انتشار الاتصالات الكيمياوية في العالم الحيواني: ستذكر هنا أمثلة قليلة عن استخدام الحواس الكيمياوية في الاتصال بين الحيوانات، مع العلم أن الروائح ربما تؤلف أهم قناة لتحديد هوية النوع لدى معظم الحيوانات. وهنا لا تُستثنى من المجموعات الحيوانية الكبيرة سوى الطيور التي تفتقر، كما يعتقد، إلى حاسة نامية للشم. ولكن مع ذلك لاشك في أن بعض أنواع الطيور تعرف برائحة خاصة يشعر بها حتى الإنسان الذي يتصف بضعف حاسة الشم. ويذكر في هذا الصدد أن طائر الحميمق long- legged bizzard يتمتع بحاسة قوية للشم مثلما هي حاسة الإبصار عنده.
أما الحشرات فقلما يوجد منها ما لا يستخدم الشم في الجذب الجنسي أو لتحديد الهوية؛ حتى ما كان منها يعتمد الإشارات الضوئية الوامضة (كاليراعة fire fly) أو الإشارات الصوتية الغنائية (كالجنادب)، فإنه يستخدم الروائح في بعض مراحل العملية التناسلية. فالفراشات، التي تعد أقرباء نهارية للعث الليلي، تضم أنواعاً لذكورها حراشف على أجنحتها تفوح منها رائحة تفيد في تعرف الأنثى هوية الذكر بعد أن تكون قد جاءته من بُعد من إشارات إبصارية. ولعل من الممتع حقاً أن ترى مجموعة من ذكور الصراصير العادية تقف ساكنة بلا حراك عند تحريك قطعة نظيفة من ورق النشاف فوقها، في حين تشرع بهز أجنحتها عند استخدام قطعة من ورق نشاف كانت قد وقفت عليها إناث الصراصير. ولقد أمكن عزل المادة الجاذبة للجنس من إناث الصرصور الأمريكي، وجرى تحديد صيغتها الكيمياوية. وفي بعض أنواع النمل تلقي النملة الكشافة في رحلة العودة، بعد عثورها على مصدر غذائي، سلسلة من قطيرات ذات رائحة تؤلف أثراً خطياً ذا رائحة؛ تتبعه العاملات وتهتدي به إلى الغذاء، (على الرغم من بقاء النملة الكشافة في العش). وهناك عدد من التجارب يشير إلى أن الأثر الخطي ذا الرائحة الذي يكونه النمل يتصف بقطبية اتجاهية يتعرف النمل بها طريق الذهاب وطريق الإياب، ويرى فوريل Forel (الباحث الكبير في سلوك النمل) أن للنمل حاسة كيمياوية خاصة تتيح له أن يميز الرائحة وأن يميز في الوقت نفسه شكل القطيرة التي تنشرها. وتفتقر هذه الفكرة إلى البرهان، ذلك أنه يعرف عن النمل استخدامه الشمس لتعرف طريق العودة إلى العش. وهكذا ربما يفضل قبول استخدام النمل للأثر ذي الرائحة في معرفة المسار، مع استخدامه الشمس في معرفة الاتجاه. وليس الذباب بأقصر باعاً من غيره من الحشرات في استخدام الإشارات الكيمياوية في هداية بعضه بعضاً إلى مكان الغذاء. فالذباب مع كونه لا يعيش حياة اجتماعية فإنه يسم الطعام الذي يعثر عليه برائحة خاصة تجتذب باقي الذباب إليه.
أما استخدام الحشرات للإشارات الكيمياوية بهدف الإنذار، فإنه يشاهد لدى نحل العسل الذي يثير باقي المستعمرة بالطواف جرياً وبإطلاق رائحة هي نفسها رائحة لسعة النحل فتهيج هذه الرائحة النحل ولكنها لا تحثه على اللسع.
ولا يستخدم الروائح بوجه عام للجذب الجنسي من الفقاريات غير الثدييات، مع أن الكثير من المجموعات الأخرى في الفقاريات يستخدم الروائح في تعرف النوع. وإذا كان معروفاً عن بعض السمك أنه يطلق مواد كيمياوية تحدد هوية النوع، أو حتى الفرد من النوع الواحد، فليس هناك دليل على استخدامه لها في تلاقي الجنسين حتى اليوم، وإن كان لا يستبعد ذلك ولاسيما لدى بعض أسماك القوبيون gobies. وبالمقابل فإن كثيراً من أنواع الثدييات تطلق إناثه روائح مميزة عندما تكون مستعدة للتزاوج في فصل الوداق أو الشبق oesturs وتجذب هذه الروائح ذكور تلك الأنواع. حتى عندما يجري استخدام الوسائل الأخرى للجذب فإن تعرف النوع في معظم الثدييات غالباً ما يجري عن طريق اكتشاف الذكر لرائحة الأنثى .
وهناك من الثدييات ما يستخدم الذوق عوضاً عن الشم. فذكر الزراف مثلاً يتذوق بول الأنثى لمعرفة حالتها الجنسية.
ويحدث في بعض الثدييات أن يطلق الذكر رائحة متميزة تجذب الإناث إليه أو تتيح لها تعرف هويته. فذكر الشمواه Chamois (من الظباء) مثلاً يسم الشجر في منطقته بعلامات ذات رائحة، عن طريق فرك تلك الأشجار بقرونه التي تمتلك غدداً للرائحة في قواعدها. وتنجذب إناث الشمواه إلى هذه المناطق الموسومة حيث تلاقي الذكور.
أما تعرف الأبوين صغيرهما عند الثدييات فيبدو أنه شمي بالدرجة الأولى، خلافاً لتعرف الصغير أبويه، فهو من طبيعة بصرية وسمعية.
الجمل البصرية: تقوم الحيوانات المزودة بعيون نامية بإصدار إشارات بصرية (ضوئية). ولئن كانت هذه الإشارات تعمل عن بعد، فإن ذلك البعد لا يكون كبيراً في معظم الحالات. ومن الواضح أن المسافة المجدية للإشارة البصرية إنما تعتمد على حساسية الواحدة المستقبِلة البصرية (المستقبِلة الضوئية). ثم إن الإشارات الضوئية تعطي أفضل دلالة على الاتجاه، كما أنها تتغير بسرعة مع الزمن وتستخدم مجالاً كبيراً من الشدة، الأمر الذي يمنحها قدراً كبيراً من المرونة.
وأخيراً تتصف هذه الإشارات الضوئية بسرعة تشغيلها وإيقافها مما يسمح بالترميز الدقيق للمعلومات.
طبيعة الإشارات البصرية: يتمثل أكثر الإشارات البصرية تخصصاً في الوميض الذي تولده متعضيات مضيئة مثل اليراعة والبق المضيء بوساطة أعضاء خاصة مولدة للضوء، انطلاقاً من تفاعلات كيمياوية معقدة لا تنشر حرارة. ولكن ليس لمعظم الحيوانات مع ذلك جمل خاصة لتوليد الضوء. يضاف إلى ذلك أن الأعضاء المولدة للضوء، إن وجدت، لا تعمل إلا في الظلام، من ثم يكون استخدامها محدوداً.
تتصف جميع الحيوانات بأجسام محددة الأشكال، كما يتصف الكثير منها بألوان نوعية، وهذا يعد بحد ذاته إشارات بصرية (ضوئية). ولعل الطراز اللوني المميز في ذكور الطيور يوضح إمكان استخدام الشكل واللون في تعيين هوية النوع الحيواني وفي تحديد جنسه ذكراً كان أو أنثى. ولكن كثيراً من الحيوانات لا يتصف بألوان نوعية، ومع ذلك يمكن تحديد هويته بصرياً بما يقوم به من أنساق حركية تختلف من نوع لآخر، وتكفي لنقل معلومة الهوية والجنس.
استقبال الإشارات البصرية: تتفاوت إمكانات استقبال الضوء، ولاسيما حس الألوان والنماذج، إلى حد كبير. فباستثناء المفصليات التي تضم القشريات والحشرات، وباستثناء الرخويات التي تضم الأخطبوط والحبار، هناك ضعف في نمو العيون لدى اللافقاريات، إذ إن لهذه الأخيرة عيوناً لا تستجيب إلا لمجرد الضياء والظلام فحسب.
وكذلك الأمر لدى بعض الفقاريات الدنيا التي عيونها ليست أفضل حالاً من سابقتها. ولكن لمعظم الفقاريات عيوناً نامية راقية لا تمكن من التمييز بين الضياء والظلام فحسب بل بين الأشكال المختلفة أيضاً، حتى الألوان المتباينة في كثير من الأحيان. ولايخفى ما تتيحه هذه الإمكانات المختلفة من سبل متنوعة للاتصال الحيواني. ولعل الأمثلة القليلة التالية توضح مدى استخدام الحيوانات للإشارات البصرية في اتصالاتها. فلقد طور العديد من ذكور السرطان مخالب وأرجلاً ساطعة الألوان تُرْهِب بها منافسيها، كما تغري بها إناثها أيضاً. وكذلك تستخدم ذكور العناكب والطيور لواحقها في أوضاع متقنة ومناورات راقصة بقصد تحديد هوياتها وجنسيتها. ولا تقل الثدييات في هذا المضمار براعة، فالكلاب والقرود تستخدم تعابير الوجه في الإعلان عن استعداداتها العدوانية مثلاً. ويمكن استخدام كامل الجسم إشارة بصرية، كما هي حال بط الرنكة herring duck الذي يحوم فوق مصدر الطعام معلناً للأفراد الأخرى عن وجود الغذاء.
الاتصال الضوئي لدى الحيوانات ذات النشاط الليلي: يتطلب استخدام الإشارات البصرية، فيما تقدم من أمثلة وغيرها، شيئاً من الضوء حول الحيوان بحيث يقتصر جدواها على النهار.
أما الحيوانات ذات النشاط الليلي والحيوانات التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات فقد طورت أعضاء مولدة للضوء تصدر ومضات ضوئية (ملونة أو غير ملونة) محددة التوزيع في مواقعها من الجسم والإيقاع في انبعاثها، مما يجعلها صالحة لاستخدامها إشارات اتصالية.
فهناك كثير من الحيوانات البحرية، ولاسيما تلك التي تعيش في الأعماق، تأتي إلى السطح ليلاً وتولد ضوءاً ينبعث من أعضاء ضوئية متطورة ذات عدسات تركز الضوء وتزيده سطوعاً. وقد تومِض هذه الأعضاء بإيقاعات مميزة لأغراض التعريف بالنوع والجذب للجنس.
ومن أمثلة ذلك بعض الحشرات التي تعيش على اليابسة والديدان البحرية والأسماك العظمية، مع العلم بأن هذه الأسماك لا تصعد إلى السطح بل تولد الضوء وتستخدمه في الأعماق.
والمعروف أن الضوء الذي تنتجه الأعضاء المولدة للضوء إنما ينجم عن فعل إنظيم يدعى «لوسيفراز» luciferas في ركيزة substrate تدعى «لوسيفرين» luciferine في حال وجود الأكسجين والماء. وقد أمكن تحديد البنية الكيمياوية للوسيفرين، على الأقل، فوجد أنها تختلف من حيوان إلى آخر، كما تختلف كذلك طبيعة العناصر الأخرى المشتركة في التفاعلات الضوئية.
الجمل السمعية: تشارك الإشارات السمعية (الصوتية) الإشارات اللمسية بعض خصائصها. ولما كان الصوت يمثل حركة آلية في الوسط فإنه يمكن للأعضاء اللمسية عند بعض الحيوانات أن تستقبله. ولكن ما يسمى صوتاً حقيقياً هو ذاك الذي يجري استقباله في أعضاء خاصة للسمع. وتعتمد الحيوانات ذات الأعضاء السمعية الراقية على الأصوات في اتصالاتها إلى حد كبير. ولعل ما يميز الأصوات أنها تُستقبل من بعيد، وأنها اتجاهية المسار بحيث توفر إمكانية التعريف بموقع مصدر الصوت إلى جانب مدلوله. ويمتاز الصوت من الضوء بقدرته على الالتفاف حول الحواجز، فلا تعيقه تلك الحواجز. وتكون الاتجاهية الصوتية على أشدها في التواترات العالية. كما تتمتع الأصوات بطيف واسع من التواتر والشدة والطراز. ويسمح هذا التنوع بفروق نوعية هائلة يمكن استخدامها في الاتصال الحيواني على نحو كبير الجدوى. ويمكن للأصوات، علاوة على ذلك، أن تكون مرحلية عابرة، بمعنى أنها تظهر فجأة وتختفي فجأة، ومن ثم تسمح بتوقيت دقيق يصلح لترميز المعلومات ترميزاً دقيقاً.