إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْر
أما موضوع هذا اللقاء :
فوقفاتٌ مع حديث عظيم مخرَّج في صحيح البخاري عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال :
((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ))
وفي لفظ ((وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا)) .
هذا الحديث حديث عظيم مليء بالفوائد وجديرٌ بأن يتأمله المسلم تأملًا جيدًا وأن يقف مع فوائده العظيمة ومضامينه الجليلة ، وقد صدَّره النبي صلى الله عليه وسلم بذكر أسٍّ عظيم وأصلٍ متين قام عليه دين الله جل في علاه ؛ وهو أن هذا الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لنا ورضيه دينًا لعباده ولا يقبل دينًا منهم سواه ، دينٌ ميسَّر لا عنت فيه ولا مشقة ، ليس فيه تعسير بل هو دين سمح ودينٌ ميسَّر ودينٌ سهل لا حرج فيه على العباد ولا مشقة ولا عنت عليهم ؛ وهذا أصل كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث
((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ)) ،
وهو يسرٌ في كل أموره .
ثم قال عليه الصلاة والسلام :
((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ)) ؛
وهذا فيه دعوة للعباد إلى أن يمضوا في هذا الدين مع يسر الشريعة وسماحتها ، لا يشدِّد الإنسان على نفسه ولا يغالي ولا يرتكب أيضًا البدع المحدثات التي ما أنزل الله تبارك وتعالى بها من سلطان ، كم جنَتْ على الناس وكم جرَّت لهم من ويلات وكم أبعدتهم من حدود الشريعة !! فعلى الإنسان أن يحذر من ذلك أشد الحذر .
((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ)) ؛ والمشادة للدين :
بعدم الاقتصار على هداياته العظيمة وتوجيهاته السديدة وإرشاداته المباركة ،
ويبدأ يحمِّل نفسه من الأعمال إما ما لا تطيق بأن يشدد على نفسه ، أ
و يحمِّل نفسه من الأعمال ما لا يشرع من البدع والمحدثات ؛
فتكون العاقبة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ )) .
ولهذا سبحان الله !! من يشددون على أنفسهم بالمغالاة إما بالبدع أو بتحميل النفس ما لا تطيق تكون العاقبة في نهاية الأمر إلى الحرمان ،
ولهذا تجد بعضهم يشدِّد على نفسه ويحمِّلها أمورًا ما لا تطيق ثم تمل ويترك حتى الفرائض ويحس بأن الدين ثقيل جدًا ،
والواقع أن الدين ليس فيه هذا الثقل الذي هو جلبه على نفسه ، الدين يسر ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :
((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ )) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام :
((فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا)) ؛
«سَدِّدُوا»: أي ألزِموا أنفسكم ما استطعم إلى ذلك سبيلا ، السداد قولًا وفعلا .
والسداد : هو إصابة الهدي ، إصابة السنة ، إصابة فعل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام .
ثم قال عليه الصلاة والسلام :
((وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)) ؛
ا
لغدوة : أول النهار ،
والروحة: آخر النهار ،
والدلجة : وقت من الليل .
وهذه الأوقات الثلاثة قديما كان لها شأن عظيم جدًا عند المسافر ؛ فهي أرفق الأوقات بالمسافر وبراحلته دابته ، أرفق الأوقات أول النهار ، وآخر النهار ، وشيء من الليل. وكما أنها أفضل الأوقات وأرفقها وأحسنها للسفر الدنيوي فهي كذلك أعظم الأوقات وأحسنها للسفر الأخروي، فهي أوقات فاضلة عظيمة جدًا للإقبال على الله بالذكر والدعاء وقراءة القرآن ؛ ولهذا يأتي في أول النهار صلاة الفجر وأذكار الصباح العظيمة المباركة ، ويأتي في آخر النهار صلاة العصر ثم المغرب وبينهما وقت ذكر لله سبحانه وتعالى ، وشيء من الدلجة أن يكون للإنسان شيء وحظ ونصيب من الليل ، يكون له وردًا من صلاة قراءة قرآن ذكرٍ لله سبحانه وتعالى ، لا يحرم نفسه من الخير ، وإن كان هذا في جوف الليل وآخره فهو أعظم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)) .
قال عليه الصلاة والسلام :
((وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا)) ؛
والقصد: هو التوسط والاعتدال بين طرفي الغلو والجفاء ،
والله سبحانه وتعالى يقول:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143]
أي شهودًا عدولا ، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها . وما من عملٍ صالحٍ دعا الله سبحانه وتعالى عباده إليه جميع الأعمال إلا والناس فيه ثلاثة أقسام :
1. منهم من يغلو في العمل ؛ فيجاوز حد الشرع فيه بالغلو .
2. ومنهم من يجفو ؛ بالتخلي عن العمل وتركه .
3. ومنهم من يتوسط ؛ وهو من يقوم بالعمل موافقًا هدي النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه .
فليحذر العبد أشد الحذر من الغلو والجفاء ، وليلزم القصد .
قال : ((وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا)) ؛
تبلغوا ماذا ؟
أيضا مثل ما سبق في قوله ((وَأَبْشِرُوا)) لم يذكر المتعلَّق ليعمَّ بلوغ كل خير وفضيلة في الدنيا والآخرة ، إذا كان المرء متوسطا معتدلًا ؛ بعيدًا عن الغلو والجفاء ، ملازمًا هدي النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه .
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا أجمعين لما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال
من كلمة ألقاها الشيخ عبد الرزاق البدر – بتصرف – و هي موجودة بالعنوان نفسه في موقعه الرسمي تحت قسم كلمات