تخطى إلى المحتوى

إصلاح ذات البين في السنة النبوية للشيخ عثمان عيسي 2024.

إصلاح ذات البين في السنة النبوية

لقد تَنَوَّعت ميادينُ الإصلاح في الشَّريعة الإسلاميَّةِ السَّمْحَةِ، من إصلاحِ النَّفسِ باطنًا بالإيمان الصَّحيحِ، والمعتقدِ السليمِ، وتقويمِ السُّلوكِ والخُلُقِ ظاهرًا كما جاء في عنوانِ الرِّسالة النَّبويَّة وشعارِها: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ»، وتقويمِ المنْطِقِ بميزان البَيَانِ حِفاظًا على اللِّسانِ، إذِ الكلمةُ أصلُ عقيدةِ أهلِ الإيمان، فَأَطْيَبُها كلمةُ التَّوحيد، وأخْبَثُهَا كلمةُ الشِّرك، وقد رَاعَتِ الشَّريعةُ إصلاحَ الفردِ والمجتمعِ على حدٍّ سواء، إذْ لا مجتمعَ للنَّاس إلاَّ بمجموع أفراده، وإنَّ صلاحَ المجتمع مَبْنِيٌّ على صلاح الفرد وأهليَّتِه لِتَحَمُّلِ الأمانة وأدائها، ولا مجتمعَ صالحاً إلاَّ بتوحيدٍ خالصٍ من أفراده لربِّ العالمين، وأخوةٍ صادقةٍ لا يُكَدِّرُ صفوَها شيءٌ، قائمةٍ على أساس المودَّة والرَّحمة والتَّناصح والتَّناصر.
هذا، وقدِ اهتَمَّ الإسلامُ بالإصلاح اهتمامًا بالغًا، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بِذَاتِ بَيْنِ المسلمين، فكان في حدِّ ذاتِه مقصدًا من مقاصده الكبرى، وغايةً من غاياته المثلى، جسَّد هذا الإصلاحَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في واقع حياته، وبِهَدْيِه القَوْلِيِّ والعَمَلِيِّ، مع الصَّحابة الكرام ي فحرص كلَّ الحرصِ على إيصالِ كلِّ نفعٍ حسيٍّ ومعنويٍّ لهم، ودفعِ كلِّ ضَرَرٍ وأذى عنهم، فنهاهم عن الاختلاف والتَّفرُّق والتَّشَتُّتِ، وأَمَرَهم بالبعد عن كلِّ أسباب الخصومة والعداوة والبغضاء، وقَطْعِ دابرِ الهجران والكفران، بأنواع شتَّى وطرقٍ متنوِّعة فاضتْ بها السُّنَّة النَّبويّةُ العَطِرَةُ، وذلك كلُّه رحمةً منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورأفةً بالخلق، واستجابةً للخالقِ جلَّ وعلا الآمرِ بالاجتماعِ والوِفاقِ.
ولما كان المرءُ معرَّضًا للفتنِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، ومبتَلَى بما يلقاهُ في المخالطةِ والمعاشَرةِ من البَغيِ والأثَرَةِ، ولمَّا كانتْ طبيعةُ الإنسانِ كما خُلق، وتركيبةُ نفسِه كما فُطر، تقتضي ـ من حيثُ الواقعُ ـ حبَّهُ الاستئثارَ بالأشياء، وانفرادَه بها عن غيره، لم يُغفلِ الإسلامُ هذا الجانبَ من طبيعةِ النَّفسِ البشريَّةِ، بل راعى في معالجتها ومداواتها النّقصَ الموجودَ فيها، والضّعفَ المتمكّنَ منها؛ ضعفٌ من آثاره: سرعةُ الانفعال، وشدّةُ التّأثُّر، واضطرابٌ عند زوال ما تَلَذُّهُ النفسُ وتشتَهِيهِ، أو تَوَهُّمِ ذهابِهِ وفَواتِه، وما يقع لها من قِلَّة حلمٍ مع الغَرِيمِ منَ المعَاشَرين والمشارَكين، ـ مما لا يكاد يَسْلَمُ منه أحدٌ ممَّن لاَبَسَ النَّاسَ وخالطهم باستثناءِ قليلٍ من المؤمنين حقًّا، والعاملين الصَّالحات صِدقًا ـ ، كما قال جلَّ وعلا: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ [ص:24].
وَمَرَدُّ ذلك إلى الشُّحِّ المُطَاعِ، والهوى المتَّبَعِ، كما قال جلَّ وعلا: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء:128].

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «الشُّحُّ: هَوَاهُ في الشَّيء يحرص عليه» (1).
فلمَّا يَرْسُمُ المرءُ لنفسه حقوقًا يحرص عليها، يريد استيفاءَها كاملةً غيرَ منقوصةٍ، ويحمي لجنابِها حِمًى يُعَادِي مَن تعدَّاهَا وتجاوزَها، ولا يسامح فيها ولا يتنازل عنها يقعُ الخلَلُ، ويَنْجُمُ الزَّلَلُ، فتَبْدُو حينئذ النَّفسُ خائفةً، قد هَلَعَ صاحبُها وجَزَعَ إذا مسَّه الشَّرُّ، واجْتَحَفَ مُستَأثِرًا ومَنَع إذا مسَّه الخيرُ، يبحث عن أوَّلِ فُرصةٍ لقطْعِ حَبْلِ الوِصَالِ، بذريعةِ الاختلاف مع غيره في نَفِيسٍ غالٍ أو في عِقال، أو بسببِ تَأَثُّرٍ بسوءِ أقوالٍ أو فِعال… ومن لوازم ذلك؛ وقوعُ التَّعادِي والتَّباغضِ والتَّدابرِ والتَّنافرِ والتَّقاطعِ، بل والتَّقاتل بين النَّاس، وقد حُرِّم عليهم ونُهوا عنه؛ فيضيق حالُهم، ويَنْكَسِف بالُهم.
ولم تَخْلُ سنَّةُ نبيِّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دعوةٍ إلى الإصلاح وحثٍّ عليه، وبيانٍ لوسائله وسُبُلِهِ، ومن تَنَسَّمَ وحيَ السُّنَّةِ العَطِرَةِ، وتَدَثَّرَ بِدثَارِهَا، وأعمل الفكرَ في استنباط الأحكامِ منها والحِكَمِ، واستخراجِ الإرشادات والقِيَمِ، والْتِمَاسِ المواعظِ والعِبَرِ، وَفْقَ منهجٍ دقيقٍ سليمٍ، وتأصيلٍ راسخ قويم، أدرك ذلك بيقين، فقد جاء الأمر بإصلاح ذات بين المؤمنين، ورأب صَدْعِهِمْ، وسلِّ سَخَائِم قلوبهم، والتَّأليفِ بينهم، وَلَمِّ شعثِهم، وجمعِ شملِهم، وتوحيدِ كلمتِهم، هذا كلُّه ممَّا قام به النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ حقَّ القيام، مُسْتَهْدِيًا اللهَ جلَّ في علاه، ومستعينًا بربِّه ومَوْلاَهُ، مع عِظَمِ الرِّسالةِ، وثِقَلِ الأمانةِ، أمانةِ الهدايةِ والبيان، والمجاهدةِ باللِّسانِ والسِّنان، أمانةِ تربيةِ الصَّحابةِ التَّربيةَ الإيمانيّةَ، ورعايةِ شؤونهم حقَّ الرِّعاية، قال اللهُ جلَّ وعَلا: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [الأحزاب:6] قال مجاهد: «هُو أبٌ لهم»(2)، ومصداقُ ذلك قولُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الوَالِدِ»(3) الحديث.
أي: «في الشَّفقة والحُنُوِّ… وفي تعليم ما لا بُدَّ منه»(4).

ومن شأنِ المصْلِحِ أنْ يقومَ بالإصلاح بنفسه، ويقوِّمَ بالإصلاح غيرَه، ولا يُوكِلُ مُهِمَّةَ ذلك لمن خلفَه، أو يتَّكِئُ للقيام بهذا الواجبِ على من بعدَه، بل يسعى بنفسِه، بشدِّة ساقَيْهِ وذراعَيْهِ، لإصلاح الدَّانِي والقاصِي، سعيًا مدفوعًا بإخلاصٍ للهِ تعالى وإرادةٍ لوجهِهِ الكريم، ورغبةٍ في ثوابه، وهمَّةٍ ونشاطٍ واندفاعٍ بحقٍّ وللحقِّ، وسعيٍ بحَزْمٍ على بصيرة، وقد عبَّر النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثِ الصَّدقاتِ عن شيء من ذلك فقال «…وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ المُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ…»(5).
والمرْءُ ـ عادَةً ـ يستغيثُ بخاصَّتِه وأهل ثِقَتِه، ويرجو الإعانةَ منهم، ومن أمثالِ العربِ: «إلى أُمِّه يَلْهَفُ اللَّهْفانُ»، والَّذي يريد الإصلاحَ ويَصْبُو إليه، يَنْتَظِرُ مثلَ هذه الإغاثةِ ويَأْمَلُها من أصحابها الصَّالحين المُصلِحين، من العلماء الرَّبَّانِيِّينَ، وطلبةِ العلمِ الموَثَّقينَ، الّذين يَدْعُون الخلقَ إلى التَّوحيد الخالص، ويُبدِّدُون ظلماتِ الشِّرك والوثنيَّة، ويربُّون النَّاسَ على السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ المحمَّديَّةِ، ويمحُون آثارَ المحدثات البدعيَّةِ، حاملين رايةَ الإصلاح خَفَّاقَةً شَامِخَةً، راجين من الله تعالى لدعوتهم النَّجاحَ، وللعبادِ جميعًا الفلاحَ.
ومن هذا الإصلاحِ المرجُوِّ، إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ، وهو جُهْدٌ وعملٌ لا غِنَى لجماعة المسلمين عنه، فحاجتُهم إليه وإلى من يقُوم به من المخلِصين، شيءٌ يُدْرِكُه مَن يعلم مقدارَ الثَّلْمِ الذي يُحدِثُه الفسادُ والإفسادُ بين المسلمين، ويعلمُ مقدارَ الشَّرخِ الكائنِ في الأمَّة بسبب الأدواء والأهواء المفرِّقَةِ لها، والقاضيةِ عليها وعلى وحْدَتِها، من أسباب التَّنازع ومُوَرِّثَاتِ الفَشَلِ وذهابِ الهيبةِ، مِمَّا يُوهِنُ أمرَ الأمَّةِ في الدَّاخل، ويوهنُ شأنَها في الخارج مع غيرها من الأمَمِ الأخرى، قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال:46].
والمخلصُ منِ المصْلِحين يَمْتَثِلُ أمرَ الله ورسولِه في إصلاحه للمجتمع، وإصلاحِ ذاتِ بَيْنِ المسلمين، لا يَخرُجُ عن سُنَنِ التَّغيِيرِ الشَّرعيَّةِ، ويُوَظِّفُ ما في يده من وسائلَ دعويَّةٍ(6) لهذا المقْصَدِ النَّبيلِ، ويستحضرُ معيَّةَ الله الخاصَّةِ لعباده الصَّابرين على المأمور والمحظورِ والمقْدُورِ، فهي معيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ إعانةَ الله جلَّ وعلا لمن حقَّقَ طاعتَه وطاعةَ رسولِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
هذا، وإنَّ أَوْلَى النَّاس بإصلاح ذات بَيْنِهم؛ الوالدان؛ فيحرِصُ المرءُ على أن يكونَ واصلاً لوالديه، مُوصِلاً لأحدِهما بالآخر، وهكذا الأمرُ مع الزَّوجين، والأقاربِ من العَصَبَةِ وذوي الأرحام، والجيرانِ لعِظَمِ حقِّهم في الإسلام، وسائرِ المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات…
وإصلاحُ ذات البَيْنِ، يقتضي ـ في كثير من الأحيان ـ تَنَازُلاً منَ المرءِ، فيما ليس بواجبٍ ديانةً، مطاوعةً منه لإخوانِه، مع سِعَةِ صدْرٍ وحُسْنِ ظَنٍّ، ليرى ثمرةَ إصلاحِه في الدُّنيا قبل الآخرة، ومن أعظم ثمراتها السُّؤددُ بحقٍّ، إذِ السُّؤددُ والرِّفعةُ إنَّما تكون بالعلمِ والعملِ والتَّعليمِ والإصلاحِ(7) والصَّبرِ والثَّباتِ، وقد جَعَلَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فضائل الحسنِ بن علي ـ رضي الله عنهما ـ إصلاحَه بين أهل العراقوأهل الشَّام، ومَدَحَه على ذلك وأثنى عليه(8) ممَّا يدلُّ على أنَّ الإصلاحَ بينهما ممَّا يحبُّه ويرضى عنه ويحمدُه اللهُ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مع أنَّ الحسنَ ـ رضي الله عنه ـ نَزَلَ عن الأمر وسلَّمه إلى معاويةَ بنِ أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ عام 41 ﻫ ، فَسُمِّيَ عام الجماعة لاجتماعِ النَّاسِ على معاوية ـ رضي الله عته ـ، واجتماعِ كلمةِ المسلمين، وزوالِ الفتنةِ بينهم.
فكان إصلاحُ الحسنِ بنِ عليٍّ ـ رضي الله عنهما ـ بالتَّنازل عن الأمرِ ومصالحةِ غيره، ـ وما دون شأنِ الوِلاية أَهْوَنُ وأيْسَرُ ـ، فنالَ ـ رضي الله عنه ـ بتنازُله هذا ـ سيَادَةً إلى سيادَتِه الَّتي كان عليها، قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»(9)، وعند أحمد: «إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»(10).
والملاحَظُ في هذا الحديث أمرانِ:
1 ـ ذكرُ النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسِيادة الحَسنِ ـ رضي الله عنه ـ وهو لا يَزَالُ طِفْلاً صغيرًا يلعبُ، قال الْحَسَنُ: (وهو البصري)(11): «وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ جَاءَ الْحَسَنُ(12) فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ،…» الحديث.
2 ـ إيماءُ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للعلَّةِ وهي الإصلاحُ بين الطَّائفتين العظيمتين؛ فَعُلِمَ منه أنَّ إصلاحَ ذاتِ بَيْنِ المسلمين سببٌ في السُّؤددِ والرِّفعةِ، وأنَّه من الأعمال التي يحبُّها اللهُ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأنَّ فيه الخيرَ كلَّ الخيرِ، كما قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء:128]، فحصل المقصودُ وبالله التَّوفيق.
قال الحافظ ابنُ حجر في «الفتح» (13/84):
«قال المهلَّبُ: الحديثُ دالٌّ على أنَّ السِّيادةَ إنَّما يستحقُّها من يَنْتَفِعُ به النَّاسُ، لكونِه علَّق السِّيادةَ بالإصلاحِ» اهـ.
وأيُّ منفعةٍ أرجى للمسلمين من حَقْنِ دمائِهم، وتأمينِ رَوْعَاتِهم، والحفاظِ على ضروريَّاتِ معاشِهم، ومَنْ حقَّق لهم ذلك ـ ولو بالتَّنازل عن الأمر ـ كان سَيِّدًا عند الخلْقِ، وأحبَّهم عند الخالِقِ، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى أَنْفَعُهُم لِلنَّاسِ…»(13) الحديث.
ولهذا كان إصلاحُ ذاتِ بَيْنِ المسلمين وصلاحُ حالِهم، أفضلَ من درجةِ الصِّيام والصَّلاة والصَّدقة،وذلك لما فيه من حُسْنِ المعاشرة والمناصحةِ والتَّعاون على البِرِّ والتَّقوى، وكان من أفضلِ الصَّدقاتِ التي يحبُّ اللهُ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَوضعَها، ومن أنفعِ التِّجارةِ بين العبدِ وربِّه، كما قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي أيُّوبَ ـ رضي الله عنه ـ:«أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟»، قال: بلى؛ قال: «صِلْ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وَقَرِّبْ بَينَهُم إِذَا تَبَاعَدُوا»(14).
وصِلَةُ النَّاسِ بعضِهم ببعضٍ إذا تَفَاسَدُوا، والتَّقرِيبُ بينهم ـ بالشَّرعِ الحنيفِ ـ إذا تَبَاعدوا، يستدعي وجودَ قَصْدٍ سليمٍ، ونيَّةٍ صالحةٍ صادقةٍ، إذْ لا يُوفَّق للإصلاح بين النَّاس إلاَّ من صَفَتْ سَرِيرَتُهُ، وحَسُنَتْ طَويَّتُه، قال اللهُ جلَّ وعلا في الصُّلحِ بين الزَّوجين: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ [النساء:35].
قال ابنُ عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ:﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً﴾: «هُما الحَكَمان»(15).
وقال مجاهد: «أمَا إنَّه ليسَ بالرَّجلِ والمرأةِ، ولكنَّه الحَكَمان».
ومعنى الإرادةِ المذكورةِ في الآية: «خلوصُ نِيَّتِهِمَا (المصْلِحَيْن) لصَلاَحِ الحالِ بين الزَّوجين»(16).
وهذا يدلُّ على أنَّ صَلاحَ نِيَّةِ الحَكَمَيْنِ له أثرٌ في التَّوفيق بين الزَّوجين، وقد وَجَدْتُ كلامًا للشَّيخ محمَّد الطَّاهر بنِ عاشُور في بيانِ وتقريرِ هذا المعنى، قال ـ رحمهُ الله ـ: «وقولُه تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً﴾: الظَّاهرُ أنَّه عائدٌ إلى الحَكَمَيْنِ؛ لأنَّهما المسُوقُ لهما الكلامُ، واقتصَرَ على إرادةِ الإصلاحِ؛ لأنَّها الّتي يجبُ أن تكونَ المقصدُ لوُلاَةِ الأمور والحَكَميْنِ، فواجبُ الحَكَميْنِ أن ينظرَا في أمرِ الزَّوجين نظرًا مُنْبَعِثًا عن نيَّةِ الإصلاح، فإنْ تَيَسَّرَ الإصلاحُ فذلك، وإلاَّ صارَا إلى التَّفريقِ، وقد وعدَهُما اللهُ بأنْ يُوَفِّقَ بينهما إذا نَوَيَا الإصلاحَ، ومعنى التَّوفيقِ بينهما؛ إرشادُهما إلى مصادفةِ الحقِّ والواقعِ،…»(17)اهـ.
هذا كلُّه في الإصلاح بين الزَّوجين، فكيف بالإصلاح بين النَّاسِ فيما هو أعظمُ شأنًا من بُضْعِ امرأةٍ! ـ كشأنِ الدِّماءِ ونحوِها ـ، فصلاحُ النِّيَّةِ في ذلك أَوْلَى وأَوْلَى، ولهذا لمَّا ناظرَ ابنُ عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ الخوراجَ، استدلَّ عليهم بهذه الآية الكريمة، وذلك في مسألة التَّحكيم المعروفةِ، فكان ممَّا قال ـ رضي الله عنه ـ:
«وفي المرأةِ وزوجِها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا﴾[النساء:35]، فنشدتُكم باللهِ(18) حُكمَ الرِّجالِ في صلاحِ ذاتِ بينِهم وحقنِ دمائهم أفضلُ من حكمهم في بُضعِ امرأةٍ؟…»(19).
فإصلاحُ ذاتِ بَيْنِ المسلمين أكبرُ عندَ الله، وأعظمُ حرمةً من الإصلاح بين الزَّوجين؛ لأنَّ الإصلاحَ سببٌ لِلاعتصام بِحبلِ اللهِ وعدمِ التَّفَرُّقِ بين المسلمِين، كما أنَّ فسادَ ذَاتِ البَيْنِ ثُلْمَةٌ في الدِّينِ، قد سَمَّاه النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحالِقَةَ الَّتي تحلِقُ الدِّينَ، فعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟»؛ قَالُوا: بَلَى؛ قَالَ: «صَلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ»(20)، وقد جاء تفسيرُ الحالقةِ مرفوعًا من قول النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»(21).
قال البَاجِي: «قال الأَخْفَشُ: أصلُ الحَالِقَةِ من حَلَقَ الشَّعْرَ، وإذَا وَقَعَ الفَسَادُ بَيْنَ قومٍ مِنْ حَرْبٍ أَوْ تَبَاغُضٍ حَلَقَهُمْ عَنْ البِلَادِ؛ أَيْ: أَجْلَتْهُمْ وفَرَّقتْهُم حَتَّى يُخْلُوهَا، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا لَا تُبْقِي شَيْئًا مِنْ الحَسَنَاتِ حَتَّى يَذْهَبَ بِهَا كَمَا يَذْهَبُ الحَلْقُ بِالشَّعْرِ مِنْ الرَّأْسِ حَتَّى يَتْرُكَهُ عَارِيًا» اهـ(22).
فَعُلِمَ منَ الحديثِ أنَّ فسادَ ذاتِ الدِّين تحلق الدِّينَ وتهْلِكُه، وتسْتَأْصِلُه كما يَسْتَأْصِلُ الموسَى الشَّعْرَ، وذلك لكثرةِ ما يترتَّب عليه من الفساد والضَّغائنِ، وكثرةِ ما يُسَبِّب من العداواتِ، وتَشْتِيتِ القلوبِ وَوَهَنِ الأديانِ، وتسليطِ الأعداء وشَمَاتَةِ الحُسَّادِ، فلذلك صار مقابلُه ـ إصلاحُ ذات البَين ـ أفضلَ الصّدقاتِ(23).
ونَيْلُ درجةِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والصَّدقةِ بإصلاحِ ذاتِ البَيْنِ، مَشروطٌ فيه قيامُه على العِلم والعدلِ المصحوبَيْن بالقصدِ الحَسنِ، قال شيخُ الإسلام ابنُ القيِّم: «فالصُّلحُ الجائزُ بين المسلمين هو الَّذي يُعْتَمَدُ فيه رِضَى اللهِ سُبحانه ورضَى الخصْمَيْنِ، فهذا أعْدَلُ الصُّلحِ وأحقُّه، وهو يَعْتَمِدُ العلمَ والعدلَ، فيكونُ المُصْلِحُ عالما بالوقائعِ، عارفًا بالواجبِ، قاصدًا للعدلِ، فدرجةُ هذا أفضلُ من درجةِ الصَّائم القائم…»(24)؛ وهذا سِرٌّ بَديعٌ في فقه الإصلاحِ، واللهُ الموفِّقُ لا ربَّ سِواه.
مقال للشيخ عثمان عيسي.
—-
(1) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما بسند حسن.
انظر: «التفسير المختصر الصحيح» (ص114).

(2) أخرجه آدم بن أبي إياس في «تفسيره» بسند صحيح.
انظر: «التفسير المختصر الصحيح» (ص449).

(3) حسن: رواه أبو داود (8). ط/بيت الأفكار الدولية.
(4) «فيض القدير» للمُناوي (2/723).
(5) صحيح: رواه أحمد في «المسند» (رقم 21816). ط/بيت الأفكار الدولية.
(6) وهي وسائلُ تَوْقِيفِيَّةٌ لا تُستبدل بغيرها بزعم «المصلحة الدعوية»!
(7) انظر تأصيلاً نفيسًا في «نَيْلُ السُّؤدَدِ بالعلم»؛ للأخ الشيخ عبد المالك رمضاني في كتابه «سِتُّ دُرَرٍ من أصولِ أهل الأثر» (ص77)، طبعة منار السبيل/عام 1445هـ.
(8) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (1/194) و(3/556) بتصرُّف.
(9) أخرجه البخاري (2704) وغيره.
(10) في «المسند» (رقم20721). ط/بيت الأفكار الدولية.
(11) كما استظهر ذلك الحافظُ في «الفتح» (13/82 ـ 83).
(12) وعند البيهقي في «دلائل النبوة»: «…إذْ جاء الحسن ابنُ عليٍّ فصعدَ المنبرَ».
(13) حسن: رواه الأصبهاني عن عبد الله بن عمر ب.
انظر: «صحيح الترغيب والترهيب» (2/359/2623) و«السِّلسة الصَّحيحة»: (906).

(14) حسن لغيره: رواه البَزَّار، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» (3/45/2818).
(15) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم في تفسيريهما بسند حسن.
(16) «فتح القدير» للشوكاني (2/139).
(17) تفسير «التَّحرير والتَّنوير» (5/47).
(18) يقول هذا ابنُ عباس مخاطبًا الخوارج.
(19) أَثَرٌ صحيح، أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (10/157/18678)، وأخرج بعضَه أحمد في «المسند» (رقم656)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/319)، والطبراني في «المعجم الكبير» (10/257/10598)، وغيرهم، قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على «المسند»: إسناده حسن.
وانظر: «مناظرات السَّلفِ» (ص95) للشَّيخ سليم الهلالي.

(20) صحيح: رواه أبو داود (4919)، والترمذي (2509) ط/بيت الأفكار الدولية.
(21) حسن لغيره، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» (3/44/تحت رقم 2814) و«غاية المرام» (414).
(22) «المنتقى» (4/291).
(23) «فيض القدير» (3/137) بتصرف.
(24) «إعلام الموقِّعين»: (1/109 ـ 110).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.