لعوامل زيادة الإيمان وأسباب النقصان
من نصوص السنَّة والقرآن
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالتصديق بالقلب والإقرارُ به هو الجزء الأصليُّ في الإيمان، وأعمالُ القلب يُشترط في قَبولها الإخلاصُ فيها لله تعالى وهو عملٌ قلبيٌّ، بل هي مِن أهمِّ المطالب، إذ لا تُقبل الأعمالُ الظاهرةُ إن خَلَتْ مِن الأعمال القلبية، ولا عِبْرةَ بصلاح الظاهر مع فساد الباطن، لقوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»(١).
لذلك وجب على المسلم العنايةُ بإصلاح باطنه بتطهير قلبه ممَّا يُدنِّسُه مِن الآفات والمكروهات، وعمارتِه بمحبَّة الله عزَّ وجلَّ ومحبَّةِ ما يحبُّه اللهُ عزَّ وجلَّ، والعملِ على تقوية إيمانه، والخشيةِ مِن كلِّ ما يباعد عنه.
وقد جعل الله تعالى النظرَ في آياته الكونية، والتدبُّرَ في آياته السمعية، والتقرُّبَ بالعبادات الشرعية وغيرها مِن الأسباب الشرعية سبيلاً مدعِّمًا للإيمان تزيد فيه وتقوِّيه، ومظاهرَ نافعةً تجلبه وتنمِّيه، ويمكن أن نُجمل هذه الأسبابَ فيما يلي:
أوَّلاً: النظر في الآيات الكونية: ممَّا خَلَقه اللهُ سبحانه في السماوات والأرض، فإنَّ تدبُّرها وإمعان النظر فيها مِن أعظمِ ما يعود على الإنسان بالنَّفع في تقوية إيمانه وتثبيته، ولذلك رغَّب الله سبحانه عبادَه -في كتابه الكريم- في التأمُّل في آياته الكونية الدالَّة على وحدانية الخالق وتفرُّده وقدرتِه ومشيئتِه وعِلْمِه وكرمِه ولُطفِه وكماله سبحانه، وقد نَدَب إلى النظر والتفكُّر ليزدادَ العبدُ حبًّا لله وتعظيمًا وإجلالاً وطاعةً له وانقيادًا إليه وخضوعًا له وملازمةً لذكره، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠-١٩١]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِن رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ [الإسراء: ١٢]، وقال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: ١٧-٢٠]، فالنظرُ في آياته ومفعولاتِه الدالَّةِ على عَظَمة خالقِها وعظمةِ سلطانه وشمولِ قدرته وما فيها مِن الإحكام والإتقان، وبديعِ الصنيع ولطائف الفعل مِن أعظمِ ثمراته ما ينعكس على القلب بتعلُّقه بخالقه البديع، ومحبَّتِه وشكره وتعظيمه، وبذلِ الجهد في مرضاته وعدمِ الإشراك به، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وإذا تأمَّلتَ ما دعا الله سبحانه في كتابه عبادَه إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفاتِ كماله، ونعوتِ جلاله، مِن عموم قدرته وعلمه، وكمالِ حكمته ورحمته، وإحسانه وبِرِّه، ولطفه وعدله، ورضاه وغضبِه، وثوابِه وعقابِه، فبهذا تَعَرَّفَ إلى عباده ونَدبهم إلى التفكُّر في آياته»(٢).
ومِن النصوص المرغِّبة في التأمُّل في آيات الله الكونية قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، فقد دلَّت الآيةُ على ازدياد اليقين وتقوية الإيمان بالرؤية البصرية والمشاهدة الواقعية لكيفية إحياء الموتى.
قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «روى ابن جريرٍ بسنده الصحيح إلى سعيدٍ قال: قولُه: ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ أي: يزداد يقيني، وعن مجاهدٍ قال: لأزداد إيمانًا إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه السلام -مع أنَّ نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلَّم قد أُمر باتِّباع ملَّته- كان كأنَّه ثبت عن نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك»(٣).
ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ الآية السالفة الذكرِ تدلُّ على مرتبتَيِ اليقين، حيث أراد إبراهيمُ الخليل عليه السلام الانتقالَ مِن «علم اليقين» الذي يعلمه الإنسانُ بالدليل الشرعيِّ أو العقليِّ إلى «عين اليقين» الذي يحصل بمشاهدة الشيء بعد العلم اليقينيِّ به، وهذا الانتقال مِن «علم اليقين» إلى «عين اليقين» هو الذي سمَّاه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شكًّا في قوله: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]»(٤).
ولليقين مرتبةٌ ثالثةٌ -أيضًا- تحصل بمباشرة الشيء بعد العلم اليقينيِّ به ومشاهدتِه له بعد العلم به، وتسمَّى هذه المرتبة ﺑ«حقِّ اليقين».
ومِن النصوص القرآنية الدالَّة -أيضًا- على ازدياد اليقين الذي هو أعظمُ حياةٍ للقلب، وتقويةِ الإيمان بالمشاهدة الحسِّيَّة والرؤية البصرية قولُه تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥]، ومعنى الآية أنَّ الله تعالى وفَّق إبراهيمَ الخليل عليه السلام للتوحيد ليرى بنظره بديعَ صُنْعِه وعظيمَ ملكوته وما اشتمل عليه مِن الأدلَّة الساطعة على وحدانية الله تعالى في مُلكه وخَلْقِه، فيحصل له اليقينُ ويزداد له الإيمانُ بحسب التأمُّل في تلك الآيات الكونية الظاهرة(٥).
ثانيًا: التدبُّر في آياته المسموعة والتفكُّر فيها: وهو على نوعين على ما قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «تفكُّرٌ فيه ليقع على مراد الربِّ تعالى منه، وتفكُّرٌ في معاني ما دعا عبادَه إلى التفكُّر فيه، فالأوَّل: تفكُّرٌ في الدليل القرآني، والثاني: تفكُّرٌ في الدليل العِياني، الأوَّل: تفكُّرٌ في آياته المسموعة، والثاني: تفكُّرٌ في آياته المشهودة، ولهذا أنزل الله القرآنَ ليُتدبَّر ويُتفكَّر فيه ويُعْمَلَ به، لا لمجرَّد تلاوته مع الإعراض عنه»(٦).
وقراءة القرآن وتدبُّرُ آياتِه السمعية مِن أسباب تقوية الإيمان وتنميته، وقد جعله اللهُ مباركًا وهدًى ورحمةً للعالمين، وبشرى وذكرى للذاكرين، يهدي للَّتي هي أقوم، ويشفي مِن الأسقام وأمراض القلوب مِن شبهاتٍ وشهواتٍ، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩]، وقال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٥]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩]، وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا﴾ [الإسراء: ٨٢].
وقد أمر الله تعالى عبادَه بالعناية بالقرآن الكريم حفظًا وتلاوةً وعلمًا وسلوكًا وحثَّهم على تدبُّره، وأخبرهم أنه يزيد في إيمانهم إذا قرؤوه وتدبَّروا معانيَه، وعاتب كلَّ مَن لم يخشع مِن المؤمنين عند سماع القرآن، وحذَّرهم مِن مشابهة الكفَّار في تركهم لذكرِ الله تعالى حتى قَسَتْ قلوبُهم، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩]، وقال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمَّد: ٢٤]، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: ٢]، وقال تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: ٢٣]، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد: ١٦].
هذا، وإنما يرفع اللهُ بالقرآن الكريم ويزدادُ به إيمانًا مَن اعتنى بقراءته وتدبُّره وفهمِ معانيه، وكيفيةِ الاستفادة منه وعَمِلَ بمقتضاه، فإنه يتمُّ لهذا المعتني النفعُ به ويكون حجَّةً له، قال صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»(٧)، وقال صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»(٨).
قال الآجُرِّيُّ -رحمه الله-: «ومَن تدبَّر كلامَه عرف الربَّ عزَّ وجلَّ، وعَرَفَ عظيمَ سلطانه وقدرتِه، وعظيمَ تفضُّله على المؤمنين، وعَرَف ما عليه مِن فرض عبادته، فألزم نَفْسَه الواجبَ، فحَذِر ممَّا حذَّره مولاه الكريم، فرَغِب فيما رغَّبه، ومن كانت هذه صفتَه عند تلاوته للقرآن وعند استماعه مِن غيره كان القرآنُ له شفاءً فاستغنى بلا مالٍ، وعَزَّ بلا عشيرةٍ، وأَنِسَ ممَّا يستوحش منه غيرُه، وكان همُّه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها: «متى أتَّعظُ بما أتلو؟»، ولم يكن مرادُه: «متى أختم السورةَ؟»، وإنما مراده: «متى أَعْقِلُ عن الله الخطابَ؟ متى أزدجِرُ؟ متى أعتبر؟»، لأنَّ تلاوة القرآن عبادةٌ لا تكون بغفلةٍ، واللهُ الموفِّق لذلك»(٩).
ثالثًا: التقرُّب بالعبادات الشرعية: سواءٌ كانت باطنةً أو ظاهرةً، وهذه العبودية الشرعية منقسمةٌ على:
● القلب: كالإخلاص والمحبَّة والتوكُّل والإنابة والخوف والرجاء والخشية والرضى والصبر وغيرها مِن الأعمال القلبية التي هي رأسُ الأمر وأساسُ الأعمال الظاهرة، إذ صلاح حركات العبد الظاهرةِ متوقِّفٌ على صفة حركات قلبه، ولا ينفعه عند الله إلاَّ إذا كان قلبُه سليمًا مِن كلِّ تعكيرٍ بالآفات والأمراض والشبهات والمكروهات وكلِّ ما يُباعِد عن الله تعالى، ليس في قلبه إلاَّ محبَّةُ الله تعالى ومحبَّةُ ما يحبُّ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٨-٨٩].
● واللسان: كالشهادة والذِّكْرِ مِن تلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد، والتكبير والاستغفار، والأذان وغيرها ممَّا ورد الحثُّ على الإكثار منه بالنصوص الشرعية وتبيَّن فضلُه، قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨]، وقال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٣٥]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: ٢]، وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥؛ الجمعة: ١٠]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١]، وقال صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: «سَبَقَ المُفَرِّدُونَ»، قَالُوا: «وَمَا المُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ»(١٠)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»(١١)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ»(١٢).
● والجوارح: كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحجِّ والجهاد وغيرها مِن أعمال الجوارح التي أمر الله تعالى عبادَه بها ونَدَبهم إليها، وهي مِن أعظم أسباب زيادة الإيمان وتقويته، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١-١١]، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيما يرويه عن ربِّه تبارك وتعالى: «.. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا …»(١٣).
رابعًا: تعلُّم العلم الشرعيِّ وتحصيلُه والعمل بمقتضاه: لأنَّ التوفيق للفقه في الدِّين مِن أعظم أسباب زيادة الإيمان، والمرادُ بالعلم الشرعيِّ هو الذي يفيد ما يجب على المكلَّف مِن أمر دينه، ومعرفةِ خالقه سبحانه وصفاتِه، وما يجب له مِن القيام بأمره، وتنزيهِه عن النقائص، ومِن النصوص الشرعية المبيِّنة لمنزلة العلم ومكانةِ أهله قولُه تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: ١١]، وقولُه تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: ٢٨]، وقولُه تعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨]، وقولُه تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: ٥٤]، وقولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(١٤).
خامسًا: مجالسة الصالحين مِن أهل الإيمان والعلم والتقوى المتَّبعين للسُّنَّة الملتزمين لهدي النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قولاً وفعلاً، فإنَّ مجالستَهم والانتفاعَ بعلمهم ودعائِهم، والاستماعَ إلى وعظهم ونصائحهم في الترغيب في طاعة الله وطاعةِ رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والتحذيرِ مِن الوقوع في المعاصي والذنوب والأضرار، والإرشادِ إلى مكارم الأخلاق والآداب الحسنة، ومشاهدةَ أعمالهم الصالحة، فضلاً عن توجيههم إلى الإعانة على فعلِ الخيرات، وتذكيرِهم بوعد الله لأوليائه ووعيده لأعدائه، وغيرِ ذلك مِن أسباب حصول النفع وزيادة الإيمان هي ثمرةٌ طيِّبةٌ متولِّدةٌ مِن صحبتِهم والاختلاط بهم والاجتماعِ معهم. وفوائدُ صحبة الأخيار غيرُ حاصلةٍ أبدًا في صحبة الأشرار، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨]، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ»(١٥)، قال الخطَّابيُّ -رحمه الله-: «وإنما حذَّر مِن صُحبة من ليس بتقيٍّ، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإنَّ المطاعمة تُوقِعُ الألفةَ والمودَّة في القلوب»(١٦).
وممَّا يدلُّ -أيضًا- على بركة العلم والتوفيق للفقه في الدين وما يحصل مِن مجالسة الصالحين الملتزمين بالهدي النبويِّ مِن الانتفاع بعلمهم ودعائهم هو قولُه صلى الله عليه وسلَّم: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»(١٧)، والحديث يدلُّ على تقوية الجزء الأصليِّ في الإيمان -وهو التصديق بالقلب والإقرارُ به-، وذلك بالتقرُّب بالطاعات، ومنها: طلبُ العلم الشرعيِّ، وما يجني مِن ثمراتِ مجالسة الصالحين مِن أهل التقوى والإيمان المتَّبعين للهدي النبويِّ الملتزمين بالسنَّة، وما يحصل مِن فضل مجالس الذِّكر والذاكرين المشتملة على تلاوة القرآن وتدبُّره ومدارسته، وما تحويه مِن عموم الذكر الوارد مِن تسبيحٍ وتكبيرٍ وتهليلٍ وغيرها، كما تشتمل على الدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة، وقراءةِ الحديث النبويِّ، ودراسةِ العلم الشرعيِّ والمناظرةِ فيه مِن جملة ما يدخل تحت مسمَّى الذكر(١٨)، على أن تكون هذه المجالس منعقدةً على الوجه الشرعيِّ، ومقيَّدةً باتِّباع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى تتَّصف بالصلاح ويُجنى منها الخيرُ والبركة، عملاً بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ [آل عمران: ٣١]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: «هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّةَ الله وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذبٌ في دعواه في نفس الأمر حتى يتَّبع الشرع المحمَّديَّ والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(١٩)»(٢٠).
سادسًا: العمل على إدراك عِظَم الدِّين الإسلاميِّ وجلال محاسنه: بالتمعُّن في شرائعه وأحكامه وأعماله، والتأمُّلِ في عقائده وأخلاقه وآدابه، لكونه سبيلَ اطمئنان القلب وتذوُّقه لحلاوة الإيمان، فيتزيَّنُ الباطنُ بحقيقة الإيمان ويزيدُه تمسُّكًا بأصوله وثباتًا على عقيدته، ويتزيَّنُ الظاهرُ بأعمال الإيمان ويزيدُه طاعةً، قال تعالى -ممتنًّا على خيار خَلْقه-: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ٧]، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «والمقصود أنَّ خواصَّ الأُمَّة ولُبابَها لمَّا شهدت عقولهم حُسْن هذا الدِّين وجلالَتَه وكمالَه، وشهدت قُبْحَ ما خالفه ونَقْصَه ورداءتَه؛ خالط الإيمانُ به ومحبَّتُهُ بشاشةَ قلوبهم، فلو خُيِّرَ بين أن يُلقى في النار وبين أن يختارَ دينًا غيرَه؛ لاختار أن يُقذَف في النَّار وتُقَطَّعَ أعضاؤُه ولا يختار دينًا غيرَه، وهذا الضرب مِن الناس هم الذين استقرَّتْ أقدامُهم في الإيمان، وهم أبعدُ الناس عن الارتداد عنه، وأحقُّهم بالثَّبات عليه إلى يوم لقاء الله»(٢١).
سابعًا: دراسة سيرة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسُنَّته ومختلفِ معاملاته مع أزواجه وأصحابه وأقربائه وعموم المؤمنين، والتأمُّلُ في نعوته الشريفة وخصاله الكريمة وشمائله الحميدة وما يتمتَّع به مِن رفيع الأخلاق وحَسَن الآداب، وقد أثنى الله تعالى عليه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]، ووصَفَه سبحانه بقوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨]، فإنَّ المتأمِّلَ في سيرة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسلوكِه وأخلاقِه يُورثه زيادةَ محبَّتِه، وهي زيادةٌ في الإيمان تدفعه إلى تجريد المتابعة له وتحقيقِها بالقول والعمل، ينتج عنه استقامةٌ في الدِّين وصلاحٌ في العمل، وهو مِن أعظم سُبُل الهداية، إذ إنَّ معرفتَه توجِب للعبد المبادرةَ للإيمان ممَّن لم يؤمن، وزيادةَ إيمانِ مَن آمن به، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١]، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «ومنهم مَن يهتدي بمعرفته بحاله صلَّى الله عليه وسلَّم، وما فُطر عليه من كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأنَّ عادة الله أن لا يُخزيَ من قامت به تلك الأوصافُ والأفعال لِعِلْمه بالله ومعرفته به، وأنه لا يُخزي مَن كان بهذه المثابة كما قالت أُمُّ المؤمنين خديجةُ رضي الله عنها له صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَبْشِرْ فَوَاللهِ لَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيفَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ»(٢٢)»(٢٣).
ثامنًا: الدعوة إلى الله تعالى بما تحصَّل مِن علوم الدِّين والالتزام بشرائعه، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للمسلمين، مع التواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، والْتزام أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة، والرفق والصبر على المدعوِّين، مع بصيرةٍ تامَّةٍ بما يدعوهم إليه متَّخذًا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قدوةً له في الدعوة بفهم حَمَلةِ هذا الدِّين مِن هُدَاةِ الأنام وحُمَاة الإسلام، أهلِ المواقف والمشاهد العظام: صحابته الكرام، الذين خاطبهم اللهُ بقوله: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، ومَن سَلَكَ سبيلَهم واقتفى آثارَهم مِن دعاة الهدى ومصابيح الدجى، فإنَّ القيام بالدعوة على هذا الوجه والاتِّصافَ بأخلاقهم وسلوكهم ودعوتهم لَهي مِن أعظم بركة الداعية في لقائه والاجتماع به، ذلك النفعُ العظيم الذي تنعكس ثمراتُه بزيادة إيمانه وإيمان المدعوِّين، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «ومِن بركة الرجل أن يكون مُعلِّمًا للخير، داعيًا إلى الله، مذكِّرًا به، مرغِّبًا في طاعته، ومَن خلا مِن هذا فقَدْ خلاَ مِن البركة، ومُحِقَتْ بركةُ لقائه والاجتماع به»(٢٤).
هذا، وأخيرًا، فإذا كانت نصوصُ الكتاب والسنَّة تشهد على زيادة الإيمان وتقويته بالنظر في آيات الله الكونية وتأمُّلها، والتدبُّرِ في آيات الله السمعية، والتقرُّب بالعبادات الظاهرة والباطنة؛ فإنَّ هذه النصوصَ الشرعية -في حدِّ ذاتها- تدلُّ -بفعل ضدِّها- على ضعف الإيمان، وذلك بترك النظر في آيات الله الكونية والتأمُّل فيها، وعدم التدبُّر لآياته السمعية، وتركِ التقرُّب بالعبادات الشرعية، لأنَّ المعلوم أنَّ كلَّ دليلٍ دلَّ على زيادة الإيمان فهو يدلُّ على نقصانه باللزوم؛ لأنَّ الزيادة تستلزم النقصَ ولا تكون إلاَّ منه، وبالعكس -أيضًا- فإنَّ كلَّ دليلٍ دلَّ على نقصان الإيمان فهو يدلُّ على زيادته.
وقد تَرِدُ أسبابٌ أخرى لها تأثيرٌ في الإيمان بالنقصان، ومِن أعظمها: الجهلُ المضادُّ للعلم؛ لأنَّ الجهل وفسادَ العلم يُفضيان بالضرورة إلى فساد الأعمال ونقص الإيمان.
ومنها: الأعداء الباطنيون: كالشيطان ووسوسته، والهوى والنفس الأمَّارة بالسوء.
ومنها: اللهو واللعب والغفلة والنسيان والإعراض وارتكاب الذنوب وفعلُ المعاصي.
ومنها: الاشتغال بعَرَض الحياة الدنيا، والانهماكُ في طلبها، والسعيُ في فتنتها، والجريُ خلف ملذَّاتها ومُغْرِيَاتها.
ومنها: مخالطة الأشرار وصحبةُ قُرَناء السوء.
فهذه الأسباب المضادَّةُ لزيادة الإيمان وغيرُها مِن أعظم المؤثِّرات على نقصانه، بل قد يضعف إيمانُ قلب العبد إلى غاية الاضمحلال والتلاشي، والمسلمُ الحريص على دينه والخائفُ مِن ضعف إيمانه مطالَبٌ بأن يعرف هذه الأسبابَ ليكون على حذرٍ منها، وليجاهدَ نفسه ويُبْعِدَها عن نفسه لئلاَّ يقع فيها.
وأختم هذه الكلمةَ بحديث حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ رضي الله عنه قال: «لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: «كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟» قَالَ: قُلْتُ: «نَافَقَ حَنْظَلَةُ»، قَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟» قَالَ: قُلْتُ: «نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا(٢٥) الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا»، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: «نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»(٢٦).
والحديث يدلُّ على أنَّ حنظلة بن الربيع رضي الله عنه خاف مِن النفاق، والخوفُ إنما حصل له بعد أن كان في مجلس رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يزداد إيمانُه بالذكر وشدَّة التفكُّر والاعتبار والمراقبة والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالأزواج والأولاد ومعاش الدنيا، الأمر الذي أشعره بضعفٍ في إيمانه إذا ما قُوبل بما كان عليه في مجلس الذكر، فخاف أن يكون ذلك نفاقًا، فأعلمه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه ليس بنفاقٍ، إذ ليس في مقدوره الدوامُ على درجةٍ واحدةٍ مِن الإيمان، لكونه متفاوتَ الدرجات، فساعةً يزيد إيمانُه إذا حصلت أسبابُ الزيادة، وساعةً يضعف إذا حصلت أسباب النقصان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
المـوافق ﻟ: ٢٠ ماي ٢٠١٤م
(١) أخرجه البخاري في «الإيمان» (١/ ١٢٦) باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم في «المساقاة» (١١/ ٢٧) باب أخذ الحلال وترك الشبهات، مِن حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما».
(٢) «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (٢/ ٥).
(٣) «فتح الباري» لابن حجر (١/ ٤٧).
(٤) أخرجه البخاري في «الأنبياء» (٦/ ٤١٠-٤١١) باب قوله: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾، ومسلم في «الفضائل» (١٥/ ١٢٢) باب فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥) انظر: «تفسير الطبري» (٧/ ٢٤٧)، «تفسير ابن كثير» (٢/ ١٥٠)، «تفسير السعدي» (٢٩٢).
(٦) «مفتاح دار السعادة» (١/ ٥٥٤).
(٧) رواه مسلم في «صلاة المسافرين» (٦/ ٩٨) باب فضل مَن يقوم بالقرآن ويعلِّمه، وابن ماجه في «المقدِّمة» (١/ ٧٩)، باب فضل من تعلَّم القرآن وعلَّمه، والدارمي في «فضائل القرآن» (٢/ ٤٤٣) باب: «إنَّ الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا»، مِن حديث عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
(٨) أخرجه مسلم في «الطهارة» (٣/ ١٠٠) باب فضل الوضوء، والترمذي في «الدعوات» (٥/ ٥٣٥)، والنسائي في «الزكاة» (٥/ ٥) باب وجوب الزكاة من حيث أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه.
(٩) «أخلاق حَمَلة القرآن» للآجرِّي (١٠).
(١٠) أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ٤) باب الحثِّ على ذكر الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١١) أخرجه البخاري في «الدعوات» (١١/ ٢٠٨) باب فضل ذكر الله عزَّ وجلَّ، ومسلم في «صلاة المسافرين» (٦/ ٦٨) باب استحباب صلاة النافلة في بيته، من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.
(١٢) أخرجه البخاري في «التوحيد» (١٣/ ٣٨٤) باب قول الله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ﴾، ومسلم في «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ٣) باب الحثِّ على ذكر الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٣) أخرجه البخاري في «الرقاق» (١١/ ٣٤٠) باب التواضع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٤) أخرجه البخاري في «العلم» (١/ ١٦٤) باب: «من يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقِّهه في الدِّين»، ومسلم في «الزكاة» (٧/ ١٢٨) باب النهي عن المسألة، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
(١٥) أخرجه أبو داود في «الأدب» (٥/ ١٦٧) باب من يُؤمَر أن يجالس، والترمذي في «الزهد» (٤/ ٦٠٠) باب ما جاء في صحبة المؤمن، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، وهو حديثٌ حسنٌ كما في «صحيح الجامع» للألباني (٦/ ١٥٨) برقم: (٧٢١٨).
(١٦) «معالم السنن» للخطَّابي (٥/ ١٦٨).
(١٧) أخرجه مسلمٌ في «الذكر والدعاء» (١٧/ ٢١) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، كما أخرجه الترمذيُّ في «القراءات» (٥/ ١٩٥) باب (١٢)، وابن ماجه في «المقدِّمة» (١/ ٨٢) باب: فضل العلماء والحثِّ على طلب العلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٨) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٢١٢).
(١٩) أخرجه مسلم في «الأقضية» (١٢/ ١٦) باب نقض الأحكام الباطلة وردِّ محدثات الأمور، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٢٠) «تفسير ابن كثير» (١/ ٣٦٩).
(٢١) «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (٢/ ٣٤٣)
(٢٢) أخرجه البخاري في «بدء الوحي» (١/ ٢٢) باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومسلم في «الإيمان» (٢/ ١٩٧) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٢٣) «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (٢/ ٣٤٢).
(٢٤) «رسالةٌ إلى كلِّ مسلم» لابن القيِّم (٥/ ٦).
(٢٥) من المعافسة: المُعالجة والممارسة والمُلاعبة. [«النهاية» لابن الأثير (٣/ ٢٦٣)].
قال النوويُّ في [«شرح مسلم» (١٧/ ٦٦)]: «معناه: حَاوَلْنا ذلك ومَارَسْناه واشتغَلْنا به، أي: عالَجْنا معايشَنا وحظوظَنا، والضيعات جمع ضيعةٍ -بالضاد المعجمة- وهي معاش الرجل مِن مالٍ أو حرفةٍ أو صناعةٍ».
(٢٦) أخرجه مسلمٌ في «التوبة» (١٧/ ٦٥-٦٧) باب: فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، وأخرجه الترمذيُّ في «صفة القيامة» (٤/ ٦٦٦) باب: (٥٩). وابن ماجه في «الزهد» (٢/ ١٤١٦) باب المداومة على العمل، وابن حبَّان في «صحيحه» في «البرِّ والإحسان» (٢/ ٥٥) باب ما جاء في الطاعات وثوابها، من حديث حنظلة بن الربيع الأُسَيِّديِّ رضي الله عنه.
المصدر …موقع الشيخ فركوس حفظه الله