سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن،ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في في غاية الجد في العمل مع غاية الخوف، فهذا الصديق كان يمسك لسانه ويقول:" هذا الذي أوردني الموارد ثم يبكي طويلا". وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله جل وعلا، وأما عمر فقد قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه؛ وقال لابنه وهو في سياق الموت:" ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني"؛ ثم قال:" ويلَ أمي إن لم يغفرِ الله لي!!؛ ثم مات وأرضاه؛ كان في وجهه خطان أسودان من البكاء؛ ولما قال له بن عباس:" يا أمير المؤمنين مَصَّر اللهُ بك الأمصار، وفتح الفتوح، وفعل وفعل" فقال:" وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر"، وقال أبو الدرداء :" إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال: يا أبا الدرداء قد علمت فكيف عملت فيما علمت؟".
قال بن أبي مليكة :" أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل و ميكائيل".
ألا فاعلم أيها الموفق المسدد: أن الذنوب والمعاصي تضر ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي قال الله جل وعلا: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت/40].
يروى أن بعض أنبياء بني إسرائيل نظر إلى ما يصنع بُختنصر ببني إسرائيل من القتل والتنكيل فقال:" بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفك و لا يرحمنا"؛ قال بن عباس رضي الله عنهما:" يا صاحب الذنب لا تأمن فتنة الذنب وسوء عاقبته ولتتبعك الذنب أعظم من الذنب إذا عملته،وقلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب ، وضحك وأنت لم تدر مالله صانع بك أعظم من الذنب ، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب".
كتبت عائشة أم المؤمنين إلى معاوية كاتبِ الوحي تقول أمابعد:" فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاما" وعن سالم بن أبي الجَعْدِ أن أبا الدرداء قال:" ليحذر امْرِئٌ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، ثم قال: أتدري مما هذا؟ إن العبد يخلوا بمعاصي الله فيلقي اللهُ بغضَه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر!!" .
ذكر عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن محمد بن سيرين أنه لما ركبه شيء اغتم لذلك فقال:" إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة ".
قال يحي بن معاذ:" عجبت من ذي عقل يقول في دعائه: اللهم لا تُشْمِتْ بِيَ الأعداء ثم هو يُشْمِتُ بنفسه كل عدو له " قيل وكيف ذلك؟ فقال:" يعصي الله فيشمت به عدوه ". فاللهم احفظنا يا أرحم الراحمين.
معاشر المؤمنين: للمعاصي من الآثار والذنوب المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه إلا الله جل وعلا فمنها:
حرمان العلم: فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور لما جلس الشافعي بين يدي الإمام مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه، فقال إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفأه بظلمة المعصية.
ومن آثار الذنوب والمعاصي: وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله، لا يوازنها ولا يقابلها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام.
ومنها الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس، ولا سيما بينه وبين أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم؛ وكلما قويت تلك الوحشة بعد عنهم ومن مجالستهم، وَحَرِمَ بركةَ الإنتفاع بهم، وقَرُبَ من حزب الشيطان بقدر ما بَعُدَ من حزب الرحمان، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم، فتقع بينه وبين امراته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشا من نفسه، قال بعض السلف:" إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".
ومن آثار الذنوب والمعاصي: تعسير أموره: فلا يتوجه لأمر إلا ويجده مغلقا دونه ومتعسرا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من كل أمر فرجا ومن كل ضيق مخرجا، وجعل له من أمره يسرا؛ ومن أبطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا !!، ويا لله العجب !! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه متعسرة عليه وهو لا يعلم من أين أوتي، فتفكر في حالك يامسكين ودع ما يضرك في الدنيا والآخرة.
ومن آثار الذنوب والمعاصي: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم، فتصير ظلمة المعصية في قلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع، والضلالات، والحزبيات، والتَـفَرُطِ في الدين والأمور المهلكة وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشي وحده؛ وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعم الوجه، وتصير سوادٌ في الوجه يراه كل أحد.
قال بن عباس رضي الله عنهما:" إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسَعَةً في الرزق، وقوة في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق؛ وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمةً في القبروالقلب، ووهنا في البدن، ونقص في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق".
اللهم إنا نتوب إليك ونستغفرك ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
أقول ما تسمعون , وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفو الرحيم.
————————- الخطبة الثانية ————————
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وصحبه ومن اقتفى أثره واستنى بسنته.
أما بعد: فمن آثار وعقوبة الذنوب: أنه يسترق من القلب استقباحُ المعصية فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه؛ وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التفكه وتمام اللذة، حتى يَفْتَخِرَ أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يكن يعلم أنه عملها، فيقول يا فلان عملت كذا وكذا وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب، كما في الحديث عن رسول الله أنه قال:" كل أمتى معافىً إلا المجاهرون".
ومنها أن المعصية تورث الذل ولا بد، فإن العِزَّ كُلَّ العِزِّ: في طاعة رب العالمين قال الله جل وعلا: من كان يريد العزة فالله العزة جميعا أي: فليطلبها في طاعة الله. الله أكبر!!! أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
من آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهواء، والزروع والثمار والمساكن، قال الله جل وعلا : ظهر الفساد في البَر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قال الإمام بن القيم رحمه الله:" والظاهر والله أعلم أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى: ليذيقهم بعض الذي عملوا فهذا حالنا وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا فلو أذاقنا كل أعمالنا لماترك على ظهرها من دابة " انتهى كلامه رحمه الله وغفر له.
ومن آثار الذنوب والمعاصي: حرمان الطاعة فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أنه يصد عن طاعة تكون بدلا، ويقطع طريق طاعة أخرى فينقطع عليه طريق ثالثة ثم رابعة ثم هلم جرا…! فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها .
ومنها أن المعاصيَ تزرع أمثالها، ويُوَلِدُ بعضُها بعضًا، حتى يصعب على العبد مفارقتُها والخروجُ منها، كما قال بعض السلف:" إنَّ من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها، وإنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها ".
فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه، ولو عطل المذنب المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره، وأعيت عليه مذاهبه، حتى يعاود المعصية !!، حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ولا داعية إليها، إلا لما يجد من الألم في مفارقتها كما قال بعضهم :
وكأسٍ شربت على لذة ******** وأخرى تداويت منها بها.
ومن عقوبة المعاصي- وهو من أخوفها على العبد-: أن الذنوب تُضعف القلب عن إرادته، فتقوى فيه إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا، إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية؛ فلو مات نصفه لما تاب إلى الله جل وعلا !!، وقد يأتي بالإستغفار والندم وتوبة الكذابين باللسان، لكن قلبه متعلق بالمعصية، مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك. – نسأل الله السلامة والعافية -.
ومن عقوباتها أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد؛ شاء ذلك أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد، لما تجرأ على معاصيه، وربما اغتر المغتر وقال: إنما يحملني على المعاصي حسن الرجاء وتضاعيفِ عفوه! لا ضعف عظمته في قلبي، فهذا من مغالطة النفس؛ وإن عظمة الله جل وعلا وإجلالَهُ في قلب العبد، يقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته يحول بينه وبين الذنوب، والمتجرؤون على معاصيه ماقدروه حق قدره، كيف يقدره حق قدره، أو يعظمه، أو يرجو وقاره ويجله، من يهون عليه أمره ونهيه، إن هذا لمن أبين الباطل، وكفى بالعاصي عقوبة أن يظمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته ويهونَ عليه حقه.
ومن عقوبة هذا: أن يرفع الله مهابته من قلوب الخلق، فيهون عليهم ويستخفون به؛ كما هان عليه أمر الله واستخف به؛ فعلى قدر محبة العبدِ لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الجبار يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمه لربه وحرماته يعظم الناس حرماته.
الله أكبر كيف ينتهك عبد حرمات الله ويطمعُ أن لا ينتهك الناس حرماته!؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق .
ومن عقوباتها: أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخر، وتعوقه وتوقفه عن السير فلا تدعه يخطو إلى الله خَطْوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى وراءه،والذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تُسَيِرُهُ، فإن زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه. فالله المستعان.
ومن عقوبات الذنوب والمعاصي: أنها تزيل النعم وتُحِلُ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب، ولاحلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي :" ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة "؛ قال الله جل وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال/53].
ألا فاعلموا أنَّا في نعمة عظيمة، نعمة التوحيد والسنة والإجتماع وظهور الدعوة السلفية – دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب- فلا تبدلوا نعمة الله كفرا؛ ولا تغرنكم الأفكار المستوردة المشبوهة؛ وإن زخرفها المبطلون، فإنكم على دين قيم وصراط مستقيم؛ واحذروا المعاصي فإنها تُجَرِئُ أهل البدع علينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم ياحي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام اللهم إنا نسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين.
اللهم انصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين.
اللهم عليك باليهود والنصارى، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في فلسطين، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كشمير، اللهم كن لهم عونا ونصيرا، اللهم انصرهم على القوم الكافرين، اللهم اجمع كلمتهم على التوحيد والسنة يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود ومن ناصرهم، اللهم من أعانهم على أهل الإسلام اللهم مزق ملكه، اللهم مزق ملكه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين.
اللهم أخرجهم من بلادنا أذلة صاغرين.
جزاك الله كل خير