تخطى إلى المحتوى

معيقاتُ التفكير : 2024.


حددها فرنسيس بيكون في كتابه " الأورجانون الجديد " Novum Organum الذي ألّفه بهدف الرد على " أورجانون " أرسطو .
يبين بيكون مجموعة من العوامل التي تشد تفكير المرء للوراء ، ما يعيق التفكير أن يكون سليماً … وقد أسماها أوهاماً ، أو أصناماً . وهي :
1- أوهام الجنس ، وهي تلك الأخطاء التي يقع فيها الإنسان مسوقاً بطبيعته البشرية . ولعل من أقربها ميلَ المرء إلى التسرع في إصدار الأحكام دون أن تقوم على مقدمات سليمة تؤدي إليها . كما أن لدى المرء نزعةً " تسليمية " للأفكار ، خاصة تلك التي تلقى قبولاً نفسياً له ، أو تُرضي نزوةً له ، أو تسد في حياته حاجةً ، أو تحقق له مصلحةً ما .
وفي الغالب يتخير الإنسان شواهدَ تؤيد فكرَه ، لأنه يميل إليها ، هذا بصرف النظر عن شواهد غيرها تقف على النقيض مما ذهب إليه وتتنافى معه .
من ذلك ، على سبيل المثال لا الحصر ، رجل كان لا يقيم وزناً لما يقال عن " النذر " وأثره في قضاء حوائج / مطالب الناس ، فأخذه البعض إلى مكان ليرى لوحاتٍ لأشخاص كتبوا عليها اعترافاتهم بنجاتهم من الغرق استجابةً لما نذروا من نذور . فقال الرجل : ولكن أين ، يا ترى ، أجد لوحات للذين نذروا نذوراً التماساً للنجاة من الغرق ، ومع ذلك غرقوا !!! ؟ .

وأيضاً ، فإن طبيباً لاحظ ، أواخر القرن التاسع عشر ، أن الجذام منتشر في إحدى القرى الساحلية في النرويج ، والتي يكاد أهلها أن يعيشوا على أكل الأسماك ، فتسرع الرجل وأكد أن سبب فشو الجذام في هذه القرية أكلُ السمك ، ونسى الطبيب أن مرض الجذام كثيراً ما يكون منشراً في أماكن لا يأكل ساكنوها السمك إلا قليلاً .
هذا النقص القائم في " العقلية " البشرية ، كثيراً ما ينتهي بصاحبه إلى الاعتقاد في الخرافات والأساطير والأوهام .
2- أوهام الكهف ، إذا اعتبرنا أوهام الجنس نقيصة في طبيعة الجنس البشري ككل ، فإن أوهام الكهف هي الأخطاء المنهجية التي تخص كل " بشريٍّ " على حدة . وقد يكون بالإمكان إرجاع هذه الأخطاء إلى عوامل عديدة ، منها ما له تعلق بالثقافة ، ومنها ما له تعلق بالمهنة الممارَسة ، ومنها ما له تعلق بالتربية التي يتلقاها الفرد عبر أسرته تحديداً ، وهذه العوامل ليس بالضرورة أن تكون موجودة – بنفس القدر والنوع – في كل إنسان .
وبما أن لكل امرء عواملَ تكوين ، فكرية تحديداً ، خاصة به ، فله أن يكوّن وجهة نظر خاصة به وحده . إلا أن هذا قد يؤدي به إلى الوقوع في النرجسية عبر ميوله الشخصية ، تلك التي قد تنتهي به إلى أخطاء من الصعب تداركها . ما يؤهله لأن يبتعد ، بدرجة ما ، عن الحقائق المجردة طالما بقيت متنافية مع ميوله وأهوائه و … نزواته ، فيعود يفهم الأمور ، أو بعضها ، على غير حقيقتها طالما أن هذه " الحقيقة " ليست متسقةً مع رغباته .
3- أوهام السوق ، وهي تعبّر عن الأخطاء التي تأتي نتيجة غموض اللغة التي هي أداة التفاهم بين الناس ، وهي ، كذلك ، وسيلة نقل الأفكار بينهم .
انتهى علماء الاجتماع إلى القول بأن اللغة / الألفاظ إنما تنشأ في مجتمع ما نتيجة لحاجاته العملية وتصوراته العلمية ، إلا أن هذه الألفاظ سرعان ما تعود لتتحكم في تصورات أفراد المجتمع للحقائق .
وفي تاريخ الفلسفة نجد أن السوفسطائيين أكثر من استفاد من " احتمالية " الألفاظ هذه فاستغلوا اشتراكها في المعاني ، وحاولوا هدم الكثير من حقائق العلم ومبادئ الأخلاق ، بل ذهبوا لأبعد من هذا ، إذ استخدموا هذا كله في تأييد موضوع ومعارضته معاً .
لهذا التضارب ليس بوسع المفكر ، سبيلاً للخلاص ، سوى تحديد معاني الألفاظ وبيان مدلولاتها بشكل دقيق ، ولعل هذا أن يكون سبباً للقول " الحكم على الشئ فرع على تصوره " .
4- أوهام المسرح ، وهي تلك الأخطاء التي يقع فيها المرء بسبب تسليمه بآراء المشهورين من المفكرين وما إلى ذلك ؛ فالآراء التي يتلقاها المرء عن أسلافه السابقين تكون كـ " المسرحيات " التي يخلق مؤلفها موضوعاتِها من عنده بلا ضرورة أن تكون من الواقع في شئ . ولعل الخطورة أن تكون في أن الواحد منا إذا اعتقد صحة رأي أخذه عن غيره ، يصبح من الصعب ، بل من المستحيل ، التخلي عنه حتى لو ثبت بطلانه . وقد يكون صواباً ما قاله آينشتين بأنه من السهل شطر الذرة قياساً بصعوبة إدخال فكرة إلى عقل إنسان .
وبالذي فعله بيكون في " أوهام المسرح " يكون ممثلاً جيداً لما كانت عليه أوروبا مطلع عصورها الحديثة ؛ إذ تمرّد رواد عصر النهضة الأوروبية ، وما بعدها ، على السلطات الدينية وسلطة المشاهير من المفكرين ، وكان يمثلهم ، وقتها ، أرسطو طاليس . وأعلن بيكون ضرورة التحرر من سلطة السابقين من المفكرين . ولعل قول الإمام عليّ ، كرّم الله وجهه " لا تعرف الحق بالرجال ، بل اعرف الرجال بالحق " أن يكون متماهياً مع هذه القاعدة ، كما أن ديكارت رفض ، في أولى قواعد منهجه ، كل فكرة لا تبدو أمام عقل الباحث / المفكر واضحةً جليةً متميزة … فهل ترانا قادرين أن نفعل هذا مع من هم أقل شهرةً وتأثيراً ممن ثار عليهم واضعو المناهج الفكرية ؟ لو فعلنا سنكون على أول الطريق نحو تأسيس عقلية محمودة .
هذه – إذن – معيقات التفكير أن يكون سليماً ، وعلى من يريد أن يكون تفكيره سليماً أن يحرر عقله من سيطرتها ، أو أحدها .

موضوع ممتع ولذيذ
هنا نعرف ان الانسان مكلف غير مخير في استعمال عقله
كذلك نعمة العقل فضيلة
بها يعرف المعيقات وسبل النجاح والصواب
شكرا استاذ د.أدم
إستمتعت بموضوعك (:

القعدة اقتباس القعدة
القعدة
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة System-Dz القعدة
القعدة
القعدة


شكرا استاذ د.أدم

القعدة القعدة

بل الشكر لسيادتكم أولى ، لمروركم الكريم ، ولتعليقكم القيّم .
ما ضاع قوم إلا بإهمالهم العقل ، ذلك الذي لولا أن الله تعالى أراد تشريف العالِم بتربيته ، وتسييد العقل ، ورفع قدره ، وأن يجعله حكيماً ، وبالعواقب عليماً ، لما سخّر له كل شيء ، ولم يسخرْه لشيء ، ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريبٌ حكيمٌ ، وعالِم حليمٌ . حتى صح القول إن للأمور حَكَمين : حَكَماً ظاهراً للحواس ، وحكماً باطناً للعقول ، والعقل هو الحجة ، فيجب على العارف قدره كإنسان سيد في الكون ألا يذهب إلى ما تريه العين ، بل يذهب إلى ما يريه العقل .
شاكراً مروركم ومقدراً تعليقكم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.