيا والآخرة، وانظر إلى أدلة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-:
1- يقول الله -تعالى- على لسان نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)([16])[سورة الشعراء، الآيات: 87-88-89]. فلن ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم.
2- يقول -جل وعلا-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)([17])[سورة ق، الآية: 31]. فأين القلب المنيب وما صفته؟
3- وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهقال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم" إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "([18]).
4- وفي الصحيحين من حديث النعمان من بشير رضي الله عنهمرفوعا: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب "([19]).
وكفى بهذا الحديث واعظا وزاجرا، وعبرة لأولي الألباب.
ثامنا: أن أقوال القلب -وهي تصديقاته وإقرارته-، وأعماله وحركاته من: خوف ورجاء ومحبة وتوكل وخشية وغيرها. هي أعظم أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة، وبتخلفها يتخلف الإيمان. وها هم المنافقون يقولون الشهـادة بألسنتهم، ويشـاركـون المسلمـن في أعـمالهم الظاهرة، ولكنهم بتخلف إقرارهم وتصديقهم كانوا (فِي الدَّرْكِالأَسْفَلِ مِنَالنَّارِوَلَنتَجِدَلَهُمْنَصِيرًا)([20])[سورة النساء، الآية: 145].
تاسعا: أن كثيرا من الناس جعلوا جل همهم تفسير مقاصد الناس، وتحميل تصرفاتهم ما لا تحتمل، وتجاهل الظاهر، وترتيب الأحكام على تنبؤ عمل القلوب، مما لا يعلمه إلا علام الغيوب، والغريب أن هناك من يعتبر هذا الأمر ذكاء وفراسة وفطنة، وليس هو من الفراسة الشرعية في شيء. فنحن مأمـورون أن نؤاخـذ الناس بظواهرهم ونكـل سرائرهم إلى الله.
وأخيرا: إذا كـانت هذه مكـانة القلب وأهميته. فهلا وقفنا مع أنفسنا لننظر كيف عملنا بقلوبنا، بل ماذا عملت بنا قلوبنا.
كم ننشغل في أشياء كثيرة من أمور دنيانا ومعاشنا ووظائفنا، وإذا بقي لنا شيء من الاهتمام أعطيناه لأعمالنا الظاهرة.
وأما هذا القلب فقليل منا من ينظر إليه، ويعطيه الاهتمام اللائق به، وعسى أن يكون فيما سبق من ذكر أهمية القلب وأثره في حياة الإنسان ما يدعونا إلى مراجعة هذا القلب، وإعطائه المكانة اللائقة به.