بقيت بعد زواجي خمس سنوات دون إنجاب ، فاتفقنا أن نتكفل طفلة ، وبعد أن بدأنا بالإجراءات علمت بحملي ، فاتفقنا على إتمام موضوع الكفالة ، ولكن بعد ولادتي وجدت الأمر صعبا ، فصحتي لن تساعدني في تربية طفلين بعمر واحد ، وسوف أقصر معهما ، كما أني أخاف من عدم العدل بينهما ، واستخرت وقررت أن أترك موضوع الكفالة ، وكان زوجي قد خيَّرني فيه ، فلما أخبرته بقراري غضب عليَّ وأصر على إتمامه ، وبعد استلامنا للطفلة تعبت في خدمتها ، فأخَذَتها والدة زوجي ، ولكنه صار غاضبا مني ، وأساء معاملتي جدا وأهانني ، وبعد أن طلبت منه والدته إبقاء الطفلة معها طلب مني إرضاعها ، ولكني رفضت ؛ لأني كرهت هذا الأمر لما سببه لي من مشاكل ، وقلت له : أن ترضعها أخته ؛ لأنها ستأخذ الطفلة في المستقبل .
وأسئلتي هي :
1. هل يجوز لي رفض طلب زوجي في إرضاع الطفلة ؟ 2. نحن نخفي ابنتنا الحقيقية عند زيارة المشرف على الكفالة ؛ لأنهم إذا علموا بإنجابنا سيسحبون منا الطفلة المكفولة ، وقد مضينا إقرارا بإخبارهم إذا أنجبنا ، فهل هذا خطأ ؟ 3. يقول لي زوجي إن الله رزقنا بالذرية ؛ لأننا تكفلنا بطفلة فإذا تركناها قد يبتلينا الله في ابنتنا هل هذا صحيح ؟ 4. اقترحت على زوجي أن نكفلها بالمال في مكانها فرفض ، وقال : إنه يريد تطبيق حديث : ( أنا وكافل اليتيم كهاتين )، فهل الكفالة يجب أن تكون بالتربية في المنزل ؟ 5. هل أنا أصد عن سبيل الله وأبخل بالخير بعد النعمة ؟
الجواب :
الحمد لله
ليس من الحكمة في شيء أن يصير عمل الخير والمعروف سببا للنزاع والشقاق بين الزوجين ، وسببا لتبادل الاتهامات وإحداث الاضطرابات في الأسرة التي كانت آمنة مطمئنة ، فذلك من سبيل الشيطان الذي يريد أن يوقع بين الناس العداوة والبغضاء ، ويفرق أواصر المحبة والألفة بينهم ، ولو عرف كل واحد حقوقه وواجباته لما وصل الحال إلى ما ذكر في السؤال .
فالحضانة في الشريعة الإسلامية حق للحاضن وليست حقا عليه ، بمعنى أن الحاضن بالخيار ، إن شاء حضن الولد واشتغل بتربيته ورعايته ، وإن شاء ردَّه إلى وليه وطلب منه كفالة المحضون بمن يقوم على شؤونه ، ولا يجب إلا في حالة الاضطرار ، بأن لا يتوفر إلا هذا الحاضن ، فحينئذ لا يجوز له أن يترك الولد إلى ضياع .
وهذا كله في الولد الذي بينه وبين حاضنه رحم ، فكيف الشأن إذا كان المحضون يتيما تريدون كفالته ، لا شك أن هذا أولى أن لا يكون واجبا على الزوجة .
يقول ابن الهمام الحنفي رحمه الله :
" إذا طلبت الأم فهي أحق به ، وإن أبت لا تُجبر على الحضانة " انتهى من " فتح القدير " (4/368) .
ويقول ابن عابدين الحنفي رحمه الله :
" اختُلف في الحضانة ، هل هي حق الحاضنة ، أو حق الولد ؟ فقيل بالأول ، فلا تجبر إذا امتنعت ، ورجحه غير واحد ، وعليه الفتوى " انتهى باختصار من " رد المحتار " (3/559) .
ويقول النفراوي المالكي رحمه الله :
" حكم الحضانة هو الوجوب العيني إن لم يوجد إلا الحاضن ولو أجنبيا من المحضون ، والكفائي عند تعدده " انتهى من " الفواكه الدواني " (2/65) .
ويقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" الأم لا تجبر – يعني على الحضانة -، ومحله إذا لم تلزمها نفقته ، وإلا أجبرت " انتهى من "تحفة المحتاج" (8/359) .
ويقول البهوتي رحمه الله :
" لو امتنعت الأم من حضانته لم تجبر عليها ؛ لأنها غير واجبة عليها " انتهى من " كشاف القناع " (5/496) .
وقد استدل الفقهاء على ذلك بقوله تعالى : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ) الطلاق/6.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله :
" ( تعاسرتم ) أي : في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم رضاعها ، وأبت الأم أن ترضعه ، فليس له إكراهها ، وليستأجر مرضعة غير أمه " انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (18/169) .
ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" أي : وإن اختلف الرجل والمرأة ، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرا ولم يجبها الرجل إلى ذلك ، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه ، فليسترضع له غيرها ، فلو رضيت الأم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها " انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (8/153) .
فليس من الواجب عليك كفالة تلك اليتيمة وحضانتها في بيتك ، كما لا يجوز لزوجك أن يكرهك على ذلك ، فالإحسان لا يتحقق إلا بمحض القصد والإرادة الخالصة لوجه الله ، وإلا كان عمل الخير وبالا على صاحبه .
ولا ينبغي قلب المندوبات إلى واجبات بدعوى الخوف من العقوبة ، فالله عز وجل لا يعاقب إلا على المعاصي ، ويعفو عن كثير ، كما قال سبحانه : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى/30. ولا يبتلي لأجل ترك عمل مندوب ، وإنما لحكمة يعلمها سبحانه .
ومع ذلك نقول لكم إنكم أحسنتم حين نويتم عازمين على كفالة اليتيم ، فأكرمكم الله عز وجل بالولد الصالح بإذنه سبحانه ، فكان من شكر النعمة أن تتموا ما عزمتم عليه ، وتتكفلوا تلك اليتيمة أو فاقدة الوالدين شكرا لله عز وجل على منته عليكم ، فقد قال سبحانه وتعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) النحل/114، ولكن ذلك لا يعني وجوب كفالة تلك اليتيمة في حقكم ، وترتب العقوبة عليكم إن لم تفعلوا ذلك ، بل ولا يعني ذلك أن تخفوا أمر ابنكم الحقيقي ، لأجل ألا تمنعوا من كفالة اليتيم ؛ فإن كان ذلك شرطا للقائم على أمر الأيتام ، فليس لكم أن تخفوا حقيقة الأمر عنهم ؛ والأحكام الشرعية لا تختلط بهذه الطريقة ، بل يبقى المستحب مستحبا حتى ينتقل إلى الوجوب بدليل شرعي كالنذر مثلا .
ولهذا نوصيك بالحرص على رعاية تلك اليتيمة ما أمكن ، واحتساب ذلك لوجه الله ، واستحضار النية الصالحة كي تنالي أجر كفالة اليتيم ، فإن لم تتمكني فلا حرج في الاعتذار لزوجك ، وتذكيره بما سبق تقريره في هذه الفتوى ، وتذكيره بعدم جواز مخالفة تعليمات المؤسسة القائمة على هؤلاء الأطفال ، فلا يجوز كتمان ولادتك عنهم ، فطاعة الله عز وجل لا تتم بمخالفة التعليمات والشروط التي وضعت لمصالح الأطفال ، وقد التزمتم مع المؤسسة بالصدق وحفظ الأمانة ، فلا تخلفوا ما تعاقدتم عليه ، وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) النساء/58.
أما عن حقيقة كفالة اليتيم التي يتحقق بها الأجر الوارد في الحديث فقد سبق بيانها تفصيلا في موقعنا في الفتوى رقم : (47190).
والله أعلم .