لقد كانت المدينة ولا تزال حقلا زاخرا بالمعارف والآثار التاريخية وقد مثلت سطيف معينا لا ينضب بالنسبة الى العديد من الباحثين والاركيولوجيين والذين أثروا معارفهم وأبحاثهم بما تجود به خبايا هذه المدينة.
هى مدينة نبتت من رحم التاريخ تحكى حكاية من مر بها وسكنها من رعاها ومن أهملها فقد شهدت استقرار المجموعات البشرية الأولى فى الشمال الافريقى إذ دلت البحوث الاركيولوجية أن ما وجد فيها من بقايا عظام حيوانات وإنسان وأدوات حجرية يرجع الى الزمن الجيولوجى الرابع أو بعبارة علماء الآثار "البلاستيوسين الأسفل" وقد اكتشفت هذه البقايا من العظام والادوات فى موقع "عين الحنش" وموقع "مزلوق" وقد أدرجت هذه المواقع ضمن ثقافات العصر الحجري.
وإضافة الى التاريخ الضارب بجذوره فى بدايات الانسان على هذا الكوكب تخللت المدينة العديد من الحضارات التى تركت بصماتها على أعتاب هذه المدينة. فكان أن هيمن الرومان على شمال افريقيا وجعلوا من مدينة سطيف مطمورا لهم نظرا لكثرة سهولها ووفرة حبوبها ولعل بقايا مدينة "جميلة" الاثرية والتى أسماها الرومان "كويكول" خير دليل على تلك الحقبة الزمنية التى مرت بها المدينة اضافة الى المقابر المنتشرة بها والتى تم اكتشافها وعثر فيها ما يربو وعلى ثمانمائة قبر ولعل أهم هذه المقابر المقبرة الشرقية.
وجاء العهد الاسلامى فجعل من المدينة مركزا استراتيجيا ذا إشعاع دينى وثقافى رغم تضاؤل دورها السياسى فى انتقال العاصمة الى مدينة بجاية ولعل الموقع الجغرافى الذى احتلته فى تلك الفترة هو الذى أعطاها تلك القيمة فهى تتوسط الطريق بين إفريقية والمغرب الأقصى والأندلس إضافة الى ذلك كان لقعلة بنى حماد ـ والتى ما تزال بعض من آثارها بادية للعيان الى يومنا هذا ـ دور فى جعلها مركز إشعاع ثقافى ودينى وقد أقام هذه القلعة أمراء بنى زيرى فى القرن العاشر الميلادي.
غير أن الفترة الاستعمارية قد غبنت هذه المدينة حقها وكادت تلغى بعضا من مياسمها التاريخية والحضارية فقد أهمل المستعمر الفرنسى الاثار التاريخية للمدينة وأخذ فى طمس معالمها من خلال استعمال كميات كبيرة من الحجارة ذات الطابع التاريخى فى بناء الثكنات العسكرية غير أن فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى قد مكنت المدينة من استرجاع بعض من مكانتها إذ جعلها المستعمر مركزا استراتيجيا للهيمنة والسيطرة على باقى المناطق المحيطة بها وقد أحاطها المستعمر بسور جعل له أربعة أبواب هى باب الجزائر وبسكرة وقسنطينة وبجية.
إن الزائر الآن لمدينة "سطيف العالي" يلاحظ ذلك التمازج بين العصور التاريخية التى خزنتها المدينة فى ذاكرتها.
فالطائف فى أرجائها تتعاقب صور التاريخ أمامه تنقله من زمن الى زمن وهو يرى المدينة متربعة على سلسلة جبال الاطلس التلى فى شمال الجزائر وتنحدر منها الهضاب والسهول لترسم ذلك التعرج التضاريسى والجغرافى للمدينة ولترسم أيضا منعرجات الأحداث التاريخية من القديم حتى يومنا.
فالمدينة اليوم درة من درر المدن الجزائرية تحكى التاريخ لا التاريخ يحكيها فمن أراد أن يجوس ديارها فعليه أن يقرأ تاريخها ليكون دليله فى تطوافه بين ثنايا الزمن الذى أثر فى "سطيف العالي" وأثرت فيه.
حكت قصتها للتاريخ فدونها حجارة وكتبا وأسوارا وأرضا فكل حبة من ترابها تحكى قصة وملحمة. ولعل مقام الشهيد الذى أقيم تمجيدا لذكرى الشهداء وإحياء لبطولاتهم معلم هام يروى قصة من قصص كتاب المدينة فهو نصب تذكارى سامق الارتفاع "35 متر" يتربع فوق إحدى هضاب المدينة يحرسها من عليائه ويختزن فى قاعدته تاريخها متمثلا فى المكتبة ومتحف الجهاد. وقد عرفت المدينة فى عهد الاستقلال تغييرات كبيرة إذ أنجزت بها عديد المشاريع التنموية فأصبحت قطبا صناعيا كبيرا إضافة الى احتوائها على بنية تحتية قوية من حيث المنشآت والطرق والمركبات الرياضية والصحية والحدائق والمنتزهات وخاصة مقر الاذاعة ذى أنشيء بها.
كما أن المدينة تملك مائدة مائية جوفية هامة ولعل انتشار المنتجعات دليل على ذلك كما أن توسط تمثال المرأة وهو تمثال أثرى قلب المدينة وهذا التمثال يسمى "بعين الفوارة" للدلالة على كثرة المياه العذبة فى هذه المدينة مما جعل الزائرين يعشقون هذا الماء ولعلهم إن شربوا منه يعودون اليه والى منابعه من جديد.