"ألفونس أتيين دينيه" أو "ناصر الدين دينيه" عبقرية فذة وفنان ومصور ورسام تشكيلي نادر ؛ سحرته طبيعة الجزائر وأبهرته طيبة سكانها وحميميتهم فإستذكر قلقه وتساؤولاته العقيدية الكنسية فراح يبحث عن خلاص نفسه بالتعمق في حياة الجزائريين مفكرا ومتأملا في عقيدتهم وحياتهم الإجتماعية ؛ ألفانوس أو ناصر الدين كما سمى نفسه بعد إعتناقه الإسلام من مواليد العاصمة باريس سنة 1861 م لأبوين مسيحيين ؛وفيها نشأ وتعلم وحصل على جميع شهاداته الأكاديمية حيث إلتحق بمدرسة الفنون الجميلة ثم ورشة ‘دوقلون ‘ ؛ سافر إلى الجزائر بعد نهاية دراسته وفي ريعان شبابه وهناك أفتتن بطبيعتها وسماحة سكانها وبساطة العيش وفي نفس الفترة إنتقل سائحا في جل دول المغرب العربي ؛ قادته الأقدار للتعرف على منطقة بوسعادة بالجنوب الجزائري حيث الواحات الفاتنة والطبيعة الخلابة فأعجب بها أيما إعجاب ومنحها معظم إبداعه ؛ فكانت اللوحات التي تعكس حياة أناسها وتصور طبيعتها الساحرة أهم واكثر أعمال الفنان التي صورة بشكل عام الحياة الإسلامية والجزائرية ودفعه هذا الإفتتان للإستقرار بها ما يزيد عن 24 سنة بدأ من العام 1905 م متخذا سليمان بن براهيم وزوجته رفقاء له بعد أن غمروه بالمحبة والود والكرم الجزائري الأصيل .
أعلن إسلامه عام 1913 م أمام مفتي الجزائر العاصمة قائلا بمناسبة ذلك ( …إن اعتناقي للإسلام ليس وليد الصدفة و إنما كان عن دراية و بعد دراسة تاريخية و دينية معمقة لجميع الديانات لفترة طويلة ) . ليبدأ بعدها رحلته في الدفاع عن الإسلام والمسلمين والتصدي لشبهات المستشرقين ؛ منافحا عن الحضارة والتسامح الإسلامي بالحجة والبرهان فيقول في كتابه القيم "أشعة خاصة بنور الإسلام" : ( إنهم يفخرون في فرنسا بالعالم "أستير"، ويجعلونه درة في تاج الحضارة الحديثة، ولكن فاتهم أن "جابرًا" و"الرازي" لا يقلان عنه في مرتبة العلماء والمفكرين، فهما المؤسسان الحقيقيان لعلم الكيمياء بفضل ما كشفاه عن طريق تقطير الكحول ومن اكتشاف حامض النتريك والكبريتيك ) . مستنكرا في ذات الوقت نظرة الغرب للشرق والتي تصور الشرق على أنه واحة للتخلف وتابعا من توابع لحضارة الغربية ولعل أهم كتبه تعبيرا عن هذا التوجه كتاب " الشرق كما يراه الغرب" المترجم للعربية بعنوان: " آراء غربية في مسائل شرقية ".
لم يكتفي ناصر الدين بالتصدي وكتابة مواجهة الأباطيل وإنما سعى بفكره العميق ونظرته الثاقبة إلى تعريف الغرب والفرنسيين خاصة بـ الدين الإسلامي وفي هذا الصدد كتب مع رفيقه وصديقه الجزائري ‘ سليمان بن إبراهيم ‘ مجلدا كبيرا والمعروف بــ " حياة محمد " تأريخا لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم معتمدا في ذلك على السير المعتبرة كسيرة ‘ إبن هشام ‘ وسيرة ‘إبن سعد ‘ متخذا في ذلك منهجا مخالفا عن ذلك المنهج الذي طبع كتابات المستشرقين معبرا عنه في كتابه بقوله ( فبحكم المستحيل أن يتجرد المستشرقون من عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وهم بذلك حرفوا سيرة النبي وصحبه، وقدموا عنهم صورًا خيالية أبعد ما تكون عن الحقيقة…). وما ميز هذا الكتابة جرأة ناصر الدين في نقده للمستشرقين وموضوعيته في تبيان تناقضهم بعد إستشهاده بنماذج من كتاباتهم حول الإسلام ونبي الإسلام خاصة ؛ مبيننا المنهج السليم الذي كان عليهم الكتابة وفقه قائلا ( إذ إن دارس سيرة الرسول لا بد له من أن يتجرد عن الهوى والعصبية، وأن يعتمد على الأخبار الصحيحة التي رواها المسلمون أول عهدهم بالتدوين، وأن يدرس البيئة العربية في مهدها الأصلي حتى ينجلي له الغامض، ويتضح له المبهم، وتستقيم له الفكرة ) .
عام 1928 م زار ناصر الدين البقاع المقدسة وسيناء وجبل الطور في رحلة الحج التي خلدها في كتاب رائع أسماه "الحج إلى بيت الله الحرام" الذي إمتدحه الأمير شكيب أرسلان بقوله ( أسلم وحج وألف كتابًا عن حجته إلى البيت الحرام من أبدع ما كتب في هذا العصر). والكتاب يقع في أكثر من 200 صفحة مزدان بـ بثماني صور من إبداعه للكعبة، والحرم الشريف، ،وجبل النور الذي تلقى عنده الرسول الأمين الوحي عند نزوله أول مرة ومنظر الحج بعرفات وصلاة المغرب حول الكعبة، . والكتاب بالإضافة لوصفه لرحلة حج المؤلف جاء كرد على زيف وتجني كتابات كل من الرحالة الفرنسي "لوب ليكو" في كتابه "في بلاد الأسرار حج مسيحي إلى مكة والمدينة"، "وجرفي كول تيلمون" في كتابه "رحلة إلى مكة" سنة 1896م، والرحالة السويسري "بيرك هارد" في كتابه "رحلة إلى جزيرة العرب" سنة 1914م، والرحالة الإنجليزي "بيرتون" في كتابه "الحج إلى مكة والمدينة"، والرحالة الفرنسي "ليون روش" الذي قام برحلته إلى الحجاز بتكليف من الجنرال الفرنسي "بيجو" وأصدر كتابه "عشر سنوات في بلاد الإسلام"، و"بلغراف" في كتابه "سنة في بلاد العرب الوسطى".
عرف عن ناصر الدين تصديه للمستشرقين وفضح إدعاءاتهم وأشهر وأبدع ما ألف في ذلك كتاب" إنك في واد ونحن في واد " ردا على المستشرق "لامانس"، القس اليسوعي الذي امتلأت كتبه حقدا عن الإسلام ونبيه رغم سعة علمه، وكثرة مؤلفاته ؛ ويلاحظ هنا أن ناصر الدين لم تأخذه العاطفة في التأليف بقدر ما ركن إلى المحاججة بالمنطق والعلم ونرى ذلك جليا عندما إستشهد في كتبه بقضية فساد الترجمة حيث قال في أحداها ( … عوض أن يترجم المستشرقون البسملة وهي: "بسم الله الرحمن الرحيم" بالمعنى المفهوم الذي يفهمه جميع المسلمين تلاعبوا بمعناها ما شاء لهم الهوى، فجعلوا الرحمن الذي وصف علَمًا، وصاحوا أنه يوجد معبودان في القرآن وهما: "الله والرحمن )
كونه رساما وفنانا تشكليا فإن سجالته العلمية لم تمنعه من الإعجاب بالخط العربي والدفاع عنه ويرى ذلك من منظور جمالي وعقائدي ؛ إذ أدرك ان بقاء الإسلام مرتبط بالحرف واللسان العربي كون القرآن الكريم الذي هو منبع شريعة الإسلام جاء به ؛داعيا الشعوب العربية لرفض فكرة المستشرقين بإستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني مسفها قولهم بان سبب تخلف المسلمين راجع لطبيعة الحرف وفي هذا يقول ( الكتابة العربية هي أرقى نوع فني عرفه الإنسان، وأجمل خط يستطيع المرء أن يقول فيه من غير مبالغة: إن له روحًا ملائمة للصوت البشري، موافقة للألحان الموسيقية). وليس بعيدا عن هذا الوصف تابع إمتداحه للخط العربي وبلغة الفنان قائلا ( عبارة عن مفتاح يكشف عن ألغاز الحركات القلبية الدقيقة، وكأن حروفها خاضعة لقوة روح سارية، فتراها تارة تلتف مع بعضها على أشكال هندسية بديعة مع محافظتها على جميع الأسرار المودعة فيها، وطورًا تراها تنطلق وتقف بغتة كأنها معجبة بنفسها، وتارة تراها تنطلق جارية تتعانق وتارة تتفرق ) . كاشفا تميز اللغة العربية بكونها اللغة الوحيدة التي تكتب من اليمين إلى اليسار مبيننا أن احد أهم عوامل تميز الفنان "ليوناردو دافينش" كونه يتبع قاعدة الخط العربي فهو يرسم ويكتب من اليمين إلى اليسار معبرا أن الإنبهار بالخط العربي لا يحتاج إلى معجزة فيقول ( كلما تأملت في أشكالها الجذابة أخذت أفكاري إلى أحلام بعيدة، ولا يلزمني أن أكون مستعربًا ولا ساحرًا لأتمتع بجمالها الساحر الفريد، بل كل إنسان توجد فيه روح الفن تأسر قلبه هذه الكتابة ) .
بالرغم من أن وفاته – رحم الله – كانت في باريس (حيث ولد) في24 ديسمبر من عام 1929 م إلا أنه دفن في بوسعادة ملهمته ؛ المدينة التي أحب وعشق في يوم 12 جانفي 1930 م بعد أن تم نقله إلى الجزائر بناءا على وصيته في موكب جنائزي رهيب ألقى فيه التأبين الحاكم العام للجزائر أنذاك ‘بورداس ‘ .
ترك ناصر الدين دينيه كثيرا من المؤلفات التي دافع فيها عن الإسلام وحضارته و 139 لوحة فنية مميزة تصور الجزائر ومنطقة بوسعادة خاصة والعادات والعبادات الإسلامية المختلفة .
وبالرغم من أن الجزائر قد كرمت الرجل بإطلاق إسمه على بعض الساحات والمدارس وأهمها إطلاقها إسم ‘ نصر الدين دينيه ‘ على المتحف الوطني الملاصق لبيته وإصدارها مجلدا قيما فخما يليق بالفنان وبمسيرته يضم أهم لوحات الفنان ومقتطفات من سيرته وكتاباته إلا أنه للأسف لايزال مجهولا في الذاكرة الجزائرية والعربية والإسلامية ؛ ومن هنا تأتي محاولتنا لتسليط الضوء على هذا الإنسان الجليل والفنان العبقري والمسلم المخلص رغم قلة المراجع ؛ داعيا وملتمسا من الجميع الإهتمام بمثل هذه السير العطرة التي تدفعنا للإعتزاز بديننا وحضارتنا وكعربون وفاء للمخلصين من إخوتنا الذين أنار الله قلوبهم للإيمان .
وفقنا الله جميعا .
ع الموضوع
جميل
يسلمو الانامل