لنتذكر ظروف تلك الفاجعة، ففي ذلك اليوم إذن قام الرئيس محمد بوضياف بزيارة رسمية إلى عنابة والذي لم يكن مرفوقا بأي مسؤول رفيع المستوى من رجال النظام (لا رئيس الحكومة ولا وزير الداخلية ولا أي واحد من أعضاء الـ(م.أ.د/HCE)، ولا مسؤولي مصالح الأمن) وقد اغتيل من طرف ضابط من ضباط حراسته المقربين وهو يلقي خطابا منقولا على الهواء مباشرة في التلفزة الجزائرية، من دار الثقافة (التي كان قد أشرف على تدشينها في ذلك اليوم) وحسب الروايات الرسمية وكذلك حسب وسائل الإعلام قد نسبت هذا الاغتيال في الوهلة الأولى "إلى ضابط من (ق.إ.أ/DRS) متعاطف مع الـ(ج.إ.إ/FIS) " قبل أن يتداركوا ذلك مستخلصين بأنه "فعل منعزل" وأن القاتل كان ضابطا في (م.ت.خ/GIS) (مجموعة التدخل الخاصة. وحدة التدخل التابعة لـ "ق.إ.أ/DRS") هو الملازم لمبارك بومعرافي المدعو عبد الحق، والذي كان قد أضيف في آخر لحظة إلى المجموعة المكلفة بضمان حماية الرئيس، وهذا بعد أن تم استقبال هذا الأخير على انفراد قبلها ببضعة أيام من طرف العقيد إسماعيل العماري رئيس(م.ج.م/DCE) في مركز عنتر حاملا أمرا بمهمة موقعا من طرف الرائد حمو بلويزة، رئيس (م.ت.خ/GIS)، التحق بباقي أعضاء المجموعة في عنابة يوم 27 جوان، بعد أن قام بإلقاء القنبلة اليدوية على المنصة للتمويه برز القاتل من وراء الستار الخلفي ليفرغ خزان رشاشه الآلي على الرئيس الضحية الوحيدة والفريدة في هذه العملية، وقد استغل القاتل حالة الفوضى والهلع ليتخلص من سلاحه قبل أن يقفز من على صور يحيط بالمكان لارتفاع مترين ويلجأ إلى منزل إحدى المواطنات على بعد 400 متر من مكان الحادث حيث قام بالاتصال هاتفيا بالشرطة وسلم نفسه لها أسيرا.
والشيء الذي لا يصدق أبدا هنا هو عدم تبادر إلى ذهن أي واحد من أفراد الحرس الرئاسي الذين كان يبلغ عددهم ستة وخمسين عنصرا، أن يقوم بأي رد فعل للقضاء على القاتل لحظتها.
إن تأثير المفاجئة لا يفسر كل شيء، لأننا إذا اقتنعنا بأن الحرس القريب يمكن أن يستفيد من هذا التبرير مع أنهم ذوو خبرة عالية ومدربون على هذا النوع من الحالات، فماذا نقول عن الحرس البعيد الذي كان يراقب المكان من الخارج، كل الأبواب والمنافذ والأزقة المحاذية…الخ. لماذا لم يتدخلوا؟ كيف أمكن لبومعرافي أن يغادر دار الثقافة ويقطع مسافة 400 متر بكل اطمئنان في الوقت الذي كان من المفروض أن يكون كل المحيط مطوقا من مصالح الأمن؟ وتسمى هذه الدائرة "بالمحيط الأمني". فهل استفاد ضابط (م.ت.خ/GIS) بتواطئ ما؟ لا يمكن الشك في ذلك أبدا حتى أن لجنة التحقيق التي انطلقت في 4 يوليو 1992 قد "تأسفت" عن السياسة المتواطئة لعناصر (م.ت.خ/GIS). بل أن أحدهم وهو علي دريهم قد أطلق النار وأصاب الشرطي ناصر حمادي الذي انطلق في أعقاب بومعرافي متسببا في إحداث موجة جديدة من إطلاق النيران داخل قاعة دار الثقافة، مما مكن بومعرافي من الهروب على راحته وبكل اطمئنان، هذا الأخير الذي لم يبح أبدا بالدافع الذي حفزه للقيام بهذا العمل، قد حكم عليه بالإعدام إلا أن الحكم لم ينفذ أبدا. في حين أن العديد من الشبان الموصوفين بالإرهابيين قد تم إعدامهم بعد الحكم الصادر ضده بكثير…
إن لجنة التحقيق لم تنكب على بحث الأسباب التي جعلت بومعرافي يوجد داخل القاعة في حين أن ذلك لا يدخل ضمن مهام وصلاحيات عناصر(م.ت.خ/GIS)، حيث أن ذلك من صلاحيات أعضاءمصلحة الأمن الرئاسي(م.أ.ر/SSP) وحدهم الذين كان لهم الحق في الدخول، كما أن اللجنة لم تفسر الاختلالات الملاحظة في ذلك اليوم.
إن العديد من المقالات والكتب التي تناولت هذا الموضوع قد بيّنت العديد من التناقضات الواردة في الرواية الرسمية، لا اعتقد بوجود جزائري واحد غير مقتنع بأن مدبري هذا العمل الشنيع هم بكل تأكيد أصحاب القرار العسكريين الذين يمكن كشفهم بأي لجنة تحقيق محايدة، وكذلك دون تكرار ما كان قد قيل أو كتب أريد أن أورد بعض العناصر من المعلومات التي اطلعت عليها مباشرة والتي يمكن أن تنير الطريق أمام مثل هذه اللجنة لو يقدر لها يوما أن تظهر إلى الوجود.
وواضح هنا منذ البداية بأن الملازم لمبارك بومعرافي لم يكن أبدا من المتعاطفين مع (ج.إ.إ/FIS)، فلم يكن لا إسلاميا، ولا مختلا عقليا ولا ضائعا ولا لامعا، فهو لا يعدو كونه مكلف بمهمة، منفذ لأوامر معينة تلقاها من رؤسائه الكبار في تسلسل الرتب دون أن يكون رئيسه المباشر (حمو بلويزة) على علم بهذه العملية. ومن جهة أخرى فإن دعاية (ق.إ.أ/DRS) المترددة في الصحف حينها جعلت من بومعرافي "ابن حركي" وهو ما كان غير صحيح بالمرة، ذلك أن ابن الحركي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقبل للخدمة في الجيش كمحترف بصفة عامة، فضلا على أن يقبل في المخابرات على وجه التحديد! وزيادة على ذلك قد زاول تعليمه في مدرسة أشبال الثورة بالقليعة التي لا يمكن لابن حركي أن يقبل هناك على الإطلاق. لقد عرفت شخصيا بومعرافي وقد كان ضمن فوج النقيب عبد القادر خيمان الذي كان من معارفي القديمة (لقد انتدب ليخدم تحت أوامري من 1980 إلى 1982 عندما كان يجتاز فترة التطبيق كضابط في الفيلق 52، ثم في فيلق القيادة (إدارة ودعم الفرقة الخمسين، للمشاة المنقولين، وهذا العريف القديم هو اليوم برتبة عقيد).
أستطيع – إذن- أن أجزم بأن بومعرافي ضابط كفؤ همش عن قصد لتكييفه ودفعه إلى أن يصبح قتالا دون إحساس. فمن يناير إلى جوان 1992 أحيل بومعرافي، رغم كفائاته العالية إلى مهام المراقبة في سيدي موسى (فيلا تابعة للأمن العسكري تستخدم كمكان للاتصال، وقد عهد بحراستها (م.ت.خ/GIS) ولم يشارك في أية عملية من العمليات التي قامت بها وحدته. ومن ثمة لم يكن يقبض علاوة المخاطرة(وهي عمليا تساوي مبلغ راتبه الشهري) ولقد كان بومعرافي ورفقائه في سيدي موسى عرضة لتحرش "جماعات أصولية" كل ليلة، مع أنه لم يحصل أن قتل أو جرح أي عضو من (م.ت.خ/GIS) طوال هذه الأشهر الستة (باستثناء الملازم طارق في عملية تيليملي) فقد أصبحت هذه الحالة لا تطاق لا سيما أن غالبية رفقائه من (م.ت.خ/GIS) كانوا في أماكن آمنة سواء في شاطوناف أو في بوزريعة 119.
ومثلما سبق أن قلت، ففي يوم 29 جوان 1992 وبعد ساعتين فقط من اغتيال الرئيس شاركت في اجتماع ضم : المسؤولين الرئيسيين لـ (ق.إ.أ/DRS) في دالي براهيم، بحضور الجنرال خالد نزار وزير الدفاع الذي طلب منا الدعم والمساندة الكاملة، وعدم الخذلان من إطارات جهاز المخابرات، كي يتمكن من مواصلة " مهمته". وكونه قد حرص في تلك الظروف على الاجتماع أولا بمسؤولي (ق.إ.أ/DRS) قبل الاجتمـاع بمسؤولي الجيش فذلك يدل على الأهمية التي كان يوليها لتأييـدهم، خاصة أنه قد عهد إلى (ق.إ.أ/DRS) تنفيذ "خطة العمل" التي كان قد وضعها سنة 1990.
وكون تصفية بوضياف من فعل أحد إطارات (ق.إ.أ/DRS) فإن حضوره يسمح كذلك "برص" صفوفنا حتى لا يكون هناك تسرب ولا احتجاج. وخلال هذا الاجتماع لم يتكلم لا العقيد إسماعيل ولا الجنرال توفيق في حين أنهما كانا معا المعنيين بالدرجة الأولى و كان الأجدر أن يقدما استقالتهما في الحال ومباشرة.
بعد الاجتماع ذهب إسماعيل شخصيا إلى عنابة لإحضار الملازم بومعرافي. وكان قد أصدر الأوامر من قبل إلى رئيس أمن الولاية كي لا يسلمه إلى الدرك الوطني، فلماذا رفض إسماعيل أن يستجوب بومعرافي من قبل الدرك الوطني في حين أن الأمر كان يتعلق بعسكري، وهو من صلاحيات هذا السلك بالذات ليحقق معه في البداية؟ فحسب (ح.ج.ض.أ/MAOL) التي قدمت في موقعها على الانترنيت رواية مفصلة وذات مصداقية عن اغتيال بوضياف120، فإن بومعرافي قد سلم نفسه أولا للشرطة وليس لزملائه لأنه لم يكن يثق في إسماعيل العماري وكان معه الحق لأن هذا الأخير قد كلف اثنين من ضباط الصف في (م.ت.خ/GIS) من بينهما كمال عيدون، كي يقتلا بومعرافي في عنابة ولكونهما قد فشلا في القيام بهذه المهمة فكلا العنصرين قد صفيا في وقت لاحق.
إن سلاح الجريمة الذي رماه بومعرافي بعد القيام بفعلته الشنيعة لم يتم العثور عليه حتى الآن، فكيف يمكن تفسير هذا الاختفاء العجيب؟ لقد كان بومعرافي خلف ظهر الرئيس بوضياف ولكن حسب مصادر موثوقة، فإن رصاصة واحدة على الأقل قد اخترقت قفصه الصدري، فهل كان هناك شخص ثان أطلق النار؟ وكيف يمكن تفسير عدم إجراء أي تشريح للجثة؟ وكيف يمكن كذلك تفسير تلك التقصيرات الحاصلة في جهاز الحماية؟ إن ثلاثة أفراد على الأقل من عناصر (م.أ.ر/SSP) المعنيين مباشرة بحماية الرئيس لم يكونوا في أماكنهم لحظة الفاجعة؟.
وفيما يتعلق بدوافع بومعرافي فقد شرحت هذه الأخيرة من طرف لجنة التحقيق الرسمية التي ادعت العثور على رسالة مخبأة في الجيب الداخلي لسترة بومعرافي مؤرخة في اليوم ذاته الذي وقعت فيه الجريمة وقد كانت موجهة إلى أحد رفقاء دفعته هو الملازم أول عبد الحميد حجاجي، وحسب لجنة التحقيق فإن الرسالة تبرز "أن الجريمة قد ارتكبت لاعتبارات مرتبطة بقناعات دينية، اكتسبها من خلال مطالعاته المتعددة، وبصفة خاصة وقوعه تحت تأثير عمل الحركات الإسلامية داخل الوطن وخارجه، والتي كان يؤيد دعوتها للمطالبة بإقامة دولة إسلامية، معتبرا أنه لم يقتل محمد بوضياف بصفته شخصا لذاته، ولكنه بصفته "رئيس دولة" والحقيقة أن الأمر كله يتعلق بمحض كذب وافتراء من (ق.إ.أ/DRS) كي يجعلوا من هذا الضابط المذنب المثالي.
وهناك نقطة أخرى هامة، وهي أن الرائد حمو بلويزة لم يكن يمتلك صلاحية إمضاء التكليف بمهمة لبومعرافي، لأن الأمر يتعلق بالحماية الرئاسية (التي لم تكن من ضمن صلاحيات "م.ت.خ/GIS") فكيف استطاع العقيد إسماعيل أن يرخص لرئيس (م.ت.خ/GIS) بمجرد اتصال هاتفي أن يقوم بهذا العمل وهو المعروف عنه حرصه الشديد على صلاحياته والذي لم يكن يسمح لمرؤوسيه بالتوقيع حتى على إذن؟ ومن جهة أخرى علمت من مصادر متطابقة (كاتب (م.ر.ع/CPO)، السائق خالد) بأن إسماعيل العماري كان قد استقبل بومعرافي في مركز عنتر ليلة ذهابه في مهمة إلى عنابة (إذن يومان فقط قبل الاغتيال) فما هي طبيعة الحديث الذي دار بين الاثنين؟ فهل كان باستطاعة بومعرافي أن يعصي أمرا لإسماعيل؟ وهناك عنصرا آخر غريب جدا دفعني منذ ذلك الوقت إلى طرح أسئلة حول دور هذا الأخير في اغتيال بوضياف. فأثناء عملية تيليملي التي كانت قد جرت قبل ذلك بأسابيع قليلة، وذهب ضحيتها الرائد عمار ڤطوشي، والملازم طارق (أنظر الفصل السادس). كان النقيب عبد القادر خيمان من (م.ت.خ/GIS)، قد سلم لي قنبلتين هجوميتين إثر نهاية العملية 121 وقد وضعتهما في أحد أدراج مكتبي في شاطوناف، والحال أنني ذهبت في مهمة يوم 11 جوان إلى الباكستان كما سبق أن قلت ولم أعد إلا في 27 جوان، أي يومان قبل اغتيال محمد بوضياف. وأثناء غيابي حدث أن اختفت القنبلتان من درج مكتبي، وبما أنني لم أجد أي وصل لاخلاء الذمة، فقد استنتجت بأنهما قد "انتشلتا" من طرف أحد المسؤولين. فمن يا ترى يمكنه أن يدخل مكتبي سوى مسؤولي المباشر العقيد إسماعيل العماري؟
وفي يوليو 1993 أكد لي النقيب أحمد شاكر الذي كان نائبي في شاطوناف بأن العقيد إسماعيل العماري بالفعل هو الذي أخذ القنبلتين.
والشيء الذي لفت انتباهي هو ما ورد في تقرير لجنة التحقيق في عملية اغتيال بوضياف بأن القنبلة التي فجرها بومعرافي قبل إطلاق النار على الرئيس كان قد احتفظ بها من عملية تيليملي وهو ما كان مستحيلا لأن بومعرافي لم يشارك في هذه العملية على الإطلاق!! بل لم يشارك في أية عملية ضد الإرهاب، وأن رجال الحماية الرئاسية لا تمنح لهم القنابل أبدا، وما كان لبومعرافي أن يحصل عليها بأي حال من الأحوال. فبالضرورة يكون شخص ذو مسؤولية رفيعة هو الذي أعطاه تلك القنبلة التي استعملها في عنابة، وبناء على كل هذه القرائن والأدلة فإني مقتنع تمام الاقتناع بأن إسماعيل هو الذي سلم له بدون شك القنبلتين المأخوذتين من مكتبي بيومين قبل العملية!
وهناك أيضا أحداث غريبة أخرى أحاطت بهذه الفاجعة ذكرها ناصر بوضياف نجل الرئيس في العديد من الكتابات والمقالات الصحفية، ومنها أن سيارة الإسعاف الرئاسية لم تكن تحمل أية تجهيزات وظيفية وكان يقودها سائق ليس له أية معرفة في مجال الإسعاف الشبه الطبي ويجهل كذلك الطريق المؤدية إلى المستشفى. وكان الرئيس بوضياف آخر شخص مصاب في العملية يتم نقله وذلك بسبب تضييع وقت أطول وبدون مبرر في الانتظار أمام مقر ولاية عنابة، وكذلك المروحية الحاملة لجثمانه التي رفض السماح لها بالهبوط في القاعدة العسكرية ببوفاريك، قرب العاصمة. وأخيرا السرعة التي تلقفت بها الشرطة بومعرافي…الخ
وهناك ماهو أخطر من ذلك أيضا، وهو القول المحير الذي باح لي به محمد الطاهر معمري المدير العام للحماية المدنية، في اليوم التالي من جنازة بوضياف حيث أعلمني بأن بوضياف كان قد تعرض لمحاولة اغتيال أثناء الزيارة التي قام بها لوهران قبل ذلك بأسبوع أي قبل تلك التي أتت على حياته في عنابة، وأن هذه المحاولة قد أحبطت بفضل يقظة أحد رجال الشرطة، وكان معمري قد أخبر بالفعل من طرف مصالحه بأن عناصر الحماية المدنية قد اكتشفوا قنبلة موضوعة تحت المنصة التي كان من المقرر أن يلقي بوضياف من فوقها خطابه في الحجار على الساعة الثالثة بعد الظهر، وأن الغداء الذي كان من المقرر أن يتناوله في الفندق العسكري بـ "شابويChapuis " كان مسموما، وأن عناصر الحماية الرئاسية قد حذروا الجنود المكلفين بالحراسة من تناول أي شيء من الأكل المعد (والذين غامروا بذلك وقع لهم تسمم وأن أحد العساكر قد دخل المستشفى من جراء ذلك) ولنا الحق في أن نطرح تساؤلات مشروعة عن الامتناع المطلق للصحافة وقتها عن ذكر أي شيء عن هذه المحاولة المزدوجة للاغتيال أثناء زيارة ناحية وهران، وكذلك عن سبب تخلي وزير الداخلية (قد كان حينها الجنرال العربي بلخير) عن مرافقة الرئيس في هذه الزيارة الهامة إلى عنابة، والذي كان من المفروض أن يقابل الولاة، وهناك محاولة أخرى لتصفية بوضياف كانت قد دبرت قبل ذلك وكنت أنا شخصيا شاهد عيان على إحدى حلقاتها، حدث ذلك ليلة عيد الأضحى المبارك، (وحسب علمي فإن هذه المحاولة لم يتم الإعلان عنها حتى هذه اللحظة) وهو ما يبين أن أصحاب القرار كانوا يحضرون لهذا الاغتيال منذ مدة!
وكما تقضي التقاليد، كان على الرئيس أن يؤدي صلاة العيد في الجامع الكبير بساحة الشهداء بالعاصمة على الساعة الثامنة صباحا، وطبقا للترتيبات الأمنية المتبعة في مثل هذه الحالات فإن المسجد قد تمت مراقبته من طرف خبراء المتفجرات التابعين ل (م.ت.خ/GIS)، ثم من عناصر الحماية الرئاسية (الذين يتكونون كلهم من إطارات (ق.إ.أ/DRS) ضباطا، وضباط صف) وقد شاهدتهم بنفسي عند ذهابهم مرفوقين بالملازم أول معاشو وعنصرين اثنين من "فوج الحماية" السري التابع لإسماعيل.
ولم تقدم على إثر ذلك أية ملاحظة من طرف عناصر (م.ت.خ/GIS)بوجود أو اكتشاف أي شيء، كما أن الحراسة الخارجية لهذه "النقطة الحساسة" كانت مضمونة منذ الساعة الخامسة مساء بواسطة حزام أمني من رجال الشرطة ولم يكن بإمكان أي أحد أن يمر إلى الداخل. ومع ذلك فإن قنبلة قد وضعت داخل المسجد بالمحاذاة مع منبر الإمام وقد انفجرت على الساعة الثانية صباحا داخل المسجد الذي كان من المفروض أن يؤدي فيه الرئيس صلاة العيد! وعلى الساعة الثانية والنصف ناداني صديقي عبد الرحمان مزيان شريف والي الجزائر وقتها (وقد كان يستشيرني دائما في المسائل الأمنية) ليخبرني بما حدث وشرح لي أنه كلف من طرف وزير الداخلية العربي بلخير شخصيا بإرسال فريق رجال الصيانة في الحال لمحو كل آثار الانفجار وإصلاح الأعطاب الناجمة عنه، وبطبيعة الحال فقد قيل لنا على مستوى (ق.إ.أ/DRS) بأن هذا الإنجاز منسوب إلى إسلاميي الـ(ج.إ.إ/FIS)، مع أنه لم يدخل أحد إلى قاعة المسجد على الإطلاق باستثناء خبراء المتفجرات التابعين لـ (م.ت.خ/GIS) وبعض عناصر (م.أ.ر/SSP). وزيادة على ذلك فإن الصحافة لم تنطق بكلمة واحدة عن هذه المحاولة لاغتيال الرئيس بوضياف (والتي أجهضت بدون شك نتيجة اختلال في سير مَيْـقت دقائق القنبلة) وإني اعتقد أنه هو شخصيا لم يحط علما بما حصل أثناء تلك الليلة، وإلا فإنه يكون أكثر حذرا وتحرزا، وأنه سيتخذ بكل تأكيد إجراءات عقابية ضد القائمين بهذه "التقصيرات".
وهناك حدث آخر مؤكد، إذا كنا في حاجة بعد إلى تأكيد بأن اغتيال الرئيس بوضياف كان مخططا له على مستوى رفيع جدا في قمة هرم السلطة، وهو محاولات تخويف أعضاء "اللجنة الوطنية للتحقيق" التي كان عليها أن تخلص إلى القول بوجود "تهاونات مسؤولة" محددة في تقريرها الأولي المقدم في 26 يوليو 1992 الوارد فيه بأن "أطروحة العمل المنعزل لا تبدو لنا قريبة إلى الاحتمال" 122
وفي 10 يوليو أصيب بطلقات نارية المحامي محمد فرحات عضو اللجنة المذكورة، وفي 18 جوان 1994 قتل يوسف فتح الله الموثق، والمناضل في حقوق الإنسان والعضو كذلك في لجنة التحقيق إياها، وذلك في مكتبه بالعاصمة، ولقد كان ذنبه الوحيد هو رفضه التوقيع على تقرير التحقيق الذي كان يتضمن استنتاجات غير مقبولة من طرفه (ومن جهة أخرى كان قد شارك يوم 8 ماي في مسيرة كبيرة "من أجل السلم والمصالحة" التي كانت قد نظمتها ("ج.ت.و/FLN" و"حمس/MSP") وكانت اللجنة ترجو بالفعل ألا تقف العقوبات عند العناصر البسيطة من أعضاء (م.ت.خ/GIS) و(م.أ.ر/SSP) الحاضرين في عنابة يوم الفاجعة، ولكن تشمل كذلك مسؤولي مصالح الأمن الرئيسيين، ولقد علمت أيضا في وقت لاحق بأن فتح الله كان الوحيد من بين أعضاء لجنة التحقيق الذي كان يثق فيهم بومعرافي إلى درجة أنه بعث له رسالة شخصية بأيام قليلة قبل اغتياله.
وأخيرا ماذا يقال عن كون الملازم أول بومعرافي قد حكم عليه من طرف هيئة قضائية مدنية وليس المحكمة العسكرية بالبليدة في حين أن مدنيين آخرين كمصطفى بلوصيف، الجنرال المتقاعد، وعباسي مدني، وعلي بن حاج، أو الحاج بتو… كل هؤلاء حوكموا وأدينوا من طرف هذه المحكمة العسكرية؟ إن اغتيال بوضياف لم يكن إذن من فعل إسلاميين كما سبق أن قلت، وإذا كان قد صفي كذلك فلأنه كان يحرج مخطط أصحاب القرار العسكريين – هؤلاء أنفسم الذين كانوا قد استقدموه – وبدأ الهجوم عليهم. إن الرئيس بوضياف كان قد قام لتوه بعزل الجنرال نور الدين بن قرطبي من منصبه كرئيس التشريفات – وهو صديق حميم للجنرال العربي بلخير- وقد كان ينوي بجد القيام بعملية تنقية الأجواء من حوله.
ففي مدة تقل عن ثلاثة أشهر قام بعزل ثلاثة جنرالات من دائرة أصحاب القرار هم: محمد العماري، قائد القوات البرية، حسين بن معلم، رئيس قسم الشؤون الأمنية في الرئاسة، ونور الدين بن قرطبي رئيس التشريفات! وإن هذا العزل إلى جانب المشادة الحاصلة بينه وبين الجنرال توفيق (الذي كان ينوي عزله كذلك) مضاف إليه موقفه من نزاع الصحراء الغربية والتحقيقات التي بدأها حول اختلاسات الأموال وتغيير الحكومة الذي كان يوشك أن يجريه (وكان ينوي استبدال سيد احمد غزالي من على رأس الحكومة بسعيد سعدي، أو بأمين بن عبد الرحمان)123 وكذلك الحزب السياسي الذي كان يريد أن يؤسسه تحت اسم التجمع الوطني (والذي زال ذكره من الوجود بمجرد اغتيال بوضياف) إن كل هذا جعل من الرئيس بوضياف رجلا يستحق القتل! ذلك أنه لو تمكن من تأسيس الحزب المذكور الذي يستمد منه الشرعية الشعبية إلى جانب إخلاصه وحبه للوطن وموهبته الخطابية، فكان سيتمكن من التخلص بسهولة من أعضاء العصابة المحيطة به، وقد كان زيادة على ذلك يريد بعث قضية مصطفى بلوصيف من جديد وهو ما لم يكن ينقص لتلطيخ أقطاب آخرين في النظام بإثباته أن هذا الجنرال المتهم بالرشوة زورا وبهتانا، قد ذهب في الحقيقة ضحية تصفية حسابات شخصية، وعصبية ليس إلا! إن "عصابة يناير" أو "الينايريين" (نسبة إلى انقلاب يناير 1992) كانوا يخشون إذن ضياع امتيازاتهم، فاختاروا من ثمة "الطريقة الخشنة"، ولاظهار مدى ازدراء هؤلاء لبوضياف الذي ظنوا أنه يمكن التلاعب به بسهولة يكفيني أن أذكر ما قاله لي الجنرال إسماعيل كتأبين للفقيد:" إن عمله البطولي الوحيد هو موته رئيس دولة" وهو استهتار يشاطره فيه الجنرال خالد نزار الذي قال لي حرفيا في ديسمبر 1994 "لقد كان له الحق في مراسيم دفن وطنية، وهو شيء كثير بالنسبة لشخص كان يبيع القرميد".
إن اغتيال الرئيس بوضياف دشن قائمة طويلة من التصفيات لشخصيات أخرى كان أبرزها قاصدي مرباح، جيلالي اليابس، طاهر جاووت، محمد بوخبزة، حمود حمبلي، جيلالي بلخنشير، سعيد مقبل، عبد الحق بن حمودة، عبد القادر حشاني…
إلى القاء في حلقة أخرى
………………………… ………………………… ………….
ربي بقي الستر برك
كيما كان اقولي جدي الله يرحم " ألعب بكلشي إلا التاريخ "
توقيع ولا واش
مييييييييييييييييييييييييييييي يييرسي