وسطح الإقليم متنوع بين سهل ساحلي يضيق في الجزء الأوسط بحيث يتكون من جيوب ساحلية تنحشر بين رؤوس صخرية تصل إلى الساحل، ولكن في جناحي برقة: في البطانان شرقاً، وفي برقة البيضاء والحمراء غرباً، يتسع هذا السهل الساحلي بحيث يمتد عشرات الأميال إلى أن يلتقي بالصحراء، والى جانب هذا السهل الساحلي يوجد الجبل الأخضر الذي يرتفع عن مستوى سطح البحر بحوالي ألف متر وتكسوه الخضرة الدائمة، ويرتفع الساحل ارتفاعاً مباشراً ولكنه ينحدر تدريجياً نحو الصحراء في الجنوب، وبه الأراضي الصالحة للزراعة المساحات الكبيرة التي ترويها مياه الأمطار الغزيرة.
والى الجنوب من الجبل الأخضر توجد الصحراء الواسعة التي تكون معظم مساحة الأقاليم وهذه الصحراء مستوية وان وجد بها بعض الكثبان والهضبات فهي مستوية أيضاً، وفي صحراء برقة توجد أودية عميقة بعضها يمتلئ بالماء فترة ما وبعضها يكون جافاً طول السنة، كما توجد بعض الآبار والينابيع المتناثرة وسط الصحراء تحيط بها واحات فقيرة مثل الجغبوب والكفرة، وجالو، وأوجلة.
وسكان برقة يعيشون في تنظيم قبلي اتضحت صورته منذ الفتح الإسلامي ثم عندما زحفت قبائل بني هلال، وبني سليم من مصر إلى المغرب منذ القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي، أصبحت هذه القبائل تنقسم إلى قسمين رئيسين: القبائل السعدية ، وقبائل المرابطين ، ويذكر البعض أن السعديين هم قبائل بني سليم، وأن المرابطين هم بقية القبائل العربية اليمنية التي جاءت مع الفتح الإسلامي والتي اختلطت مع سكان البلاد وعربتهم، وأن ثمة قبائل من المرابطين لها شرف في النسب الى بيت الرسول e ومن أهم القبائل السعدية ، العبيدات، وعائلة فايد، والحسا والبراعصة، والدرسة، والعبيد، وعرفة، والعواقير، والمغاربة، وأهم قبائل المرابطين: المنفة ، والقطعان، والحوطة، والفواخر والزوية.
وقبائل برقة تعيش نفس التنظيم القبلي العربي من حيث انقسامها الى عشائر وبطون وأفخاذ، وللقبيلة أرض تملكها وتنتقل في ارجائها، وأفراد كل قبيلة متضامنون في أداء ما عليهم من واجبات وفي الحصول على مالهم من حقوق، ولكل قبيلة رئيس أو شيخ له الرياسة العامة على أفرادها. ومنذ أيام الفتح الإسلامي حتى العصر الحديث كان الحكم في برقة يأخذ القبيلة بعين الاعتبار في تقسيم البلاد إلى وحدات إدارية، بحيث تكون القبيلة أساساً لتطبيق النظام ومساعدة الحكام.
كان القبائل في برقة تعيش حياة غير مستقرة؛ فيما عدا الواحات، وكثيراً ما تتقاتل من أجل المراعي أو مياه الآبار.
وقد توفرت في برقة ظروف ملائمة لظهور الحركات السنوسية بوصفها حركة إسلامية شاملة:
1.أن برقة منفصلة عن الأقطار المجاورة بالصحارى والفيافي التي تحيط بها.
2.تتألف برقة من قبائل عربية بدوية تربطها أنماط حياة اجتماعية متجانسة.
3.يقوم النظام القبلي في برقة على (عصبيات) دموية مشتركة وتقاليد وأعراف متشابهة.
4.لاتزال المناطق الريفية بعيدة عن سيطرة المدن.
5.لم يمارس الحكام العثمانيون إلا سيطرة ضعيفة على المناطق الداخلية.
إن النظام القبلي في برقة كان حلقة مفقودة في خطة ابن السنوسي ووجد ضالته في ذلك المجتمع، فقد أوجد النظام القبلي القواعد السياسية التي أقيمت عليها الحركة السنوسية، إن النظام القبلي في برقة تميز بالتعقيد ووجود مؤسسات متطورة لها مصالحها الاقتصادية، وتركيبتها الاجتماعية ويرجع نجاح الحركة السنوسية في برقة في بعض جوانبه إلى التكيف مع هذه التركيب القبلي المعقد، إن الحركة السنوسية وجدت بنية اقتصادية، وتركيبية اجتماعية استطاعت أن تتفاعل معها الحركة، لقد استطاع ابن السنوسي أن يشيد على البناء القبلي تنظيماً إرشاديا ووعظياً، ولم يكن من الممكن إقامة مجتمع جديد بدون ذلك البناء القبلي.
لقد وجد ابن السنوسي ضالته في قبائل برقة، ووجدت القبائل ضالتها المنشودة في دعوة ابن السنوسي.
كانت قبائل برقة قبل مجيء ابن السنوسي تتخبط في دياجير الظلام، حيث استفحل الجهل في تلك القبائل رغم اعتناقها الإسلام الذي تنتسب إليه اسمياً وبالفطرة، ولم يبقى لها من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه وإليك بعض الصور من هذا الانحراف الخطير:
1.اتخذت بعض القبائل مواقع من برقة لتأدية فريضة الحج بدلاً من الحج الى بيت الله الحرام.
2.كانت بعض القبائل لا ترى ضرورة صيام رمضان فتكلف ثلاثين شاباً قوياً، فيصومون يوماً واحد، ويرون بذلك قد أدوا واجب الصيام على المسنيين والعجزة وأرباب الأعمال من أهل القبيلة.
3.كثر الأدعياء والدجالين الجهلة الذين يدعون لأنفسهم مقام الولاية والصلاح دون معرفة أصول الدين وعلى غير علم به، وكان حقهم في هذا المقام هو بالتوارث خصوصاً إذا ما كان بين هؤلاء الأدعياء من له صلة بنسب شريف ولهؤلاء مكانتهم في نظر العامة التي اعتقدت أنهم يتصرفون في ملكوت الله أحياء وأمواتاً، وأنهم في حالة الغضب أو الرضى يشقون ويسعدون .
4.لقد غابت كثير من شعائر الدين بين تلك القبائل.
5.كانت القبائل يكثر بها الجهل قلما تجد من يعرف القراءة والكتابة، فكل من يصل إليه كتاب يذهب به إلى اقرب المدينتين إليه بنغازي أو درنة لقراءته.
6.كان القوي منهم لا يتورع في الحصول على ما تصبو إليه نفسه بالقوة حتى أن الضعيف لا يرى له حقاً.
7.كانوا لا يرون في شن الغارات والغزو والقتال عيباً، فكل قبيلة من القبائل العربية تعمل ما يعزز مركزها ويقوي شوكتها في نظر القبيلة الأخرى.
8.كانت الحروب تندلع بين القبائل بأقل الأسباب وأتفهها ، فتارة من أجل شخص حلب ناقة غيره بدون استئذانه، وتارة من أجل شخص ضاف آخر فلم يكرم وفادته، ومرة من أجل بهيمة أكلت زرعاً، وحيناً من أجل رجل تزوج امرأة ولها ابن عم لا يريد زواجها منه…الخ فبمثل هذه الأسباب كانت تقع الحروب الكثيرة التي جرت القبائل الى هاوية الخراب والدمار، ولم يمر وقت طويل بدون حرب، ومن أهم الحروب التي وقعت ببرقة قبل مجيء ابن السنوسي حرب العبيدات وأولاد علي ، وحرب قبائل الجبارنة مع الفوائد، ثم الجبارنة مع الحرابي المعروف بحرب (بياض)، وحرب المغاربة مع الزواوات، إلى غير ذلك من الحروب الكثيرة.
ولكن الدعوة السنوسية استطاعت أن تزكي النفوس، وتقوى الإيمان، وتنشر العلم، وتزيل الجهل ، وتحارب الظلم، وتحبب العدل إلى نفوس تلك القبائل ، وبعد فترة من الزمن أصبح من تلك القبائل علماء عاملون يدعون إلى الخير وبه يعدلون ولقد استطاع الشاعر أبو سيف مقرب حدوث البرعصى أن يصف الحالة التي كان عليها قومه وكيف تحولوا عنها نتيجة للدعوة السنوسية:
وكم من حريم قد أباحوا وأجحفوا
بمال غني لا يخافون عادياً
وكم جهول أسود اللون خلقة
كساه لبوس العلم ابيض صافياً
وكم بدوي في الفلا خلف نوقه
يبول على الأعقاب أشعث حافياً
تلافاه في مهوى الضلالة هاوياً
فأصبح نجماً بالهداية عالياً
فتاهوا به فخراً على كل حاضر
ومن جاور الأعلى يحوز المعاليا
وهذه قصيدة الشاعر الأديب الأستاذ احمد شنيب المعروفة بـ (عقيدة وخلود) توصف حال المجتمع الليبي فتقول:
ارض الجدود وقد جفاك بنوك
حتى استحل دم العروبة فيك
ما خطبهم باعوا الهداية بالدجى
وتفرقوا ، وبجهلهم خذولك
وتشتتوا في الأرض لا من غاية
غير التناحر والدم المسفوك
شعب تفرق شمله وقبائل
لم يدركوا (التعارفوا) فرموك
ياوحيهم ما جاء عمرو غازيا
إلا لنشر الحق في ناديك
ودم الصحابة لم يرق عفواً ولم
يستشهد الأبرار حين غزوك
وهبوا حياتهم لنصرة ربهم
والدين والقرآن كي يحموك
عادت عصور الجاهلية بينهم
وتصدع الإسلام بين يديك
وا حسرتاه على الحنفية كم غدت
تبكي كرامة مجدها المهتوك
لا الدين أصبح يهتدي بجلاله
لا السنة العصماء تسعد فيك
والمسلمون أدلة ليست لهم
من دينهم غير اسمه ياسوك
ساءت موازين الحياة وبالهوى
ساسوا الأمور، وخسفهم ساموك
وتطلع الغرب الغريب توثباً
واعد عدته لكي يرو يك
أبناء روما في الشمال تحفزوا
وبنوا فرنسا في الجنوب قلوك
الله يارض الجدود ومن سوى
رب السماء من الأذى ينجيك
إن الذي بعث النبي محمداً
للتائهين اعز من يهديك
يا ابن السنوسي الكبير تحية
من أمة في عصرها المنهوك
جاءت إليك تحط كل رجائها
وتطوف حول ركابك المبروك
إن اختيار ابن السنوسي لبرقة كان قراراً حكيماً، يدل على معرفته للمنطقة جيداً، فقد اتصفت برقة بفراغها السياسي وبجهلها العلمي وبكونها مخرجاً لأواسط أفريقيا.
وظل ابن السنوسي خمس سنين وقيل ستة في برقة، ينشئ الزوايا وينظمها، ويرسم مناهج الدعوة ومبادئها ويبث دعوته الاصلاحية عن طريق هذه الزوايا. ثم عاد بعد هذه السنوات الخمس الى الحجاز، المركز الأول لدعوته، ومنذ ذلك الوقت كان للدعوة عنده مركزان رئيسيان : شرقي في الحجاز وغربي في برقة، وعن هذين المركزين أخذت الدعوة السنوسية تنتشر بواسطة الزوايا هنا وهناك.
إن سفر ابن السنوسي إلى مكة يدلنا على إنه كان لديه مشروعات دعوية كثيرة في العالم الإسلامي، وأن هدفه فتح أراضي جديدة لدعوته، لقد استطاع ابن السنوسي أن يرسي قواعد الدعوة في برقة ويثبت أسسها ، فغادر برقة وهو مطمئن إلى أن دعوته ستنتشر ، وقد خلف وراءه عدداً من الإخوان للإشراف على الحركة.
لقد كان ابن السنوسي يخطط في تنظيمه بحيث يكفل الاستمرار بغض النظر عن وجوده أو عدم وجوده.
منقول من كتاب : الحركة السنوسية ج1 ، ص 30،25