يؤسس رفاعة رافع الطهطاوي للدولة المدنية عبر :
أولاً : الاعتبار بالقوانين التي سيّر الله الكون عليها ، فإن : " البلاد الحسنة التمدّن تقدمتْ على ديار الإسلام بفضل تحسين النواميس الطبيعية وإقامة التسوية في الأحكام والقوانين ، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان ، بل القوانين هي المحكّمة والمعتَبَرة " .
ثانياً : اتفاق الإسلام مع ما انتهى إليه الجهد البشري من أحكام وقوانين وقواعد تخص نظم الحكم والإدارة وما إلى ذلك ، فإن : " الذي جاء به الإسلام من الأصول والأحكام هو الذي مدّن بلاد الدنيا على الإطلاق ، وجميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أعلى باقي الأمم المتمدنة إليها ، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامها ، قَلّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات " .
ثالثاً : إن الدين ، الإسلام تحديداً ، لا يحجر على أتباعه الأخذ عن غيرهم من الأمم بصرف النظر عن المعتقد ، فإن : " العلوم البرّانية ، والصنائع الجليلة ، والفنون العملية التي يظهر أثرها بالتجاريب ، وأساليب الحكم والتدبير التي تعين كثيراً على بلوغ درجة الكمال ، فالشرع الشريف لا يحظر جلب المنافع ، ولا ينافي المتجددات المستحسَنة التي يخترعها مَن منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة " .
رابعاً : الدين لله والوطن لجميع ، ولا بد من ترك الضمير الخاص يأخذ المرء إلى حيث يرضى ، فإن : " الملوك إذا تعصبوا لدينهم ، وتداخلوا في قضايا الأديان ، وأرادوا قلب عقائد رعاياهم المخالفين لهم ، فإنما يحملون رعاياهم على النفاق ، ويستعبدون مَن يُكرهونهم على تبديل عقيدته ، وينزعون الحرية منه ، فلا يوافق الظاهر الباطن ، فمحض تعصب الإنسان لدينه لإضرار غيره لا يُعد إلا مجرد حمية " .
خامساً : لا بد من اعتبار الشعب في أي مشروع باتجاه أي مقصد ، فإن : " القوة المحكومة ( = الشعب ) لا بد أن تكون محرزةً لكمال الحرية ، متمتعةً بالمنافع العمومية ، فيما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ووجود كسبه وتحصيل سعادته " .
سادساً : على النظام الحاكم أن يسن القوانين ، ويفصل بين ما هو تشريعي وما هو تنفيذي ، فإن : " القوة الحاكمة ( = الدولة ) تشتمل على قوة تقنين القوانين وتنظيمها ( = السلطة التشريعية ) ، وقوة القضاء وفصل الحُكم ( = السلطة القضائية ) وقوة التنفيذ للأحكام بعد حكم القضاء بها ( = السلطة التفيذية ) .
سابعاً : أحكام القضاء هي الفيصل في أي أمر له تعلق بالإنسان / المواطن ، فإن : " من حقوق الحرية الأهلية أن لا يُجبَر الإنسان أن يُنفى من بلده ، أو يُعاقَب فيها إلا بحكم شرعي ، أو سياسي ، مطابق لأصول مملكته ، وألا يضيّق عليه في التصرف في ماله كما يشاء ، ولا يحجر عليه إلا بأحكام بلده ، وألا يكتم رأيه في شيء ، شرط ألا يخلّ بما يقوله ، أو يكتبه ، بقوانين بلده " .
ثامناً : صرف الهمم نحو تسييد ثقافة الزراعة والتجارة والصناعة ، إذ هي التي تقيم صلب الأمة الاقتصادي ، فإن : " أعظم حرية في المملكة المتمدنة حريةُ الفلاحة والتجارة والصناعة ، فالترخيص فيها من أصول فن الإدارة المَلَكية . وقد ثبت بالأدلة والبراهين أن هذه الحرية من أعظم المنافع العمومية ، وأن النفوس مائلةٌ إليها من القرون السالفة التي فيها التمدن إلى هذا العصر " .
لكن الطهطاوي ينحني لولي الأمر ، ما جعله غير مصيب في فكره السياسي … فهو الذي يقول بشأن الحاكم : " من مزايا المَلِك أنه خليفة الله في أرضه ، وأن حسابه على ربه ، فليس عليه في فعله مسؤوليةٌ لأحد من " رعاياه " ، وإنما يذكّر للحكم والحكمة من طرف أرباب الشرعيات أو السياسات برفق ولين لإخطاره بما عسى أن يكون قد غفل عنه ، مع حسن الظن به " .
وهذا ما حدا بالبعض أن يقول : ( إن الطهطاوي لم يتبين الطابع الفلسفي العقلاني الذي يشكل لُحمة المعتقد السياسي الليبرالي ، بل هو لم يدرك أن التأصيل النظري السياسي ، منذ هوبز إلى روسو ، ومروراً بـ لوك وسبينوزا ، قد أقيم بناءً على تقويض اللاهوت السياسي ، بمعنى أن مفاهيم الحكم المدني ، والتقييم الاجتماعي ، لم تتأسس إلا بزحزحة تَركة ما يعرف بـ " الحق الإلهي " ) .