في المدن ذات الماضي التليد، في قرى السهول والجبال، في مُخيّمات البدو الرحل بالهضاب العليا والصحراء، في كلّ مكان من الجزائر، طرزت المرأة الجزائرية ولن تنفك عن حياكة خيوط الحرير أو الذهب أو الفضة، في حركة متشابهة إلى درجة أننا قد نظنّ أنّ الخيط واحد. خيطٌ، وهو يمرّ من خرم التاريخ، يكون قد قطع المكانَ والزمانَ، المراحلَ والأحداثَ التي مرّت بها، راسما برقّة عشرات آلاف الأيادي ملحمةَ ألوان وأشكال. هذه المجرّة المبعثَرة شهادةٌ على الماضي وتعبيرٌ على واقع معيش وشِعر طويل المجرى ومغامرة خفيّة تمّ الخوض في غمارها في حميمية وسَط الدار وعلى الشرفات وداخل الخيمات.
كان يتوجّب على تكوين الطفلة الصغيرة أن يغطّي كلَّ المعارف والكفاءات التي كان من شأنها أن تحضّرها للحياة الزوجية والأمومة. وثمّة مَثَلٌ يلخّص لوحده هذا النظام المعمول به، حيث كان يقال عن الشابة اليافعة البارعة: "كُلْ اصْبَعْ ابْصَنْعَه" (أي لكلّ إصبع حرفة)، بمعنى أنّها كانت تتحكّم في عشر حرف على الأقل. كان الطرز يُعتبر – من بين هذه الحرف – بمثابة فنّ يجعل صاحبتَه تتبوّأ مكانةً خاصة.
لطالما بقيتْ ممارسة الطرز، المندمجة في العالم النسائي، شأنَها شأن كل الفنون التقليدية، منغلقةً في نطاق العائلة أو الجيرة، إذ لم يكن الطرز مخصَّصا للتجارة بقدر ما كان يُستعمل في تزيين النسيج لأغراض عدّة، كاللباس أو زخرفة البيوت. كما كان تحضير حزمة العروسة عنصرا أساسيا في هذا التقليد، ذلك أنّه كان يفيد في تعليم المتزوّجة بحيث كان يروّضها على قيم الصبر والنضج والجمال، ناهيك عن الرفع من شأن العائلة.
مع سقوط غرناطة في 1492، أفضى طرد مسلمي إسبانيا إلى هجرة واسعة النطاق نحو المغرب القريب، فأدخل اللاجئون الحاملون للمعارف والكفاءات في كلّ المجالات معهم العملَ المتقَن وفنون الحياة من موسيقى وطبخ وزهور وثياب. عاشت تلك الفترة ظهور فنيات وأشكال طرز جديدة حينذاك تطوّرت وتنوّعت مع مرور الزمن في المدن قبل أن تنتقل إلى الريف. شكّل احتراف الطرّازين القادمين من غرناطة وطوليدو وقرطبة وكذا نقل النساء الأندلسيات لمعارفهن في الحلقات النسائية، مرحلةً هامة بالنسبة إلى هذا النشاط وبداية ارتقاء ملحوظ. أما المرحلة الحاسمة الأخرى فبرزت مع إيالة الجزائر التي عرفت، في كنف الإمبراطورية العثمانية ابتداء من القرن السادس عشر، مرحلةَ ازدهار كبير سهّلته ممارسة السباق الذي كان مسموحا آنذاك. أضحت الجزائر مركزا لتجارة زاهرة معتمدة على ساكنة متنوّعة ومدّ تبادلاتٍ متعدّدة الجهات في البحر المتوسّط. فقد ساعدت هذه الفترة على اكتساب الحرف التقليدية لأشكال جديدة، ولم يُستثن التطريز من هذا الانفتاح المذهل. وصلت فنون المشرق عبر الباب العالي لإسطنبول بتنوّعها التركي والبيزنطي والفارسي بل والهندي والصيني أيضا. ظهرت فنون البحر المتوسّط وأوروبا بفضل التبادلات التجارية وكذا غنائم السباق؛ هكذا أحضر التجار اليهود من ليفورن إلى الجزائر مواد ومصنوعات متأثّرة بالفن الإيطالي. لم تكن هذه التجارة الكثيفة مقتصرةً على الاستيراد بل – بالعكس – كانت متماشية وتطوّر داخليّ رائع للحرفيين الذين طالما شكّل اللاجئون الأندلسيون نواتَهم الأكثر نشاطا. وتمّ استيعاب التأثيرات الخارجية – الجمالية منها والفنية – فتعزّزت بالمهارات المحلّية التي أدمجتها في الأشكال الأصلية. ذكر كلّ المدوّنين – وأغلبيتهم من الأوروبيّين – الذين جابوا الجزائر آنذاك بهدف جمع المعارف أو لأسباب استعمارية بحتة، في دفاتر أسفارهم أو تقاريرهم، العددَ الهائل من الحرفيّين ذوي الكفاءة العالية في عملهم. وقد عبّر العديد من هؤلاء المدوّنين عن إعجابهم بالطرز المزدهر ليس في الجزائر العاصمة فحسب بل في البلد قاطبة. كذلك الشأن بالنسبة إلى قنتور دي بارادي (Venture de Paradis) الذي كتب عن الأحزمة المصنوعة من الحرير والمصدَّرة من الجزائر نحو المشرق، بيد أنّه كان يرى – من وجهة نظر الأوروبي – أنّ الطرز الجزائري كان مثقلا بالذهب. وكذلك الشأن أيضا بالنسبة إلى الدكتور شو (Docteur Shaw) الذي أكّد على أناقة الأنسجة وزخارفها المطروزة، والنقيب روزي (Capitaine Rozet) الذي كان مكلّفا في مطلع القرن التاسع عشر بالتجسس قصد احتلال البلد، إذ لم تَفُتْهُ الإشارة إلى الستار المطروز في قسنطينة والخمار الرائع الذي كان يباع في القليعة. عشرون سنة بعد بداية الاحتلال، وعلى الرغم من منع الجماعات المهنية من قبل الإدارة الاستعمارية في حوالي 1838، قال بروسبر ريكارد (Prosper Ricard) في مؤلَّفه "الصناعة التقليدية في منطقة وهران" إنّ تلمسان كانت لا تزال تحصي اثني عشر طرّازا حرفيا. منذ نهاية القرن الوسطيّ إلى غاية بداية الاحتلال، فرض الطرز في الجزائر العاصمة وباقي التراب الجزائري نفسَه عبر الزمان كمرجع دوليّ. وما زالت كاتدرائية شارت (Chartes)، وتُعدّ واحدة من بين أعتق المباني الدينية وأكثرها روعة في أوروبا، تحتفظ إلى يومنا هذا بطرز قديم صُنع في الجزائر العاصمة من خيط الحرير والذهب ويعود إلى القرن السابع عشر، وهو يزيّن تمثال العذراء.
يضمّ تراث الطرز الجزائري عدّة متغيّرات وأشكال تعبيرية متّصلة بمختلِف الأحقاب التاريخية وتأثيراتها الفنية المتنوّعة. نميّز بين عدّة مراكز إنتاج يمكن تشبيهها بالمدارس في بعض الجوانب، تماما كما انبثق من الموسيقى الأندلسية في الجزائر أنواعا جهوية مثرية انطلاقا من جذر مشترك. في هذا الجانب، تشكّل مجموعة المتحف الوطني للفنون والتقاليد الشعبية للجزائر العاصمة وجهد الحفظ والبحث الذي تقوم به هذه المؤسسة الواقعة في القصبة، مراجع ثمينة لمعرفة الطرز الجزائري. فيما يلي بعض العناصر منها:
طرز الجزائر العاصمة
يحتوي على عدد متنوّع من التأثيرات المتوسطية والعثمانية ومن نابل التونسية، مع تصميمات يمكن ربطها مع النهضة الإيطالية بل ومع الصين فيما يتعلّق بالطرز الناعم ذي الوجهين. إنّ الطرز العاصميّ الموجَّه لتزيين الأثاث منجَزٌ بخيط الحرير. وكانت المدينة تأوي أيضا تقليدا – ما زال حياّ على الرغم من تقلّصه في الوقت الحاضر – في صناعة "الحايك" والخمار المطروز.
طرز منطقة القبائل
يبرز تقليد الطرز في هذه المنطقة الجبلية خاصة في المناديل ذات الألوان الزاهية، وتُسمّى "ثيمحرمث"، وهي مزيّنة برسوم مصنوعة بخيط الحرير. يطغى على هذا النوع من الطرز شكل المثلّث المكرَّر في سلسلة خطية، وهو يرمز إلى فرخ الحمام الذي ترى فيه التقاليد رمزا للسعادة والرخاء والخصوبة.
طرز عنابة
يبدو أنّ هذا النوع مستلهَمٌ من سوريا والبلقان والمغرب. وتُعدّ عادةُ التزيين الهامّة في المشوار "التلقينيّ" للفتاة العنابية قطعة مهمة في التراث العائليّ وأعجوبة من ناحية الفنيات والأشكال الهندسية والنباتية في آن واحد. ومن بين ما تنفرد به هذه الأعمال الفنية أيضا، احتواءها للعناصر التمثيلية (الرجل والطير وغيرهما) والتوقيع المخطوط والمؤرَّخ لصاحب العمل أو صاحبته.
طرز شرشال
يتميّز برسوم هندسية منجَزة في تباين تدريجي، من اللون الأمغر المائل إلى الاحمرار إلى الداكن المائل إلى الصدأ. شَكْلُ المثلّث موجود بكثرة وهو يرمز إلى العلامة القرطاجية للإلهة تانيت، مع نقطة مركزية تمثّل العين الحامية من السوء. كما نجد أيضا، من الناحية الفنية، استلهاما من أشكال فخار جبل شنوة القريب من المدينة.
طرز الجنوب
يُشرَك طرز الجنوب مع ممارسة الغزل بقِطع صوف رقيقة مزخرفة بخيط الحرير تُنجز على الستائر أو الوسائد أو الأخمرة أو الحياك. نجد في منطقة المزاب أنسجة سوداء مُطرزة بحرير ذي ألوان زاهية (البرتقالي والأحمر والأصفر والأخضر) وهي مخصّصة لتغطية الرأس خلال الحفلات، بخاصة الأعراس. في منطقة الوادي، تُطرز الرسوم التمثيلية (العقرب والشمس والجواهر والثعلب وما إلى ذلك) وهي عبارة عن إرث رمزيّ للعادات العريقة. هذه أمثلة مختلفة عن أشغال الطرز الموجودة في مجموعة المتحف الوطني للفنون والتقاليد الشعبية وهي بالتالي لا تمثّل سوى عيّنة من التنوّع الوطني في هذا المجال.
فنّيّات متنوّعة
يمكننا التمييز بين التقنيات والمواد التالية :
– الطرز بالخيط الذهبي: هو منتشر في كلّ المراكز السكنية التاريخية (الجزائر وقسنطينة وعنابة وبجاية وتلمسان ووهران) ويُستعمل في تقنيات المجدوب والفتلة والشعرة والقنطير.
– الطرز بالخيط الحديدي: هو منتشر خاصة في الشرق الجزائريّ. يُستعمل في تقنية الترصيع ويتمثّل غالبا في التزيين برقاقات حديدية مذهَّبة.
– الطرز بالفتيل أو الضفيرة: يُستعمل خاصة على ثياب الذكور التقليدي كالصدرية المخصّصة للحفلات والمسماة "البديعية". قد يكون الفتيل أو الضفيرة بلون واحد أو بألوان عدّة مع استعمال خيط ذهبي في بعض الأحيان. هذا النوع من التطريز كان حضريا غير أنّه كان منتشرا في الأرياف، عند الأعيان على الأقل.
– الطرز على الجلد: هذا النوع متصل بالهضاب العليا وتقاليد الفروسية ويُستعمل في السروج ومستلزمات اللبس أو الفروسية ونوع من التزيين الخاص بالبيوت أو خيم البدو الرحل أو أثاث البيت التقليدي. توجد أنواع عدّة من هذا الطرز في البلد. ففي الجنوب الكبير، يتحكّم الطوارق تحكّما في فنّ الجلد المطروز أو المسبوغ أو كلاهما معا في بعض الأحيان. إنّ المصطلحات الخاصة بالطرز الجزائريّ غنيّ بشكل يبرز ثراء ممارسة هذه الحرفة: المجبود، الفتلة، الشعرة، الترصيع، المعلقة، الزليلج، أمنـزّل، الخمري، إلى غير ذلك من الأسماء، وكأننّا بها نستمتع بقراءة شعر قديم. سمحتْ الأبحاث التي أجريت حول الطرز الجزائريّ بإبراز تنوّع رائع في الأشكال والفنيات المستعمَلة. ولا يزال هناك جهد استطلاعي كبير لا بدّ من القيام به في مشوار هذا النشاط عبر القرون من أجل استرجاع الذاكرة بشكل تامّ.
اليوم وغدا
إنّ العلامة الفاخرة للطرز الجزائريّ عنصر ثمين من عناصر التراث الوطنيّ. في كلّ مناطق الجزائر، وبفضل العناية الرزينة للكثير من النساء اللائي ينقلن أسرار الطرز – من الأمّهات إلى البنات غالبا -، بات الحفاظ على هذا التراث ممكنا حتى أُنقذ من الاندثار. ما زالت هذه الممارسة العائلية الحية، على تقلّصها بسبب عوامل الحداثة، تنتج يوميا آلاف الكنوز وتوصل الأشكال والألوان والرموز التي تعود إلى أزمنة غابرة. وبالموازاة مع ذلك، ظهرت حِرَفياتٌ جديدة يشتغلن في البيت أو في تعاونيات أو في معامل، يجتهدن من أجل الحفاظ على هذا التقليد في شكله الأصلي. ليس هناك بدٌّ من تشجيع هذا العمل، خاصة بمساعدة النساء اللائي يقمن به بشغف، وترقيّتهن. وموازاة مع ذلك، وكما بدأ العمل به، لا مناصّ من دعم كلّ التجارب المبدعة التي تخوض، انطلاقا من الطرز التقليدي، في مجال الخياطة الراقية والفن الحديث والتصميم… إذا كان خيط الطرز الجزائري قد استطاع أن ينغرز في التاريخ وتمكّن من الحفاظ على تمتّعنا بسعادة إرث رائع، فهو مستعدّ لبلوغ آفاق ومجالات أخرى في مناطق الإبداع التي لا تحدّها حدود.
شكرا
ما اروع ما تزخر به جزائرنا من حرف و ابداعات من انامل نساءها
بارك الله فيك على الموضوع اختي.
|
وفيك بارك الله اختى لينة اسماء
صحيح بقدر شساعة بلادنا بقدر تنوع موروثنا الحرفى التقليدى
شكرا مرورك الراقى
شكرا لك على المجهودات القيمة
تحياتي وتقديري لك وكل شكري