تخطى إلى المحتوى

القول الرشيد في أهم أنواع التوحيد 2024.

  • بواسطة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده وستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الله جل وعلا ما أرسل الرسل ، ولا أنزل الكتب إلا ليعبد وحده لا شريك له ، ويفرد بجميع أنواع العبادة ، من : خوف ، ورجاء ، وتوكل ، ورغبة ، ورهبة ، وخشية ، وإنابة ، ونحو ذلك من أنواع العبادات التي أمر الله بها عباده ، وفرضها عليهم .
قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56].
وقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء .. } [ البينة : 5] .
وحقيقة الإخلاص إفراد الله بالعبادة وتصفية الأعمال من الشوائب المكدرة لها.
وقال تعالى:- { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ – أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [ هود: 1 – 2 ].
والقرآن كله من فاتحته إلا خاتمته يبين التوحيد ويوضحه، فلا تمر بآية من كتاب الله إلا وفيها ما يدل على التوحيد ، فهو: أوجب الواجبات، وأهم المهمّات، ومن ثمّ كان أوّل أمر في كتاب الله: الأمر بالتوحيد.
قال تعالى:- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة: 21 ]. وأوّل نهي في كتاب الله: النهي عن الشرك.
قال تعالى:- { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 22 ].

ولو لقى الله العبدُ بأعمال أمثال الجبال ، من: صلاة ، وزكاة ، وصوم ، وحج ، وصدقة ، وليس معه توحيد لما قبله الله منه ، ولجعل أعماله هباءً منثوراً ؛ لأنّه لم يأت بما يدخل به في الإسلام . ويخلص به من الشرك.
وقد أُمر النبيُّ – – صلى الله عليه وسلم – – بأن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، كما جاء ذلك عنه في " الصحيحين " وغيرهما من حديث واقد بن محمّد ابن يزيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – .
فمن دعي للدخول في الإسلام ولم يستجب لداعي الله فقتاله أمرٌ واجبٌ إلاّ أن يعطي الجزية حتى لا يبقى مشرك على ظهر الأرض له سلطان، ويكون الدين كله لله.
قال تعالى:- { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة: 193 ]. أي: شرك ، { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } .
فما دام الشرك موجوداً وغير الله يعبدُ فالقتال باقٍ، وعلى هذا قامت دعوة سيد المرسلين، المبعوث لمحق الشرك، وقمع المشركين، ونشر راية التوحيد، الذي هو: إفراد الله بالعبادة دون تنديد به.

وفي " صحيح مسلم " من طريق عكرمة بن عمّار، حدثنا: شداد ابن عبد الله، ويحيى بن أبي كثير عن أبي أمامة قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أنّ الناس على ضلالة وأنّهم ليسوا على شيء ، وهم يعبدون الأوثان ، فسمعت برجلٍ بمكة يخبر أخباراً فقعدتُ على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله – – صلى الله عليه وسلم – – مستخفياًَ جرآءُ عليه قومه، فتلطّفت حتى دخلت عليه بمكة
فقلت له : ما أنت ؟ …
قال : أنا نبي .
فقلت : وما نبي ؟
قال : أرسلني الله .
فقلت : وبأي شئ أرسلك ؟
قال : أرسلني بصلة الأرحام , وكسر الأوثان , وأن يوحّد الله لايشرك به شئ … " وعلى هذا أُسست دعوة المرسلين .

والناصح لنفسه يتدبر هذا الحديث ويبني قواعد دعوته عليه , ولا يظنه في قوم كانوا فبانوا , فطالما عطل هذا الظن نصوصاً من الواضحات المحكمات , وأوقع في فخ الجهالات , وصدّ عن معرفة العبر المذكورات في الآيات والبراهين المحكمات .
فقوله : " وأن يوحد الله " وذلك يكون بصرف جميع أنواع العبادات لله وإخلاصها له .
وقوله : " لايشرك به شئ " يقتضي منع دعوة غيره معه ؛ لأن الشرك يفسد العبادة ويحبط العمل , وسواء أشرك مع الله نبياً أو ملكاً أو ولياً أو قبراً أو غير ذلك .
قال تعالى : { وَاْعْبُدُواْ اْللهَ وَ لاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [ النساء : 36]
وجميع الرسل من أولهم نوح إلى آخرهم محمد – – صلى الله عليه وسلم – – يفتتحون دعوتهم لقومهم بـ " اعبدوا الله مالكم من إله غيره " . قال نوح – – عليه السلام – – : { قَالَ يَاقَوْمِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ . أَن اْعْبُدُواْ اْللهَ وَاْتَّقُوهُ وَأَطِيعُون … } الآية[ نوح : 2 -3 [
والعبادة تتضمن جميع مايأمر الله به من : الأقوال , والأفعال .
وأعظم شئٍ أمر الله به : إفراده بالعبادة دون ما سواه .
و لايستكبر عن هذه العبادة إلا جاحد معطل مستكبر كـ " فرعون "
وأمثاله من الجاحدين المعطلين , القائلين على الله مالا يعلمون .
ولا ينجو العبد من شبكة الشرك إلا بتوحيد الله تعالى , ومتابعة رسوله
– – صلى الله عليه وسلم – – فإن هذين الأصلين عليهما النعيم والعذاب .
وقال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأعراف : 59 ] .
وقال تعالى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [الأعراف : 65 ] .

وقال تعالى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ … } [الأعراف : 72] .
وقال تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ … } [الأعراف : 85] , [هود : 84 ] .
وقال تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّا ً – إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً – يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً – يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً – يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } [مريم : 45]
وكل من اتبع غير سبيل الرحمن فقد استحوذ عليه الشيطان ، وصار وليا له : يؤزه أزا نحو الكفر ، وعبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن عابديها شيئا.
وقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ – إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ – قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ – قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ – قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ – قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }

وفي((مسند الإمام أحمد)) بسند حسن(2/50) ، من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ثنا حسان بن عطيه عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر قال : قال رسول الله — صلى الله عليه وسلم –: ((بعث بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم )) .
قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25]
ولا إله إلا الله :كلمة التوحيد المنجية من عذاب رب العبيد ، وهي مفتاح دعوة الرسل ، ومفتاح الجنة ، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال ، وهي الفارقة بين المسلمين والكافرين ، وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل في عقبة إلى يوم الدين.
وفي((مسند الإمام أحمد)) بسند صحيح(4/63)،من طريق شيبان عن أشعث بن أبي الشعثاء ، قال : حدثني شيخ من بني مالك ابن كنانة ، قال:رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسوق ذي المجاز يتخللها يقولالقعدة(يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))
فعلق النبي ـ – صلى الله عليه وسلم – ـ الفلاح بقول (لا إله إلا الله) أي : مع العمل بمقتضاها ومادلت عليه من : النفي والإثبات . فـ(لا إله) تنفي جميع ما يعبد من دون الله ، و(إلا الله) تفرد الله وحده بالعبادة ، وكما أنه متفرد في ملكه وتدبيره يجب أن يفرد بالعبودية ، من : خوف ، ورجاء ، ومحبة ، وخضوع ، ونحو ذلك من العبادات التي أمر الله بها فلا تعبد غير الله : ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وأفرد ربا صمدا حيا قيوما في جميع عباداتك.

قال تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ – إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:13،14].
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ – أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ الأعراف :194،195]
وقد خالف عباد القبور من أهل هذا الزمان وقبله ما دلت عليه هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وصرفوا جل العبادات للأموات وغيرهم : ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن عابده وداعيه . وتراهم يتفاضلون عن معبوداتهم من دون الله ، والويل ثم الويل لمن نهاهم عن عبادتهم غير الله . وتراهم يخلصون العبادة رجاء وشدة لأوثانهم ومعبوداتهم ، يسألونهم : كشف الكروب والخطوب ، وقضاء الحاجات ، وكشف الملمات ، فجاؤوا بالشرك الصريح ، وجعلوا ما أمر الله به من التوحيد هو الشرك ، وما نهى عنه من الشرك هو التوحيد .
وهذا حال عباد القبور اليوم عند البدوي والجيلاني وغيرهما فقد هدموا التوحيد ، وأتوا بالشرك الصريح من دعائهم غير الله ، وصرفهم خالص حق الله لهم . . . فترى الرجال والنساء ركعا سجدا عند قبورهم يبكون .
فنسأل الله أن يهدينا ولا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، فإن هذا هو الشرك الصريح الجلي : الذي لايغفره الله إلا بالتوبة.
فصل :

التوحيد أساس الدين ، وهو أول شيء فرضه الله على عباده ، وهو أسنى المطالب ، وبالتوحيد تطمئن القلوب ، وتنشرح الصدور ، ويتميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان . وعلى حسب كمال توحيد العبد : تكون ولاية الله له . فإن الناس يتفاوتون في التوحيد وتحقيقه .
وحرص السلف على تحقيق التوحيد ، وتخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي أمر مستفيض عند العلماء وطلبة العلم .
ولا يوجد تحقيق االتوحيد إلا في أهل الصدق والإيمان .
وأكمل الخلق توحيدا وتحقيقا له : الأنبياء والمرسلون ، فإنهم قد حققوه بفعل الأوامر ، وترك النواهي : من الشرك والبدع والمعاصي .
ومن ادعى أنهم لم يحققوا توحيدهم ، أي : لم يخلصوه من الشرك والبدع والمعاصي ، فقد خلع الإسلام من عنقه ، وارتدى لباس الكفر والنفاق ، لأن دعوة الرسل قائمة على : هدم الشرك ، وإبطال البدع . فرميهم بعدم معرفة التوحيد ، أو بعدم تحقيقه : كفر لتكذيبه القرآن المصرح بأنهم بعثوا لقمع الشرك وللدعوة إلى التوحيد . فكيف يدعون إلى التوحيد وهم لا يعرفونه ؟ هذا من أعظم التنقص لهم .
فالله المستعان .
واعلم : أنه بحسب توحيد العبد ، وكمال تحقيقه : يكون انشراح صدره . فإن التوحيد أعظم الأسباب الجالبة لانشراح الصدر واتساعه ، فإنه كلما قوي توحيد العبد ، زاد انشراح صدره . وبنقصه ينقص .
وأما الشرك فهو أعظم الأسباب الجالبة لضيق الصدر وحرجه ، لأن المشرك عدل بالله غيره ، وتنقص ربه ومعبوده أعظم التنقص ، إذ سوى به غيره : ممن لا يملك جلب نفع لنفسه فضلا عن غيره ، ولا يستطيع دفع ضر عن نفسه ، فكيف يدفعه عن غيره ؟
وكلما بعد الناس عن عهد النبوة كثر الجهل فيهم .
والشر كله عائد إلى الجهل بالله وبعظمته ، فإذا كثر الجهل وعم ؛ كثر الإشراك بالله ، وكثرت البدع والمنكرات ، والأمور المكفرات لبعدهم وإعراضهم عن تعلم الدين .

وفي الصحيحين وغيرهما عن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهلا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) .
فذهاب العلماء العاملين من أسباب ظهور الجهل وضلال العباد . وأما العلماء الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة فوجودهم من أسباب الفساد في الأرض ، وكثير ما هم .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ … } [التوبة : 34 ].
فهذه الآية فيها خبر من الله تعالى بأن كثيرا من الأحبار : وهم العلماء والرهبان ، وهم العباد ليأكلون أموال الناس بالباطل بتساهلهم في التحليل والتحريم طلبا للعاجل ، فيحملون النصوص مالا تحتمل إرضاء للرؤساء والزعماء ، ومحافظة على مناصبهم ورياستهم وهم مع ذلك يصدون عن سبيل الله ، ويلبسون الحق بالباطل ، وهذا حال علماء السوء ، وهذه صفتهم .
وكثير ممن يعبد غير الله ، ويركع ، ويسجد ، وينحر ، وينذر ، ويصرف معظم العبادات لغير الله من الأموات وغيرهم ؛ يحصل له هذا الشرك بسبب علماء السوء الفجار الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله ، فجعلوا الفتيا الفاجرة المبنية على الجهل الصرف ، والمراغمة والمحادة لله ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – . سلما لنيل شهواتهم .
وفي هؤلاء وأمثالهم من علماء السوء يقول الرب جل وعلا :

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأعراف : 169]
فهذه الآية فيها بعض صفات علماء السوء ، ولا ينبئك مثل خبير .
فيجب الحذر منهم ؛ لأنهم لا همة لهم في القيام بأمور الدين والنهي عن ما يضاد أصل الدين ، وضلال كثير من العوام الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام على أيديهم فهم قاعدون على كل صراط مستقيم فإنا لله وإنا إليه راجعون .
( فصل )
التوحيد ثلاثة أنواع :
1- توحيد الربوبية .
2- وتوحيد الإلهية .
3- وتوحيد الأسماء والصفات .
فتوحيد الربوبية : هو الإقرار والاعتراف بأن الله هو : الخالق ، الرازق ، المدبر . وهذا التوحيد أقر به مشركو العرب ، ولم يدخلهم في الإسلام .
قال تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ لقمان :25]
وقال تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ يونس : 31 ]
والإقرار بوجود الله والاعتراف بأنه الخالق الرازق المدبر لا يكفي
في دخول العبد في الإسلام . فإن كثيرا من المشركين يقرون بتوحيد الربوبية ، ومع ذلك لم يدخلهم في الإسلام لعدم إذعانهم لتوحيد العبادة ، وقاتلهم النبي — صلى الله عليه وسلم –، واستحل دماءهم وأموالهم . وكثير من الناس يظن أن توحيد الربوبية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل، وأنهم إذا أثبتوه فقد وحدوا الله حق التوحيد . وهذا خطأ ظاهر ، و لذلك يعبدون غير الله ، ومع ذلك يزعمون أن فعلهم ليس بشرك إنما الشرك إذا جعلت خالقا مدبرا مع الله. وهذا الجهل بالتوحيد أرداهم وجعلهم يشركون بالله شركا جلياً.
ومعلوم قطعا أن الخصومة بين الرسل وقومهم ليست في توحيد الربوبية لأنهم كانوا مقرين به إنما هي في توحيد الإلهية : وهو النوع الثاني من أنواع التوحيد .
وهو: إفراد الله بالعبادة فلا يشرك مع الله أحد . ومن عرف التوحيد الذي أرسلت به الرسل ، وأنزلت من أجله الكتب : عرف ما عليه الكثير من إضاعتهم له ، وإهماله جانبه ، وجهل الكثير بحقوقه .
وقد يظن بعض الناس أنه إذالم يعبد صنما ولم يسجد لغير الله فهو موحد مهتدي وإن عمل ما عمل ، وهذا جهل اصطاد به الشيطان كثيرا من العباد ، فأوقعهم بالمكفرات من حيث لا يشعرون .
فإن التوحيد ليس التخلي عن عبادة غير الله من الأصنام والأوثان ، بل لابد من التخلي عن جميع العبادات التي يراد بها غير الله والبراءة منها ومن أهلها ، وإخلاص جميع العبادات لله.
فإن العبد مأمور بتوحيد الله والبراءة من كل معبود سوى الله ، فلو عبد الله ولم يكفر بما يعبد من دون الله ،لم يكن متمسكا بالعروة الوثقى قال تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ } [البقرة:256]

ومن لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهي لا إله إلا الله بل تخلى عنها وأهملها وأضاع حقوقها ولم يكن معصوم الدم والمال . وفي ((صحيح مسلم)) من طريق مروان الفزاري عن أبي مالك سعد بن طارق عن أبيه قال : سمعت رسول الله – – صلى الله عليه وسلم – -يقول: (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )).
قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – على هذا الحديث في كتاب التوحيد :
( وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك بل كونه لا يدعو إلا الله وحده لاشريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه . فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها ، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع ).
والبراءة من كل معبود سوى الله قد أضيعت حقوقه في هذا الزمان عند الكثير ، وأهمل جانبه ، ونقضت عراه ، وهذا من عموم الجهل بتوحيد العبادة الذي أرسل الله به الرسل ، وأنزل به الكتب . فإن أصل الدين : إفراد الله بالعبادة ، والبراءة من كل معبود سوى الله . وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، وهذه ملة إبراهيم التي من رغب عنها فقد سفه نفسه .
قال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة : 4 ].

وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ – إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ – وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف :28]
والكلمة التي جعلها الخليل – عليه السلام – باقية في عقبه هي : البراءة من كل معبود سوى الله ، وإفراد الله بالعبادة ، وهذا معنى : لا إله إلا الله .
ومن أنواع العبادات التي أمر الله بإخلاصها له – سبحانه – ، وقد عم الجهل بها :
(( الذبح )) : فإن الذبح لله عبادة من أجل العبادات وأعظمها .
قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر :2]
وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام :162] . والنسك هو الذبح .
فإذا تبين أن الذبح عبادة : فصرف هذه العبادة لغير الله شرك .
وفي ( صحيح مسلم ) من طريق منصور بن حيان حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة عن علي بن إبي طالب – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( لعن الله من لعن والده ، ولعن الله من ذبح لغير الله … ) الحديث .
وقد كثر الذبح لغير الله في هذا الزمان لعموم الجهل بتوحيد العبادة ، حتى إنك تسمع بمن يذبح لطلعة السلطان تعظيما له ، وبعض الجهلة عندما ينزل منزلا ينسك نسيكة للجن لئلا يصاب
بمكروه ما دام في البيت كما يزعم ، ولم يعلم هذا الجاهل المندد أنه لا يدفع الضر إلا الله .
ولو اجتمع الإنس والجن على أن يصيبوا عبدا بمكروه لم يرده الله لم يستطيعوا ذلك .

قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر :38]
وفي جامع الترمذي من طريق الليث بن سعد قال : حدثني قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك . رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ) .
قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
ومن العبادات التي أمر الله بها ( الدعاء ) : فإنه عبودية عظيمة ، وهو من أعظم الأسباب وأقواها لجلب المنافع ، ودفع المضار ، والداعي يظهر فاقته واحتياجه لربه .
وقد أخبر الله جل وعلا عن الكفار أنهم في الشدائد يدعون الله مخلصين له الدين .
قال تعالى { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت :65]
ودعاء الله عبادة من أجل العبادات .
وقد أمر الله عباده بدعائه فقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر :60]
وقال تعالى { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة : 186]

وروى الترمذي في جامعه من طريق الأعمش عن ذر بن عبدالله عن يسيع عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( الدعاء هو العبادة ثم قرأ : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
قال الترمذي عقبه : هذا حديث حسن صحيح .
ورواه الترمذي من حديث أنس بلفظ : ( الدعاء مخ العبادة ) .
وسنده ضعيف .
وفي الحديث : ( إذا سألت فاسأل الله ) .
رواه الترمذي من حديث ابن عباس- رضي الله عنه وسنده حسن : وقد خالف عباد القبور هذه النصوص الصريحة في أن الدعاء لايصرف إلا لله وصرفوه للأموات والغائبين فتراهم يدعونهم كأنهم يسمعون ويستنجدون بهم كأنهم حاضرون قادرون .
وقد أبطل الله في كتابه دعاءهم وأدحض شبههم ولكن عباد القبور لا يسمعون ولا يعقلون. قال تعالى: { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [الفرقان:44]
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ – إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر:13،14].
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } [الحج:73].

وطلب الحاجات من الموتى سواء كانوا أنبياء أو صالحين فضلا عن غيرهم وسؤالهم الشفاعة وطلب الإعانة منهم والاستعانه والاستغاثة بهم وسؤالهم غفران الذنوب وتفريج الكروب كل ذلك داخل في دعاء غير الله وكله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبه .
قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [النساء :48].
وقال تعالى: { َوَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون :117].
وقال تعالى : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج : 31].
ومن عرف التوحيد علم أن مشركي زماننا أشد بكثير من شرك الذين نزل القرآن ببيان شركهم فمشركو زماننا لا ينثنون عن عبادة غير الله لا في الرخاء ولا في الشدة وجعلو أوثانهم ومعبوداتهم من دون الله شركاء وشفعاء مع الله . فالعقيم من الرجال والنساء تجدهم يتضرعون عند قبر الميت كي يهبهم ولدا وكأنه الخالق الرازق المدبر .
وعند الكربات والشدائد والمصائب يشتد تضرعهم للأموات ، وأما التضرع لله وحده لا شريك له فليس لهم منه نصيب .
وأما المشركون الذين نزل القرآن ببيان شركهم فقد أخبر الله عنهم كما تقدم بأنهم يدعونه في الشدة ويشركون في الرخاء فأي الشركين أعظم ؟ وكلاهما متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون .
ومن أنواع العبادة التي شرعها الله لعباده ، وأمرهم بالقيام بها ( التوكل ) فإنه عبادة من أفضل العبادات ، وفريضة من آكد الفرئض .
وأعلى الناس مقاما في التوحيد أكملهم توكلا على الله . والتوكل من الأعمال القلبية كما قاله الإمام أحمد – رحمه الله – .وقد أمر الله به في كتابه في مواضع كثيرة وأخبر أنه يحب المتوكلين .
قال تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123].
وقال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان : 58].
وقال تعالى : { وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة : 23].
وقال تعالى { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران : 159].وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب : ( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) .
وفي جامع الترمذي وغيره بسند صحيح عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) .
وقد عم الجهل في هذا الزمان بحقيقة التوكل على الله ، ولم يعرف منه الكثير إلا الاسم ، وتوكلوا على غير الله إما على الأموات والطواغيت كمن يتوكل عليهم في الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد وكشف البأس وجلب النفع ، وإما على السلاطين وأصحاب المناصب والوظائف في طلب الرزق . ويدخل في ذلك من يتوكل على الشهادة الدراسية في طلب الرزق .
والله جل وعلا لم يرسل رسله ، ولم ينزل كتبه ، إلا ليكون الدين كله لله ، فلا يعبد إلا الله ، ولا يدعى إلا الله ، ولا يتوكل إلا على الله .
وعلى حسب نقص توكل العبد على ربه ؛ ينقص توحيده ، وعلائق الشرك لا تنفك عن القلب الذي لم يخلص توكله لربه .
وما يحصل من الضيق في الصدر والحرج كله بسبب نقص وضعف التوكل على الله ، قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – :

( لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده . بل حقيقة التوكل توحيد القلب . فما دامت فيه علائق الشرك ، فتوكله معلول مدخول . وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه . فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة .
ومن ههنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب . وهذا حق ولكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح . فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها فيكون منقطعا منها متصلا بها ) مدارج السالكين (2/125) .
وبالجملة فالقلب يجب عليه أن لا يتوكل إلا على الله فهو مرجوه وعياذه وملاذه ، ولا يتوكل أحد على مخلوق إلا لرجائه له .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – : ( وما رجا أحد مخلوقا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه فإنه مشرك ) . الفتاوى (10/257) .
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج : 31].
وبالاعتبار يلاحظ أن كثيرا من الأفراد والجماعات يحصل لهم الخذلان العاجل أمام عدوهم وذلك بسبب عدم توكلهم على ربهم بل يتوكلون إما على شخص معظم وإما على دولة وإما على السبب أو غير ذلك فيتخلف النصر ، وذلك أن الله تعالى أمر عباده بالتوكل عليه فإن قاموا به مع سائر الواجبات ضمن الله لهم النصر والتأييد والفوز والظفر والتمكين في الأرض وإن لم يقوموا به فالخذلان حاصل لهم وهذه سنة الله في عباده فإن الله ينصر من عبده وتوكل عليه وأخلص أعماله له . ويخذل من أشرك به وجعل له شريكا ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا .
ومن أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله : ( النذر ) فإنه عباده لمدح الله للموفين به في قوله : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [الإنسان : 7].

فإذا ثبت كونه عبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر . فمن نذر لغير الله كأن ينذر لنبي أو ولي أو غيرهما كعبدالقادر الجيلاني أو البدوي فهو مشرك شركا أكبر .
وقد عمت البلوى بالنذر لغير الله في هذا الزمان فأريقت الدماء وقربت الذبائح لمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، زاعمين أن لهم بذلك معظم الأجور . وأنى لهم الأجور وقد أتوا بالفجور ، والله تعالى طيب ولا يقبل إلا طيبا .
وهذه الذبائح التي أريقت لغير الله لا يجوز أكلها لأنها مما ذبحت لغير الله .
قال تعالى:-
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام: 121 ].
والمرتد وإن قال على ذبيحته (( بسم الله )) لا تحل ذبيحته ما دام عابداً غير الله صارفاً له جل العبادات من نذرٍ وغيره.
وقد اتّفق المسلمون على أنّ نذر المعصية لا يجوز الوفاء به مع اتفاقهم أيضاً على أنّ نذر الطاعة يجب الوفاء به ، لما روى البخاري في " صحيحه " من طريق طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – – صلى الله عليه وسلم – -: (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )).
وقد اختلف العلماء – رحمهم الله – في نذر المعصية هل تجب فيه كفارة يمين أم لا ، على قولين لأهل العلم ، أظهرهما أنّه تجب فيه كفارةٌ لعموم ما روى مسلم في " صحيحه " من طريق عبد الرحمن بن شماسة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن رسول الله – – صلى الله عليه وسلم – – قال: (( كفّارة النذر كفّارة يمين )).
قال العلاّمة ابن القيّم – رحمه الله -:
( وهذا يتناول نذر المعصية من وجهين:
أحدهما / أنّه عام لم يخص منه نذر دون نذر.
الثاني / أنّه شبّههُ باليمين ومعلوم أنّه لو حلف على المعصية وحنث لزمه كفارة يمين بل وجوب الكفارة في نذر المعصية أولى منها في يمين المعصية ) تهذيب السنن (9/118 – عون المعبود ) .
ومن أنواع العبادة التي أمر الله بصرفها له : الركوع ، والسجود.
قال تعالى:- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج: 77 ].
وقال تعالى:- { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } الآية [ محمّد: 29 ].
فمن ركع أو سجد لغير الله فقد جعل مع الله إلهاً آخر فلا يراد بالركوع أو السجود في شريعتنا إلاّ التعظيم لمن يركع له أو يسجد له ، والتعظيم عبوديةٌ من أجلِّ العبوديّات فمن صرف التعظيم لغير الله فقد صرف خالص حق الله لمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
ومثل الركوع والسجود: الانحناء. فلا ينحني العبد إلاّ لله لأنّه يراد بالانحناء التعظيم . وتعظيم غير الله من أعظم الشرك وأقبحه.
والركوع والسجود والانحناء كل ذلك محض حق الله. وصرفه لغير الله شركٌ في الأفعال.
قال تعالى: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) و ( أحدا ) نكره في سياق النهي فتفيد العموم ، فتعم كل مدعو من دون الله سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا ، فصرف الركوع والسجود والانحناء وغير ذلك من العبادات لغير الله مناف لما بعث الله به محمدا – صلى الله عليه وسلم – وهدم لملة إبراهيم ( عليه السلام ) وتجديد لما اندرس من الشرك وإحياء لملة عمرو بن لحي الذي غير دين إبراهيم وأحيا الشرك .
وأما رفع اليد عند رؤية الرؤساء والأكابر فهذا تشبه بالكافرين .
وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن ، عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال القعدة من تشبه بقوم فهو منهم).
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله ( وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم ، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم ، كما في قوله تعالى: ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) المائدة51.
وأما إن رفع يده ووقف خاشعا خاضعا لمتبوعه فهذا نوع من الشرك بالله وقد وقع في هذا خلائق لا يحصون .
وهذا مصداق لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – القعدة لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال فمن ) .
رواه البخاري ومسلم من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه- به .
وما أعز في هذا الزمان من يعمل بالحق ، بل ما أعز من يعرفه فإن القلوب في هذا الزمان يغلب عليها النفور عن قبول الحق وتحريه، وأدنى شبهه تعرض للقلوب تجدها تلفي إليها ولو كانت الشبه ظاهرة البطلان .
فهم يتشبثون بما هو أوهى من بيت العنكبوت .
وهذا من غربة الدين وتغير أحوال المسلمين .
وقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ( أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ) رواه مسلم (2/175-176، نووي ) من حديث أبي هريرة . ورواه أيضا : (2/176) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما .
وخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – صدق فلا بد من تحققه ووقوعه ، وقد تحقق ما أخبر به فهذا الزمان يشبه أزمان الفترات لقلة من يعرف الحق ويعمل به ، فأصبح المعروف عند الكثير منكرا حتى أنه في بعض البلدان أصبح النهي عن الشرك والكفر فجورا ، والأمر بالكفر والشرك معروفا .
وأي اغتراب فوق هذه الغربة التي فيها نقضت عرى الإسلام عروة عروة , وتكلمت الرويبضة , وأدلت بالباطل والفجور وجعلته الحق والمعروف الذي أمر الله به .
والواجب على من عرف الحق واستبان له اتباعة والقيام به وإن خالفه من خالفه وجفاه من جفاه .

فإن الصراط المستقيم له أعداء قاعدون عليه فليوطن الموحد نفسه وليقبل على ربه فإنه مؤيده وناصره ومعزه ومذل أعداءه وخاذلهم ولله في خلقه شؤون .
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } يونس99-101 .
فصل
الشرك نوعان : أكبر وأصغر .
وقال بعضهم : وخفي .
ولكن الصحيح : اندراج الشرك الخفي ضمن الأصغر فالشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة . وصاحبة إن لقي الله به فهو مخلد في النار .
قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) النساء: 48.
وقد تقدم بعض أنواع الشرك الأكبر ، وهذه الرسالة مختصرة لا تتسع لذكر تفاصيل أنواع ا لشرك الأكبر وما يتعلق به ولكن تقدمت إشارات إلى بعض أنواعه مع شيء من البيان وقع على سبيل الاختصار وغالب من يقع في الشرك سببه إعراضهم عن تعلم أصل الدين وتساهلهم في جانب التوحيد وعدم الوقوف على حقيقته وما يرشد إليه ويدل عليه ، وإعراضهم عن تعلم نواقض التوحيد – وقد كتبت رسالة مختصرة في شرح نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبالوهاب – رحمه الله – . فليرجع إليها من أراد الوقوف على نواقض الإسلام ليدرك خطورتها ، ويعلم محل كثير من أهل هذا الزمان منها – ومفسداته التي : متى دخلت عليه أفسدته وأحبطت عمل صاحبه وإن كانت الأعمال أمثال الجبال كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } الزمر65.
وفي القرآن والسنة مما يبين التوحيد ويبطل الشرك ما يستنفد المرء عمره لمعرفته ، فحري لمن نصح نفسه أن يقبل على معرفة التوحيد والوقوف على أسراره ومعرفة الشرك والبعد عن أوضاره ومجانبة أهله فإنهم أعوان الشيطان وأولياؤه وحزبه { أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } المجادلة19.
وأما الشرك الأصغر فلا يخلد صاحبه في النار ولكنه معرض للوعيد وصاحبه على خطر عظيم فلا تستهن به فما أكثر الواقعين فيه ممن يدعي العلم فضلا عن غيرهم من العامة وأشباههم وقد يترقى بصاحبه إلى الشرك الأكبر فيجب التحرز منه والحرص كل الحرص على تحقيق التوحيد .
والسير على منهاج خيار الأمة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وحققوا توحيدهم ولم يشوبوه بشرك ولا بدع الذين إمامهم ومقدمهم إلى رب العالمين محمد الأمين عليه صلاة وسلام إلى يوم الدين .
فإن الحرص على تحقيق التوحيد مما يباعد المؤمن عن الشرك أكبره وأصغره وقد خاف النبي – صلى الله عليه وسلم – على أصحابه من الشرك الأصغر فمن بعدهم من باب أولى أن يخافه على نفسه .
ففي مسند الإمام أحمد (5/428) بسند حسن عن محمود بن لبيد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء ) .
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – .
وأنواع الشرك الأصغر كثيرة وأكثرها وقوعا وانتشارا الحلف بغير الله كالحلف بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ، والأمانة ، والكعبة ، والأب ، والأم ، ونحو ذلك كالحلف بعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ، والبدوي وغيرهما .
وكون الحلف بغير الله شركا أصغر محله إذا لم يرد تعظيم المحلوف به أما لو كان معظما للمحلوف به بحيث لو قيل : له احلف بالله كاذبا ؛ لحلف ، وإذا قيل له : احلف بالبدوي ونحوه كاذبا ؛ لما حلف : فهذا شرك أكبر .

وفي سنن أبي داود ، وجامع الترمذي من طريق الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلا يقول : لا والكعبة . فقال ابن عمر : لا يحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) .
هذا لفظ الترمذي . ولفظ أبي داود : ( من حلف بغير الله فقد أشرك )).
وفي ((الصحيحين)) وغيرهما من طريق نافع مولى ابن عمر عن عبد الله عن رسول الله — صلى الله عليه وسلم — أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله — صلى الله عليه وسلم –: ((ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت )).وفي ((صحيح مسلم)) من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله ابن دينار أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله — صلى الله عليه وسلم —القعدة( من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله )) . وكانت قريش تحلف بآبائها فقال القعدة( لا تحلفوا بآبائكم )) .فهذا تأكيد أكيد من النبي — صلى الله عليه وسلم — في النهي عن الحلف بغير الله وقد تقدم أنه شرك . وقد قال عبد الله بن مسعود– رضي الله عنه —القعدة( لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أحلف بغيره صادقا)) رواه عبد الرزاق في ((المصنف ))،والطبراني في ((المعجم الكبير)) من حديث وبرة عن عبد الله . ووقع الشك عند عبد الرزاق في عبد الله هل هو ابن مسعود أم عبد الله بن عمر ، والأثر سنده صحيح .
ومعنى قول عبد الله ظاهر فإن الحلف بغير الله مع الصدق أعظم جرما وإثما من الحلف بالله مع الكذب. فالحلف بغير الله شرك والحلف بالله مع الكذب معصية . فليعلم ذلك فإنهما لا يستويان . وأما من استدل بحديث القعدة( أفلح وأبيه إن صدق)) المخرج في ((صحيح مسلم)) من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحه بن عبيد الله عن النبي — صلى الله عليه وسلم — به . على جواز الحلف بغير الله فقد قال ما لا علم له به، وخالف النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصريحة بالمنع من الحلف بغير الله . واستدل بما لا تقوم به حجة ، والاستدلال بالمتشابه وترك المحكم الصريح من أفعال الذين في قلوبهم زيغ ومرض . فالواجب أخذ المحكم الصريح وترك المتشابه المحتمل .
وللعلماء – رحمهم الله- عدة أجوبة عن حديث ((أفلح وأبيه)) :
فمنهم من قال بعدم صحة هذه اللفظة لتفرد إسماعيل بن جعفر به ا. وقد جاء هذا الحديث في ((الصحيحين)) من طريق مالك بن أنس عن أبي سهيل به وليست فيه هذه اللفظة ، ورووه بلفظ ((أفلح إن صدق)) . قال ابن عبد البر-رحمه الله- في لفظة ((أفلح وأبيه)) إنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح- انظر فتح الباري (11/533) .
ومن الأجوبة ما قيل : إن هذه اللفظة تجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا القسم ، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ، وإلى هذا القول ذهب النووي في شرحه لصحيح مسلم وقال : هذا هو الجواب المرضي .
ولكن ليعلم أنه ليس لأي إنسان أن يحلف بغير الله زاعما أنه لا يقصد حقيقة القسم والقول المتقدم إنما قيل جوابا عن إشكال ورد لكونه يخالف الآيات والأحاديث في النهي عن الحلف بغير الله فلو أن امرءا حلف بغير الله كفر ولو لم يقصد حقيقة القسم .

فليعلم ذلك فإن الأمر عظيم , والخطب جسيم فلا يجعل المسلم الشبه مكان اليقين , ولا الباطل محل الحق ، فإن للحق نورا وللباطل ظلمة . فالحق أبلج . والباطل لجلج. ويبصر ذلك البصير الذي جعل كتاب الله وسنه رسوله – صلى الله عليه وسلم- حكما على قول كل أحد والله الهادي إلى سواء السبيل .
ومن الأجوبة على الحديث أيضا : ما قيل إن في الجواب حذفا تقديره أفلح ورب أبيه إن صدق .
وقيل : إن ذلك خاص بالنبي – صلى الله عليه وسلم- دون غيره من الأمة وهذا القول ضعيف , فلا يلتفت إليه. فالأصل التشريع دون الخصوصية فلا تثبت الخصوصية إلا على وفق دليل شرعي , ولم يثبت في هذا شيء . فظهر بطلان هذا القول . وما تقدم من الأجوبة كاف في إبطال قول من جوز الحلف بغير الله وترك المحكم وتبع المتشابه .
والله اعلم .
ومن أنواع الشرك الأصغر: قول الرجل : " ماشاء الله وشئت", وقول :
"لولا الله وفلان" , لأن الواو تقتضي المساواة ومساواة الخالق بالمخلوق شرك .
ومن ذلك قول ..لولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره على قوله تعالى : (فلا تجعلوا لله أندادا ً) .
حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد حدثني أبي عمرو حدثني أبو عاصم أنبأنا شبيب بن بشر ثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) قال : الأنداد هو الشرك أخفي من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص , ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت, وقول الرجل: لولا الله وفلان لا تجعل فيها " فلان " فإن هذا كله به شرك .
وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي ثنا شعبة عن منصور عن عبدالله بن يسار عن حذيفة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " لاتقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ".
ورواه الإمام أحمد, والطيالسي, وابن السني, والطحاوي وغيرهم من طريق شعبة به , … وسنده صحيح.
ومن أنواع الشرك الأصغر أيضا : طلب العلم لغير الله ، كطلبه لتحصيل الوظيفة والشهادة ، أو طلبه لأجل الرياء والسمعة ، ونحو ذلك مما ينافي الإخلاص .
وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) .
وفي صحيح البخاري من حديث عبدالله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة : إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع ) .
وفي سنن أبي داود من طريق فليح بن سليمان عن أبي طوالة عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :
( من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) .
يعني : ريحها .
وفليح بن سليمان فيه كلام . وقد خرج له البخاري ومسلم .
والحديث رواه أيضا : ابن ماجه ، والحاكم وصححه ، وسكت عنه الذهبي . وللحديث شاهد من حديث ابن عمر بلفظ : ( من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار ) . رواه الترمذي من طريق أيوب السختياني عن خالد بن دريك عن ابن عمر به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب .

وهذا الصنف ، أعني : طلاب الدنيا بالدين ، مرضى مرض قلوب ، باعوا دينهم وإخلاصهم لتحصيل منافع عاجلة ، وهذا بلاء عظيم ، ومرض متوغل في القلوب ، ومسلك منحرف ، صاحبه كأنه لا يعيش إلا ليأكل ، وهذا مسلك اليهود الذين عبدوا الدنيا وهجروا ما وراءها .
والأمراض القلبية من حب الجاه ، والعلو في الأرض ، وتطلب مدح الناس : عقوبات يصاب بها كثير من العباد الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة ، وهذه الأمراض تسلب المسلم دينه وكرامته ، فقبحها فوق ما يتصوره الكثير ، فما أسوأ مغبتها ، وأعظم خطرها ، وأسرع عقوبتها ، وما أهون صاحبها على الله .
ووراء هذه الأمراض الفتاكة ( العلم المغشوش ) ، الذي هو عقبة على العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – .
فأصحاب العلم المغشوش يرفرف الجهل على قلوبهم ويظنون أنهم حازوا العلم المنشود ؛ لأن صاحب الهوى قد أعماه هواه عن معرفة الحق ، ومن أرشدهم إلى خطر هذا العلم ، وبعده عن تعاليم الدين ، رموه عن قوس واحدة بالجهل والتخلف ، وربما نسبوه إلى الخوارج المارقين . فالله المستعان .
( فصل )
وأما النوع الثالث من أنواع التوحيد فهو :
( توحيد الأسماء والصفات ) .
ومعرفة هذا النوع من الأصول التي أرسل الله بها رسله ، وأنزل بها كتبه . فإنكار هذا النوع إنكار للخالق وجحد له . ولا يدخل العبد في الإسلام حتى يؤمن بأسماء الله وصفاته .
قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – :
( لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان – حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله ، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه ، فالإيمان بالصفات وتعرفها : هو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان وثمرة شجرة الإحسان . فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وثمرة شجرة الإحسان ، فضلا عن أن يكون من أهل العرفان .

وقد جعل الله سبحانه منكر صفاته مسيء الظن به . وتوعده بما لم يتوعد به غيره من أهل الشرك والكفر والكبائر فقال تعالى :
{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ } فصلت .
فأخبر سبحانه أن إنكارهم هذه الصفة من صفاته : من سوء ظنهم به ، وأنه هو الذي أهلكهم . وقد قال في الظانين به ظن السوء { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } الفتح6.
ولم يجيء مثل هذا الوعيد في غير من ظن السوء به سبحانه ، وجحد صفاته وإنكار حقائق أسمائه من أعظم ظن السوء به … .) مدارج السالكين (3/363) .

ومذهب سلف الأمة وأئمتها في باب الأسماء والصفات : أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه ، أو بما وصفه به رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ، ولا تمثيل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الشورى11، وينزهون الله عن مشابهة المخلوقات تنزيها بلا تعطيل ويثبتون لله جميع الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتا بلا تمثيل ، فإن من نفى عن الله صفة من صفاته فهو معطل ، وإن حرفها وصرفها عن ظاهرها فهو ملحد محرف ، وإن أثبتها وقال : إنها تشبه صفات المخلوقين فهو مشبه ، وإن قال : أفوض علم معاني الصفات إلى الله فهو مفوض وخطره على العقيدة أعظم من خطر الجهمي لخفاء قوله على كثير من المشتغلين بالعلم ، والعجب أن كثيرا ممن تصدى للتصنيف يعزو هذا القول إلى السلف – وهم كثر ممن لم يفقه مذهب السلف على حقيقته منهم : الرازي ، والغزالي ، والسيوطي ، وصاحب ( كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن ) فإنه قد عزى مذهب التفويض إلى السلف وارتضى هذا القول وسمى المذهب الصحيح المبني على الكتاب والسنة مذهب الخلف ، وله في كتابه المذكور آراء فاسدة وتصورات خاطئة في العقيدة نذكر ما تيسر منها لاشتهار الكتاب واشتغال الكثير بدراسته وتدريسه ، فمن ذلك أنه زعم ( أن الصفات من المتشابه ) كما في (2/286) ، ويقصد بالمتشابه الذي لا يعلم معناه لأنها عنده مشكلة . وهذا خطأ وضلال فإن باب الأسماء والصفات باب محكم واضح يفهم أصل المعنى كل إنسان لم تتغير فطرته ، وكيف يكون مشتبها أفضل شيء حصلته النفوس واكتسبته القلوب ولم يتوف الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – حتى أكمل به الدين ، وأساس الدين معرفة الله بأسمائه وصفاته وقد بلغه النبي – صلى الله عليه وسلم – بلاغا عاما فعلمه الخاص والعام وفي الصحابة القروي والبدوي والعربي والعجمي ولم يشتبه توحيد الأسماء والصفات على واحد منهم بل آمنوا به
وعرفوا المراد منه أعظم معرفة .
وزعم الكاتب في كتابه (2/286) أن ظواهر الصفات غير مرادة للشارع قطعا لأنه مفوض ويظن أن التفويض هو مذهب السلف كما تقدم ، وعنده أن إثبات السمع لله والبصر والعلم والحياة والاستواء ونحو ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه موهمة للتشبيه ومن ثم قال ( إن ظواهرها غير مرادة لله ) يريد بذلك نفي ما تحمله الصفات من المعاني لأن إمرار الصفات كما جاءت مع فهم معانيها وإثبات حقائقها يوهم التشبيه عنده ، تعالى الله عن قوله علوا كبيرا .
والذي عليه أهل الفطر السليمة أنهم إذا أثبتوا لله السمع والبصر والعلم والحياة والاستواء لم يقتض ذلك أن يكون علمه وبصره وسمعه وحياته واستواؤه ، كعلم المخلوق وبصر المخلوق وسمعه وحياته لأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الشورى11.
وقال في كتابه (2/291) إرشاد وتحذير :
( لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر ، فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق
وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله، ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه ، وتحتمل الكفر والإيمان ، حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات ) .
هكذا قال هذا الكاتب وجنى على نفسه وخاض فيما لا يحسنه ومن خاض فيما لا يحسنه أتى بالعجائب وجعل الحق باطلا والباطل حقا وأنكر ما أجمعت الأمة عليه ، وصوب ما اتفق أهل العلم والمعرفة على تخطئته ، وهذا الكاتب جعل إثبات الصفات لله على ما يليق به خوضا بغير حق وقد سبق إبطال زعمه بأن الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه . وأما قوله: ( ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه . . . إلخ ) فهو خطأ خطير فليس في إثبات نصوص الصفات ما يحتمل التشبيه أو الكفر ، ومن ظن أن أثبات صفات الكمال لله تعالى يقتضي تشبيها فهو مخطئ في ظنه ضال في عقيدته ، وأهل الكلام لهم عبارة يرددونها في كتبهم وقد تقدم ردها وهي ( أن ظواهر الصفات غير مرادة لله ) فالإيمان بصفات الله عندهم يقتضي الكفر والتشبيه لأنهم يظنون أن إثبات صفات الخالق على وفق ما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث النبوية يقتضي أو يحتمل تشبيه الخالق بالمخلوق وذلك ظن الذين كفروا فلا يظنون إلا المعاني الفاسدة فويل للذين كفروا من النار . وليس في الكتاب ولا في السنة ما ظاهره يقتضي كفرا أو تشبيها ، وتعالى الله عن أن يكون ظاهر كلامه كفرا أو تمثيلا أو تشبيها ، وأهل الباطل يتوهمون في صفات الله أو أكثرها أنها تماثل صفات المخلوق فلا يفهمون من إثبات الصفات إلا هذا الفهم الباطل الناشئ من تعطيل ما يستحقه الرب .
والقرآن مملوء من الرد على من شبه الخالق بالمخلوق قال تعالى: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }
وقال تعالى: { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } ، وقال تعالى { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } وقال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الشورى11.
والمسلم يجب عليه أن يثبت أسماء الرب وصفاته من غير تمثيل ولا تشبيه ، ولا يهولنه أقوال المعطلين لأسماء الله وصفاته من أن من أثبت له صفات الكمال فقد شبه .

ثم قال الكاتب بعد ذلك: ( ومن المؤسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا ، ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح ، و يخيلون إلى الناس أنهم سلفيون ، ومن ذلك قولهم : إن الله يشار إليه بالإشارة الحسية ، وله من الجهات الست : جهة الفوق ويقولون إنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقيا ، بمعنى أنه استقر فوقه استقرارا حقيقيا غير أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف. . .) .
أقول: وأما قوله ( أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا . . .) فيقال هذا لا عيب فيه إنما العيب والضلال ، الامتناع من إثبات ألفاظ الصفات وحقائقها ، وأما مواجهة العامة بإثبات الصفات وإمرارها كما جاءت مع فهم أصل المعنى وإثبات حقائقها فهو أمر ضروري وتبليغه من الأمور الضرورية فلا يتم إسلامهم إلا بمعرفة الله بأسمائه و صفاته والإيمان بذلك لأنه أساس الإسلام ومن أنكر مواجهة العامة بذلك وامتنع من قراءة آيات الصفات وأحاديث الصفات فقد أنكر أصل الدين وأتى بقول يضارع قول الجهمية المعطلين وقد كان النبي— صلى الله عليه وسلم – يواجه جميع المسلمين بذلك عربهم و عجمهم لأن ذلك من أعظم دعائم التوحيد والممتنع من مواجهة العامة بذلك ممتنع عن تبليغ أصل الدين والله المستعان .
وأما قولهالقعدة وينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح . . .) فجوابه أن يقال نسبتهم
إثبات الصفات للسلف من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تحريف حق لا امتراء فيه ولا

ينازع في ذلك أحد شم رائحة العلم إنما ينازع في ذلك المعتزلة و الجهمية والمفوضة وأشباههم من الصادين عن سبيل الله وأما استعظام الكاتب ، قول من قال: ( إن الله يشار إليه بالإشارة الحسية ) فهذا مبدأ إنكار علو الله على خلقه ، وسيد ولد آدم في أعظم مجمع حضره الناس يشير بأصبعه السبابة إلى السماء ويقول: (( اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرات )) والحديث في (( صحيح مسلم )) من حديث جابر الطويل في صفة حج النبي– صلى الله عليه وسلم — فالنبي– صلى الله عليه وسلم — في هذا المجمع العظيم يستشهد ربه الذي فوق العرش و الجهمية المعطلة تنكر ذلك وتزعم أنه أشار إلى السماء مستشهدا لها وهذا الكاتب يوافق الجهميه على أن الله لا يشار إليه بالإشارة الحسية وهذا ليس بمستغرب من الكاتب لأنه لا يؤمن ولا يقر بعلو الله على خلقه ولا باستوائه على عرشه استواء حقيقا يليق به ومن لا يؤمن بهذا فليس بمستنكر منه إنكار الإشاره إلى الله ، وإنكار علو الله على خلقه أصل التعطيل المأخوذ عن الصابئة والمشركين وعندهم أن الله ليس في السماء وليس هناك في السماء إله يعبد ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ، وأي دين يبقي لمن أنكر علو الله على خلقه وقد اتفقت الرسل على الإقرار به وشهدت به العقول السليمة والفطر وعلم من الدين بالضرورة فجميع المسلمين عند نزول الشدة والكرب وغير ذلك يرفعون رؤوسهم نحو السماء رافعين أيديهم يتضرعون لربهم كشف الكُرب حتى شعراء الجاهلية مقرون به لأن الله فطرهم على أنه فوق السماء ، قال عنترة :
يا عبل أين من المنية مهربي … إذ كان ربي في السماء قضاها

وهذا كثير في أشعار أهل الجاهلية فهم أعقل من الجهمية المنكرين لعلو الله على خلقه فهم كابروا المنقول والمعقول قال تعالى : { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } الملك16 وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فاطر10 وقال تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } الأنعام18 وقال تعالى: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } آل عمران 55 . وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه -عن النبي – – صلى الله عليه وسلم – – قال ( إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق أن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش ) . وفي ( صحيح مسلم ) عن معاوية بن الحكم السلمي أن النبي — صلى الله عليه وسلم — قال للجارية : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء قال : (من أنا ؟ ) قالت : أنت رسول الله قال ( أعتقها فإنها مؤمنة ) . والأحاديث في إثبات علو الله على خلقه متواترة فلا ينكر ذلك إلا جهمي مارق خارج عن الدين داخل في زمرة الصابئة والمشركين .
وأما إنكار استواء الله على عرشه فهو أيضا مذهب الجهمية المنكرين للعلو ، وفي سبعة مواضع من القرآن . يثبت الله استواءه على العرش وهذا الاستواء استواء حقيقي معلوم ، ولكن الكيف مجهول ومن أنكر استواء الله على عرشه استواءً حقيقياً فهو جهمي وقد كفر الجهمية خمسمائة عالم من سائر البلدان . قال العلامة المحقق ابن القيم – في ((نونيته )) :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
( … عشر من العلماء في البلدان
(
واللالكائي الإمام حكاه عنهم
( … بل قد حكاه قبله الطبراني
قال يزيد بن هارون : من زعم أن الرحمن فوق العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي . وعلى هذا المنهج درج علماء السلف ونسبوا منكر الاستواء إلى الجهمية ، هذا وليعلم أنني لم آت على جميع ما في كتاب (( مناهل العرفان في علوم القرآن )) من التعطيل والتفويض فليكن المسلم حذراً مما يقرره صاحب الكتاب في باب العقيدة وليستغن بكتب السلف عن هذا الكتاب فإنه يخاف على مطالعه من الإغترار بشبهاته وأباطيله خصوصاً أنه يعزو ما يأتي به من الباطل إلى السلف ، ولا يستطيع هذا الكاتب ولا غيره ممن عدل عن مذهب السلف وركن إلى مذهب الخلف وارتضى لنفسه مذهب التفويض والتعطيل أن ينقل حرفاً واحداً عن السلف فيما ادعى وليس هناك شيء مما ادعاه قاله السلف لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا قاله أحد من الأئمة المشهورين الذين لهم رسوخ في العقيدة وقدم صدق في هذا الباب كمالك ويزيد بن هارون وحماد بن زيد والأوزاعي ونعيم بن حماد وأحمد والشافعي وإسحاق بن راهويه والبخاري ولا من بعدهم من الأئمة المحققين كابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهم الله وخطأ هذا المفوض جاء من قبل جهله بمذهب السلف وظنه علماء الكلام هم السلف الذين لهم المرجع في مثل هذه المسائل ، وهذا ضلال مبين .
والواجب على كل مسلم يريد نجاة نفسه تدبر القرآن الكريم والسنة النبوية في هذا الباب العظيم ، وعليه بسؤال رب جبريل وميكائيل وإسرافيل الهداية إلى صراط مستقيم فإنه من فهم هذا الباب وأثبت لله ما أثبت لنفسه فقد هدي إلى صراط مستقيم ، فنسأل الله الهداية إلى الصراط المستقيم ونستعيذ به من صراط أهل الجحيم –
وأنه مذهبهم وهذا كذب عليهم أو خطأ ، والسلف برآء من هذا المذهب براءة الذئب من دم يوسف .

فإن مذهب السلف إثبات الصفات لله، وإمرارها كما جاءت ، مع الإيمان بمعانيها وما دلت عليه ، والله جل وعلا إنما أنزل القرآن تبيانا لكل شيء ليتدبر العباد آياته ويتفقهوا في معانيه كما قال تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ … } النساء82 ، وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } المؤمنون68 ونحو ذلك من الآيات . والتدبر المأمور به عام في آيات الصفات وغيرها فلا يخص شيء دون شيء ، ومن خص التدبر بآيات الأحكام دون آيات الصفات فعليه إقامة البرهان والحجة على هذا التخصيص الذي ما أنزل الله به من سلطان . فالسلف إذا قرأوا قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الشورى11 ، علموا أن الله لا سمي له ، ولا كفؤ له ، ولا ند له ، ولا يماثله شيء من المخلوقات ، وأنه سميع بصير . فالسميع اسم من أسماء الله تعالى ، فيستفاد منه : إثبات صفة السمع لله تعالى . قال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } المجادلة1.
وقال تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } الزخرف80 .
والقرآن مملوء من إثبات السمع لله ، ومن تدبر القرآن مريدا للحق تبين له طريقه .
وقوله تعالى ( البصير ) يستفاد منه إثبات صفة البصر لله تعالى . وليعلم أن كون الله ( سميعا بصيرا ) والمخلوق سميعا بصيرا ؛ لا يلزم منه مماثلة ، ولا مشابهة ، فليس السمع كالسمع ، ولا البصر كالبصر . فلله تعالى من ذلك صفات الكمال المطلق . أما المخلوق فإن حصل له كمال فهو كمال نسبي وأمره إلى هلاك كما قال تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } القصص88

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.