تخطى إلى المحتوى

ابن رشد ، وجهة نظر : 2024.

  • بواسطة
(1)
بإمكاننا التدليل على عمق نزعة ابن رشد العقلية من خلال غير دليل … لكننا سنقتصر على بيان هذه النزعة عبْر أمرين … هما : منهج البحث في الحقيقة ، ونظام الطبيعة وعلاقة الإنسان بها .‏
1- منهج البحث في الحقيقة :‏
قرر ابن رشد ، شأن كثيرٍ سبقوه ، أن الحقيقة التي يتم التوصل إليها بالنظر العقلي / بطريق الفلسفة … والمعنى واحد ، هي الحقيقة " الوحيدة " التي تسمو على الحدود القومية والدينية ، وهي تراث مشترك بين الأمم على مر العصور والأجيال ، أسهَمَ في الكشف عن جانب منها السابقون ، ونال منها اللاحقون ، وستبقى تُبنى طالما وُجِدتْ عقول .‏
وبسببٍ من سعة الأفق هذه ، جاء قول ابن رشد " يجب علينا ، إن ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجودات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان ، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم ، فما كان منها موافقاً للحق ، قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه ، وما كان منها غيرَ موافق للحق نبهّنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم " .
على أن الأهم من ذلك ، والذي يعبّر ، بحق ، عن نزعة ابن رشد العقلية الصارمة ، هو أن الحقيقة المذكورة ، أي التي يتم التوصل إليها بالبرهان ، أو بالقياس العقلي … : " العارف ، وهو صاحب العلم بالبرهان ، عنده قياس يقيني " .‏
ولمعترضٍ أن يعترض بالقول إن مسعى ابن رشد في الكشف عن الحقيقة إنما كان يرمي إلى التوفيق بين الحقيقتين : الحقيقة الدينية ( = الشريعة ) والحقيقة الفلسفية ( = الحكمة ) … أو بين طريق النقل وطريق العقل . ومن كان هذا مسعاه ، فلا يمكن أن تكون الحقيقة عنده هي التي يتم الكشف عنها بالطريق البرهاني فقط ، خاصةً وأن ثمة من النصوص المنتشرة في كتابات ابن رشد ما يمكن ، حال اعتمدنا عليها ، الزعم أنه كان يرمي إلى التوفيق بين الحقيقتين … وإذن أفلا يتناقض هذا الجزم بأحادية طريقة الكشف عن الحقيقة عنده مع تلك النصوص ، ويعتبر محاولة بائسة لتفسير ابن رشد تفسيراً غير صحيح ؟ .
لم يكن ابن رشد يقبل أن ينطلق العقل إلا من منطلقه الخاص ، ولم يكن يقتنع إلا بما يتوصل إليه عبر هذا الطريق وحده ، وأنه في كل مجال من مجالات الفلسفة ظل متمسكاً بنزعته العقلية تلك ، أما إذا بدا أن هناك دلائل أخرى ، أو نصوصاً ، يُفهم منها أنه كان لديه مسلك آخر ، فليس ذلك ، برأينا ، سوى مظلة كان مضطراً إلى الاحتماء بها خوفاً من البطش الذي كان يتهدد كل من يحاول سلوك طريق الاستقلال الفكري سواء في الأدوات أو في النتائج .‏
يقول ابن رشد : "وإذا تقرّر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها ، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه … وهذا هو القياس ، أو بالقياس ، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي . وبيِّن أنّ هذا النحو من النظر هو أتمّ أنواع النظر بأنواع القياس – وهو المسمى برهاناً – وإذا كان الشرع قد حث على معرفة الله تعالى ، وموجوداته ، بالبرهان ، كان من الأفضل – أو الأمر الضروري – لمن أراد أن يعلم … أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البراهين وشروطها " .‏
وإيماناً من ابن رشد بطريق البرهان في الكشف عن الحقيقة ، فقد حسم الرجل حسماً قاطعاً المسألةَ التي طال الجدل حولها دونما لبس ولا مواربة … وهي مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة … أو بين الشريعة والحكمة ؛ فقد أعلن اتفاق الشريعة والحكمة… : " نحن نقطع قطعاً أن كل ما أدّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي ، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ، ولا يرتاب بها مؤمن ، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجرّبه ، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول " . و … : " فإن أدى النظر البرهاني إلى نحوٍ ما من المعرفة بموجودٍ ما ، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سُكت عنه في الشرع ، أو عرف به . فإن كانت الشريعة نطقتْ به ، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه ، أو مخالفاً . فإن كان موافقاً فلا قولَ هناك ، وإن كان مخالفاً طُلب هناك تأويله " . ‏
ولا يعني ذلك أن ابن رشد كان يقصد " التشكيك " بصحة الشرائع ، لكنه قصدَ أن يقول إن الشرائع جاءت لتقول للناس ، من غير الراسخين في العلم ، ما هم " متهيئون " لفهمه ومعرفته ، وهو الذي يتعلق بتدبير حياتهم وما يفيدهم في بلوغ سعادتهم … وهو الفضائل الخُلُقية .‏.. : " إن الشرائع تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان وبلوغه سعادته الخاصة به ، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان والفضائل النظرية والصنائع العملية . إن الإنسان لا حياةَ له في هذه الدار إلا بالصنائع العملية ، ولا حياة له في هذه الدار ولا في الدار الآخرة إلا بالفضائل النظرية ، وإنه ولا واحد من هذين يتم ، ولا يبلغ إليه ، إلا بالفضائل الخلقية ، وإن الفضائل الخلقية لا تُتمّكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لهم في كل ملة " .
وتبقي الفضائل النظرية ، وهي مهمة أخرى يقوم على البحث فيها ، أو الكشف عنها ، المؤهلون لذلك … وهم " الراسخون في العلم " اعتماداً على الطريق العقلي / طريق البرهان / العلم بالتأويل .
يقول ابن رشد ، وهو يرد على أبي حامد الغزالي الذي قطع بتكفير الفلاسفة ، إلا الكندي ، مخافة " الاجماع " في قولهم بقدم العالم ، وبأن الله لا يعلم الجزئيات ، وبأن المبعوث من الإنسان نفسه لا جسمه : " ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل ، لأن ههنا تأويلاتٍ لا يجب أن يُفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل ، وهم الراسخون في العلم ، لأن الاختيار عندنا هو الوقوف على قوله تعالى " والراسخون في العلم " لأنه إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل ، لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الإيمان به مالا يوجد عند غير أهل العلم . وقد وصفهم الله تعالى بأنهم المؤمنون به . وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قِبَل البرهان . وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل ، فإن كان هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصاً بهم فيجب أن يكون بالبرهان ، وإذا كان بالبرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل ، لأن الله عز وجل قد أخبر أن لها تأويلاً هو الحقيقة ، والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة "‏ . فالحكمة هي : " النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان "‏ .
وهذا الموقف الرافع لقيمة البرهان يملي على صاحبه غير المتناقض مع قناعاته أن لا يقيم وزناً كبيراً لطرق المعرفة الأخرى والتي هي : الجدلي الكلامي والذوقي الصوفي ، والتأويلي الخطابي / الوعظي ، فهذه ليست تؤدي بتابعها إلى أن يقف على الحقيقة كما هي في الحقيقة .
وقد بيّن ابن رشد صحة فكرته التي تقدم البرهان أداة للمعرفة اليقينية بدليلين : دليل الشرع ودليل العقل ؛ فأما دليل الشرع ، فلا شك أن هناك مسائل نظرية سكت عنها الشرع ، لكنه نبّه على ما يؤدي إليه البرهان فيها ، وسكت عنها في التعليم العام … فإنه : " لما كان يوجد من ليس لديهم القدرة على ولوج طريق البرهان إما من قِبل فِطَرهم ، وإما من قِبل عاداتهم ، وإما من قِبل عدمهم أسباب التعليم ، وكانت توجد أشياء لخفائها لا تُعْلم إلا بالبرهان ، فقد تلطّف الله بأمثال هؤلاء بأن ضرب لهم أمثالَها وأشباهها ، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذا كانت يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع ، أعني الجدلية والخطابية ، ولهذا فقد انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن ، فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني ، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان " .‏
و : " إن الفلسفة إذا كانت عبارة عن النظر في الموجودات ، واعتبارها ، من جهة دلالتها على الصانع ، وأن الموجودات تدل على الصانع لمعرفة صنعتها ، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم ، فإن هذا يؤدي إلى القول بأن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلّب معرفتها به "‏ .
هذا عن دليل الشرع ، وأما دليل العقل ، فتقوم على بيان تهافت غيره من الأدلة عبر نقود ابن رشد لعلم الكلام والتصوف ؛ فعلماء الكلام يؤمنون بآراء معينة بناء على اعتقادات مسبقة ، ثم هم يجعلون همهم نصرتَها وتأييدها سواء تم هذا لهم عن طريق الأقاويل السوفسطائية أو الأقاويل الجدلية أو الأقاويل الخطابية أو الأقاويل الشعرية ، بحيث صارت هذه الأقاويل ، عند من نشأ على سماعها ، من الأمور المعروفة بنفسها … فهؤلاء ينطلقون من منطلقات غير يقينية ، وليس يهمهم التدقيق بصحتها ما يفضي بهم إلى نتائج غير يقينية . ‏
هذا عن علماء الكلام ، أما الصوفية ، فطرقُهم في النظر ليست " طُرقاً نظرية " بمعنى أنها ليست مركبة من مقدمات وأقيسة ، حيث يؤسسون المعرفة بالله ، وبغيره من الموجودات ، على ما يُلقى في النفس حال تجردت " من العوارض الشهوانية ، وأقبلت بالفكرة على المطلوب " ما يعني استحالة قيام البرهان على أيٍّ من أقوالهم ، من حيث هي لا تعدو كونها نزعاتٍ شخصيةً وجدانيةً" . ‏
والطريف أن ابن رشد يشدد على أن طرح الصوفية الأمر على هذا النحو " قلبٌ للأمور " ؛ فبينما هؤلاء يقولون إن الكمال " الإلهي " للإنسان يتم عبر " الاتصال " يقول ابن رشد إن الكمال " الطبيعي " يتحقق عبر الصعود من المحسوس إلى المعقول ، وهذا لا يكون إلا بالاعتماد على الملكات التي عُددتْ في كتاب البرهان .

يُتْبع …

mrcccccccc

(2) :
2- نظام الطبيعة وعلاقة الإنسان بها :‏
يؤسس ابن رشد نظرته في الطبيعة على أساس أن " قانون العلاقات السببية الشامل هو الأساس العقلي لتصور وجود نظام محكم من العلاقات الضرورية بين الأسباب والمسببات في الطبيعة " ، فلا مكان ها هنا للاتفاق العَرَضي ، ولا للجواز ، ولا للإمكان . ‏
وقد بلغ الأمر بالرجل إلى الحد الذي ساوى فيه بين العقل وبين المعرفة بالسبب ؛ حيث أكد أن العقل " ليس شيئاً أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها ، والذي به يفترق عن سائر القوى المدركة الأخرى … ومَن رفع الأسباب فقد رفع العقل ."
واعتبر ابن رشد منكرَ العلاقة الضرورية بين الأسباب والمسببات " أما جاحداً بلسانه لما في جنانه ، وإما منقاداً لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك . ووفقاً له فإن من ينفي ذلك فليس يقدر أن يعترف أن كل فعل لابد له من فاعل " . ‏
ودليل ذلك أن فكرة " الجواز " هذه مبطلة للحكمة بشكل عام ، ولحكمة الصانع بشكل خاص ؛ فهي مبطلة للحكمة لأن الحكمة " ليست شيئاً أكثر من معرفة أسباب الشيء " . وإذا لم تكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود ، فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم دون غيره . وهي مبطلة لحكمة الصانع ؛ لأنه لو لم تكن ها هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة ، لم تكن هناك صناعة ، بل لا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع فـ " أي حكمة تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق ، أو بغير عضو ، حتى يكون الإبصار يتأتى ، مثلاً ، بالأذن كما يتأتى بالعين ، والشم بالعين كما يتأتى بالأنف . ‏لاشك أن هذا كله إبطال للحكمة ، وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيماً تعالى عن ذلك " .
ومن جهة أخرى ، فإن مثل هذا القول مبطل للعلم أيضاً ؛ فالمنطق : " يضع وضعاً أن ها هنا أسباباً ومسببات ، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها ، ورفع هذه المسببات مبطل للعلم ورافع له ، إذ يلزم أن لا يكون ها هنا شيء معلوم أصلاً علماً حقيقياً ، بل إن كان ثمة علم فهو علم مظنون ، كما لا يكون ها هنا برهان ولا حدّ ، وترتفع أصناف المحمولات الذاتية التي تأتلف منها البراهين ، وبالتالي فإن من يذهب إلى عدم وجود أي علم ضروري ، يلزمه أن لا يكون قوله هذا ضرورياً " .
ونعتقد أن الخطأ الذي وقع فيه خصوم ابن رشد ، وقلل من أهمية " الطبيعة العلمية " لتفكيرهم ، ومن ثم تفكك نظامهم المعرفي الذي أوقعهم في هذه المآزق ، أنهم ، بحسب ابن رشد ، فسروا الطبيعة بمبادئ علم ما بعد الطبيعة ، بينما الصواب أن يتسلموا هذه المبادئ من العلم الطبيعي ليبنوا عليه علم ما بعد الطبيعة . فعل ابن رشد ذلك ، فتعززت مشروعية عقلانيته بشكل حدا بالمؤرخين أن يصفه بعضهم بأنه " آخر فلاسفة العرب والمسلمين " ، كما جعل تفنيد حججه أمراً متعذراً لدرجة كبيرة . وليقارن أحدنا بين تفسير خصومه وتفسيره هو للمشكلة الطبيعية ؛ ‏ فعلى حين ينكر المخالفون ، متوهمين أن الشريعة لا يصح اعتقادها إلا بهذا الوضع وأشباهه ، وجودَ " الطبائع " و " القُوى " و " الضروريات " الموجودة في طبيعة الإنسان ، ويجعلونها ، ككل ، في باب " الإمكان " و " الجواز " ، يرى ابن رشد أن الموجود لا يُفهم إلا من قِبَل أسبابه الذاتية … تلك التي بدونها لا نستطيع تمييز موجود عن موجود ، ولا التفرقة بين مادة وأخرى ؛ فالنار ، مثلاً ، لها فعل معين ، وكذلك الماء . وبدون هذه الأسباب الذاتية ، والصفات الجوهرية ، لكل مادة على حدة ، تكون الأشياء ، كلُّها ، شيئاً واحداً ؛ إذ سترتفع طبيعة الموجود في هذه الحال ،وحال ارتفعت طبيعة الموجود ، أدى بنا هذا إلى العدم … : " ولو لم يكن لموجود وجود فعل يخصه ، لم يكن له طبيعة تخصه ، ولو لم يكن له طبيعة تخصه ، لما كان له اسم يخصه ولا حد ، وكانت الأشياء كلّها شيئاً واحداً ، ولا شيئاً واحداً ، لأن ذلك الواحد يُسأل عنه : هل له فعل واحد يخصه ، أو انفعال يخصه ، أو ليس له ذلك ؟ ، فإن كان له فعل يخصه ، فهنا أفعال خاصة صادرة عن طبائع خاصة ، وإن لم يكن له فعل يخصه واحد ، فالواحد ليس بواحد ، وإذا ارتفعت طبيعة الواحد ، ارتفعت طبيعة الموجود ، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم " . ‏
توهمَ مخالفو ابن رشد أن الشريعة لا يصح اعتقادها إلا بهذا الوضع ، وأشباهه ، وأساسُه : أن لأفعال الموجودات كلِّها فاعلاً واحداً بلا وساطة لها ، وهذا الفاعل الواحد هو الله تعالى ، ما ألزمهم ألا يكون لموجود من الموجودات فعلٌ خاص طبعه اللهُ عليه ، والذي دفعهم لذلك ، يرى ابن رشد ، يسدُّ باب النظر . الأمر الذي أوقعهم في هذه المغالطات الفاحشة ، وجعلهم يسيئون للشريعة في الوقت الذي يعلنون فيه أنهم إنما يدافعون عنها . ‏
حتى والرجل يعالج مسألة علاقة الإنسان بالطبيعة ، وهذه إشكالية قسمت مفكري المسلمين فِرقاً احتد الخلاف بينها لحد التناقض ، بقي مؤمناً بقانون السببية ؛ فالمعروف بالنسبة له أن أدلة السمع ، كذا أدلة العقل ، متعارضة تماماً حول هذه المسألة :
أ- ففي الحالة الأولى : هناك آياتٌ كثيرةٌ تدل ، بظاهرها وعمومها ، على أن " كل شيء بقدر " ، ما يعني أن الإنسان " مجبور " على أفعاله ، لكن المرء يجد آياتٍ أخرى كثيرةً تدل على أن للإنسان اكتساباً بفعله ، ما يعني أنه " حر " في أفعاله . وبسبب من ذلك افترق المسلمون فرقتين : فرقة اعتقدت أن اكتساب الإنسان هو سبب المعصية والحسنة ، ولذلك ترتب عليه العقاب والثواب ، وثانية اعتقدت أن الإنسان مجبر على أفعاله .
على حين حاولت الأشعرية ، كطبيعتها دائماً ، الوقوف موقفاً وسطاً ، فقالت إن للإنسان " كسباً "، وإن المكتسَب به والكسب " مخلوقان " لله تعالى ! وهذا القول " الوسيط " لا يجد له ابن رشد معنى … بل هو أدخلُ للجبر ؛ فإذا كان " الاكتساب والمكتسب " مخلوقين لله ، فالعبد ، بالضرورة والحتم ، مجبور على أفعاله .
ب‌-أما في الحالة الثانية : فإننا إذا فرضنا أن الإنسان موجِد أفعاله ، فستقوم أفعال لا تجري على مشيئة الله تعالى واختياره ، فيكون ، ها هنا ، خالق غير الله . وهذا لا يتفق مع ما أجمع عليه المسلمون . أما إذا فرضنا أنه غير مكتسِب لأفعاله ، وجب أن يكون مجبوراً عليها ، وهذا يدخل في باب مالا يُطاق ، وإذا كُلف الإنسان مالا يطاق لم يكن فرقٌ بين تكليفه وتكليف الجماد الذي ليس له استطاعة ، وعندها يكون الأمر بترك الشرور لا معنى له ، وكذلك الأمر بنيل الخيراتِ ، كما تبطل ، أيضاً ، الصنائع التي القصد منها الحفظ ودفع المضار كصناعة الحرب والملاحة والطب ، وفي هذا الظن خروج عما يعقله الإنسان . ‏
إذن ، ما الحل ؟ ، وكيف الخروج من هذه الإشكالية دون تضحية بـ " قضاء " الله و " قدره " ، كذا دون تضحية بـ " حرية " الإرادة الإنسانية ؟ .
يُتبع …

(3) :
نريد أن نعرف كيف يكون بمقدور ابن رشد الاستمرار بالالتزام بقانون السببية ، ثم يضمن ، في الوقت نفسه ، الإبقاء على الإنسان حراً في أفعاله .
لعل القراءة المتأنية ، قراءة خواص الخواص ، تنتهي بصاحبها إلى معرفة كم تشابَه مع موقف ابن رشد هذا موقفُ كلٍّ من اسبينوزا ( بعد خمسة قرون ) ، ثم إنجلز ( بعد ذلك بأكثر من قرنين ) … وهو ملَخّص في جملة واحدة هي " إن الحرية هي وعي الضرورة " .‏
نعتقد أن ابن رشد اعتمد على القول الكريم " والراسخون في العلم " ، حيث يؤسس أن إعمال العقل هو وحده الضامن لشرح هذا المُشكل .
لقد قادت ابنَ رشد نزعتُه العقلية إلى القول بأن الله قد خلق لنا قوىً نستطيع بها اكتساب أشياء هي متضادات ، لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها لنا الله من خارج ، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين معاً ، وإذا كان ذلك كذلك ، فالأفعال المنسوبة إلينا أيضاً يتم فعلها بإرادتنا وموافقة الأفعال التي من خارج لها ، وهي المعبر عنها بـ " قَدَرُ الله " . وهذه الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج ليست هي متممة للأفعال التي نحن نفعلها أو عائقة عنها فقط ، بل هي السبب في أن نريد أحد المتقابلين ؛ فالإرادة إنما هي شوق يحدث لنا عن تخيل ما ، أو تصديق بشيء ، وهذا التصديق ليس هو لاختيارنا بل هو شيء يعرض لنا عن الأمور التي من الخارج‏ . مثال ذلك : أنه إذا ورد علينا أمرٌ مشتهَىً من خارج ، اشتهيناه بالضرورة من غير اختيار ، فتحركنا إليه ، وكذلك إذا طرأ علينا أمر مهروب عنه من خارج ، كرهناه باضطرار ، فهربنا منه . وإذن يجب الربط بين الإرادة الداخلية والعالم الخارجي عن طريق الاعتقاد بأن الأسباب التي من خارج تجري على نظام محدد وضروري طالما أن كل شيء في العالم لابد أن يرتد إلى أسبابه الضرورية المجددة .‏
وهكذا فإن فكرة القضاء والقدر تعود إلى فكرة السببية ؛ فإذا كانت إرادتنا تجري على نظام محدود ، وكان ماضي العالم الخارجي يجري أيضاً على هذا النظام ، فإن هذا يقوم وفقاً لقانون السببية .
تأسيساً على ما فات ، فإن فكرة القضاء والقدر ليست مسلطة علينا دون أدنى فعل من جانبنا ، وإنها تسيرنا كالريشة في مهب الريح ، بل هي فكرة لا تخرج عن مجال السببية ، فهي إرجاع السبب إلى مسبباته المحددة الضرورية ، لكن هذه الأسباب لا تقف أمامنا دون تحقيق لحريتنا ، بل هي عبارة عن ناموس للكون ، وإذا ما فعلنا بالتوافق مع تلك الضرورة ، فلا يجب أن يعني ذلك أننا لسنا أحراراً ، فالحرية ليست عدم التحديد ، بل هي " الفعل وفقاً لقوانين الطبيعة " . ‏
انتهى .

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.