والعمل الذي يداوم عليه صاحبه، مع أنه أحب إلى الله تبارك وتعالى، وأنه هدي النبي صلى الله عليه و سلم ففيه ما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم بقوله:" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا" البخاري (2996)، وهذا إنما يتأتى لمن له عمل يداوم عليه.
ويتحدث أرباب السلوك عن هذا الحديث ومعانيه، ويمثلون له كثيراً بالصلاة والذكر والصيام والصدقة، ولاشك أن هذه الأعمال أولى ما تدخل فيه، بل هي تدخل فيه بالنص.
لكن ألا يمكن أن يستضيء الدعاة إلى الله تبارك وتعالى في دعوتهم بمعاني هذا الحديث ويتمثلونها؟ ويعلمون أنه ما دام أن أحب العمل إلى الله أدومه، فالدعوة إليه تبارك وتعالى وهي من أفضل الأعمال، ينبغي أن تسلك هذا المسلك.
والمداومة في الدعوة تعني معاني عدة، منها:
1- أن يكون للدعوة عموماً أهدافٌ واضحة محددة، لا أن تكون خطوات مرتجلة مبعثرة.
2- أن لا تكون الدعوة مجرد ردود فعل لمواقف معينة، وأن تأخذ ردود الأفعال موقعها الطبيعي؛ فلا تكون مصدراً لرسم برامج الدعوة وأهدافها.
3- أن لا تكون الدعوة دعوة موسمية ومناسبات، أو تكون متعلقة بأوقات فراغ الداعية وإجازاته، بل تكون جزءاً أساساً من وقته، ويسمع الناس داعي الخير في كل زمان ومكان.
4- لزوم الداعية موقعه والمحافظة عليه؛ ذلك أنه تبدو أمامه كل وقت مجالات وفرص متعددة هنا وهناك، وحين يتاح له موقع من المواقع، يسد فيه ثغرة، فينبغي أن يحافظ عليه، ولايجاوزه إلا لمصلحة ظاهرة، أما أولئك الذين ينتقلون كل يوم من ميدان إلى آخر فما أقل إنتاجهم.
5- عدم احتقار الميادين المهمة التي لها أثر عميق لكنه غير عاجل الثمرة، كميادين التربية والبناء، فهي وإن قل أثرها القريب الظاهر، إلا أنها ضرورة لاغنى للدعوة عنها، والذي يعي مفهوم المداومة يرى أنه ليس بالضرورة أن تكون الأعمال ذات الأثر العاجل السريع خيراً منها وأولى.
ومما يتأكد على الدعاة إلى سبيل الله تبارك وتعالى في ميدان المداومة أن يكون لأحدهم نصيب وقدر من العمل الصالح، من الصلاة والذكر والتلاوة والصيام والصدقة-وإن كان قليلاً- لا يخل به، وهم أحوج الناس للصلة بالله تبارك وتعالى، ولهم في ذلك أسوة بنبيهم محمد صلى الله عليه و سلم.
حين يتمثل الدعاة إلى الله تبارك وتعالى معنى المداومة في دعوتهم، فإن هذا يؤمل أن يولد نتائج عدة، منها:
1 – حصول التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم ، وهذا عبادة بحد ذاته يؤجر عليه المسلم، ويحصل به بركة متابعة النبي صلى الله عليه و سلم .
2 – أن العمل قد أعد له إعداداً جيداً، وأخذ نصيبه من الدراسة والمراجعة، ولم يكن نتاج فكره طائشة أو خاطرة لم تأخذ حقها من التفكير.
3 – المداومة تعني التخصص، الذي ينشأ عنه سد للثغرات التي قد لا تجد لها مكاناً بين الأفكار الطارئة، وينشأ عنه التوزيع المعتدل للطاقات تدون أن تسهم التفاعلات الفكرية والثقافية في تفتيتها أو تركزها في ميدان دون آخر؛ ذلك أن الحديث عن نجاح ميدان أو تجربة دعوية، أو الحديث عن أهمية ميدان ومجال مهمل، أو عن خطورة تحد يواجه الأمة والدعوة، ربما أسهم ذلك كله في توجه غير معتدل للطاقات نحو هذا الميدان مما ينشأ عنه إخلاء ثغور ومواقع لم تجد من يجيد الاستنفار لها .
4 – المداومة تعني عمق القناعة بالعمل وأنه لم يكن ناشئاً نتيجة ظرف معين أو خاطر سريع، وهو يعني أن تكون ردة الفعل تجاه الأحداث متزنة؛ إذ طالما أسهم الانسياق وراء حدث أو ظاهرة مفاجئة في ردة الفعل تولد تطرفاً وغلواً في الاتجاه المقابل.
5 – المداومة على العمل تقضي على ظاهرة استعجال قطف الثمرة، والإجهاظ الفكري للمشروعات والبرامج الدعوية والتغيرية، وتلك إنما تنشأ عند أولئك الذين لم يستقر لهم قرار في ميدان دعوي، أو لم يحققوا مبدأ المداومة في الدعوة.
6 – المداومة تعني انضباط أهداف العمل؛ إذ هي نتاج تفكير هاديء، وممارسة وتجارب طويلة، وعمل متخصص، وليست مجرد حماسة أو ردة فعل تجاه انحراف أو موقف معين.
7 – المداومة تعني التدرج في العمل، والسير فيه بخطوات هادئة ثابتة متزنة، تنظر إلى المستقبل بعين واسعة، وأفق رحب، أما أولئك الذين تحركهم العواطف والمواقف فلا يجيدون العمل المتدرج الهاديء، بل حين يقتنعون بأهميته وضرورته فلن يطيقوا الاستمرار فيه.
8 – المداومة تعني صعوبة وصول الوصوليين، أو حدثاء العهد بالاهتمامات الدعوية إلى مراكز الريادة والقيادة في العمل الإسلامي الذي أصبح يملك قدراً من الاستمرار وثبات الأهداف، ويفرض على الطارئين أن ينموا بصورة طبيعية في ميدان العمل، وإلا لن يجدوا لهم مكاناً رحباً.
ولقد أسهم فقد هذا الجانب في تصدر بعض من ليس أهلاً للتصدر في ساحة العمل الإسلامي ولدى جماهير الصحوة، سواء أكان حسن النية والطوية لكنه لم تنضج خبرته وتجربته الدعوية، أو كان سيئ النية.
والعناية بمبدأ المداومة في العمل الدعوي وأهميته لا يعني :-
1 – احتقار البرامج الطارئة والابتكارات السريعة، والتي ربما استفادت منها الدعوة دفعة جديدة، وفُتِحت فيها آفاق لم تكن قبل كذلك.
وكما أن العابد لربه الذي له هدي راتب من العمل حين تتاح له فرصة للخير وتتجه نفسه نحو باب من أبواب العبادة فإنه يستثمر ذلك، فكذلك الداعي إلى الله تبارك وتعالى، ينبغي ألا تحول عنايته بالعمل الدائم عن اغتنام الفرص، لكن فرق بين أن يكون ذلك هو الأصل وهو المسير للعمل، وبين أن يكون ميداناً يستثمر حين يتاح.
2 – الجمود في الأعمال الدعوية والبرامج والوسائل؛ إذ التجديد والتطوير لا يعني إلغاء الأصل، والاستمرار والمداومة لا تعني المحافظة على الرسوم وتحول الوسائل إلى غايات.
3 – عدم التكيف مع الظروف والتعامل معها؛ إذ هي تفرض نوعاً من المراجعة لأهداف العمل وبرامجه، بما يضمن لها استمرار البقاء والتأثير.
4 – ترك توظيف الطاقات الأقل جدية والتي لا تجيد العمل الدائم، والبرامج بعيدة المدى، بل على الدعاة إلى الله أن يعنوا بتوظيف كل طاقة خيرة، وألا يحتقروا جهداً أو فرداً يمكن أن يقدم عملاً مثمراً، لكن يبقى أولئك في موقعهم الطبيعي، ولا يتحول هذا إلى قاعدة ينطلق منها الجميع.