(1) :
هو من الفعل ( لفتَ ) ، وهو بمعنى " اللّيّ ، وصرفِ الشيء عن جهته " … : " لفت وجهَه عن القوم : صرفه . وتلفّتَ إلى الشيء ، والتفتَ إليه : صرف وجهه إليه . واللفت : ليّ الشيء عن جهته " .
الالتفات عند البلاغيين :
هو الانتقال بالأسلوب من صيغة التكلم ، أو الخطاب ، أو الغيبة ، إلى صيغةٍ أخرى من هذه الصيغ ، بشرط أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى الملتفت عنه ، بمعنى أن يعود الضمير الثاني على نفس الشيء الذي عاد إليه الضمير الأول … فمثلاً قولنا : أكرِمْ محمداً وأرفقْ به . ليس من الالتفات ؛ لأن الضمير الأول في ( أكرم ) للمخاطب أي : أنت ، بينما الضمير الثاني للغائب ، ففيه انتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب ، ولهذا ذلك لا يسمى التفاتاً ؛ لأن الضميرين ليسا لشخص واحد ؛ فالأول للمخاطب والثاني لمحمد .
أقسامه :
ينقسم الالتفات إلى أقسام هي :
1- الالتفات من التكلم إلى الخطاب … مثل قوله تعالى : " وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " ( سورة يس ، الآية 22 ) . والأصل : وإليه أرجعُ ، فالتفت من التكلم إلى الخطاب .
2- الالتفات من التكلم إلى الغيبة … مثل قوله تعالى : " إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ " ( سورة الكوثر ، الايتان 1 ، 2 ) . حيث لم يقل : فصلّ لنا .
3- الالتفات من الخطاب إلى التكلم … مثل قوله تعالى : " قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ " ( سورة يونس الآية 21 ) . على أنه سبحانه أنزل نفسه منزلةَ المخاطب ، فالضمير في ( قل ) للمخاطب ، وفي ( رسلنا ) للمتكلم .
4- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة … مثل قوله تعالى : " ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ، يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَاب " ( الزخرف الآيتان 70 ، 71 ) . فانتقل من الخطاب إلى الغيبة ، ولم يقل : يطاف عليكم .
5- الالتفات من الغيبة إلى التكلم … مثل قوله تعالى : " وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً " ( سورة فصلت الآية 12 ) . فانتقل من الغيبة إلى التكلم ، ولم يقل : وزين .
6- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب … مثل قوله تعالى : " وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء " ( سورة الإنسان الآيتان 21 ، 22 ) . ولم يقل : كان لهم .
يُتْبع …
أغراضه :
الكثير من علماء البلاغة يرى أن للالتفات غرضاً رئيساً ، وهو : " رفع السآمة من الاستمرار على ضمير متكلم ، أو ضمير مخاطب ، فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة ، ومن المتكلم إلى الخطاب أو الغيبة ، فيحسن الانتقال من بعضها إلى بعض ؛ لأن الكلام المتوالي على ضمير واحد لا يستطاب ".
ذلك لأن النفوس تستريح ، ويتجدد نشاطها ، إذا انتقل السياقُ من حال إلى حال وتغيرَ لونُ الكلام . لكن من الخطأ حصر الالتفات في هذا الغرض وحده ، لأن المتتبع للالتفات ، وخصوصاً في آي القرآن الكريم ، يجد له أغراضاً أخرى كثيرة ومتعددة ، ما يجعل الالتفات موضوعاً مهماً .
وممن تنبه لهذا الأمر ، واستنبط أغراضاً أخرى للالتفات ، رجلُ اللغةِ ، والبلاغةِ ، ابن جني في كتابه المحتسب ، حيث يقول فيه ، تعليقلاً على قراءة الحسن لقول الله تعالى : " وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه " ( سورة البقرة الآية 281 ) ، بياء مضمومة : ( يُرجعون) … فيقول : " إنه ترك الخطابَ إلى الغيبة ، كقوله تعالى : " حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ " ( سورة يونس ، الآية 22 ) ، وكأنه – والله أعلم – إنما عدَلَ فيه عن الخطاب إلى الغيبة ، فقال : " يُرْجَعُونَ " بالياء ؛ رفقاً من الله ، سبحانه ، بصالحي عباده المطيعين لأمره " .
فصار كأنه قال : " اتقوا أنتم يا مطيعون يوماً يُعذَّب فيه العاصون " ، فالسر البلاغي ، هنا … وفي هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، ترفُّقُ اللهِ بالمؤمنين بدلاً من صريح مخاطبتهم في مجال الوعيد والإنذار " .
ويقال عن الالتفات عند تفسير قول الله تعالى : " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " ( سورة الفاتحة ، الآية 5 ) : " والعرب يستكثرون منه ، ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخلَ في القبول عند السامع ، وأحسنَ تطريةً لنشاطه ، وأملأَ لاستلذاذ إصغائه . وقد تختص مواقعه بفوائد ، ولطائف ، قلّما تتضح إلا للحذّاق المَهرة ، والعلماء النحارير … وقليلٌ ما هم " .
وهناك أغراض أخرى للالتفات تبين " بلاغة " القرآن الكريم فرعاً على اتساع معانيه … ولعل من أهمها : الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، وهذا موجود في غير موضع من القرآن الكريم كوسيلة بلاغية لأغراض … منها :
1- التهديد / التخويف … مثل قول الله تعالى… : " وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " ( سورة التوبة الآية 3 ) . وموضع الالتفات هنا هو في قوله تعالى : " فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ " ، ولو لم يُلتفت لجاء القول : " فإن يتوبوا " . والغرض من هذا الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو : التهديد / التخويف .
ونذكر أن هناك بلاغيين رأوا معنى الالتفات هنا الترغيب في التوبة . ولعل الالتفات في قوله : " فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ " أليق ، بمعنى الترغيب في التوبة . والالتفات الثاني في قوله : " وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ " أكثر لياقةً لمعنى التهديد . ومن ذلك قول الله تعالى : " لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ " ( سورة النحل ، الآية 55 ) . والالتفات في قوله تعالى : " فتمتعوا " من الغيبة إلى الخطاب . ولم يقل : " فيتمتعوا " ، وذلك أدخَلُ إلى التهديد / الوعيد .
2- التوبيخ / التقريع :
نلاحظ ورود هذا النوع من الالتفات ( = من الغيبة إلى الخطاب ) ليؤدي غرضاً من أغراض التوبيخ ، أو التقريع ، لمستحقي ذلك … أو لبعضٍ منهم … مثل :
– قول الله تعالى : " وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُون " ( سورة النحل ، الآية 56 ) . فالتفت في قوله تعالى : " لَتُسْأَلُنَّ " من الغيبة إلى الخطاب ، وذلك لكي يواجههم بالتوبيخ / التقريع .
– وقول الله تعالى : " وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون " ( سورة الأعراف ، الآية 169 ) ومحل الالتفات هو في قوله تعالى: " أَفَلاَ تَعْقِلُون " ، فانتقل من الغيبة إلى الخطاب ليكون أوقع في توجيه التوبيخ إليهم .
ومن الشواهد على ذلك قول الله تعالى : " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً " ( سورة مريم ، الآيتان 88 ، 89 " فعدَل عن الغيبة في " قالوا " إلى الخطاب في " جئتم " ، لأن من يزعم اتخاذ الرحمن ولداً لا شك أنه مفتون في دينه ، ويُستنكَر منه هذا القولُ ، وينبغي أن يوبخ عليه ، وتوبيخ الحاضر أشد نكاية ، ودائماً ، من توبيخ الغائب ، وهذا سر الالتفات في هذه الآية الكريمة .
3- التشديد على طلب الشيء :
من معاني الالتفات من الغيبة إلى الخطاب التشديدُ في طلب أمر من الأمور … مثال : قول الله تعالى : " لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً " ( سورة الأحزاب ، الآية 55 ) . ومحل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب هو في قوله تعالى : " وَاتَّقِينَ اللَّهَ " ، ولم يقل : " ويتقين الله " ، وكأنه قيل : واتقين الله َفيما أُمرتن به من الاحتجاب وما أُنزل فيه الوحى من الاستتار واحتطن فيه . وفي السياق فضلُ تشديد في طلب التقوى منهن .
يُتْبع …
4- التخفيف من شدة الأمر :
حيث في الانتقال من الغيبة إلى الخطاب تخفيفٌ من " شدة الأمر " … مثل قول الله تعالى : " أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ " ( سورة البقرة ، الآية 184 ) . وموضع الالتفات ، هنا ، من الغيبة إلى الخطاب في قول الله تعالى : " وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ " ولم يقل : " وأن يصوموا خير لهم " ، وفيه تخفيف من كلفة الصوم بلذة المخاطبة … : " وأن تصوموا أي : أيها المطيقون المقيمون الأصحاء ، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز ، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين والمرضى والمسافرين . وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبراً لكلفة الصوم بلذة المخاطبة " .
5- العتاب :
من المعاني التي يحملها الالتفات من الغيبة إلى الخطاب العتابُ … مثل قول الله تعالى : " وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ، إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ " ( سورة التحريم ، الآيتان 3 ، 4 ) فانتقل السياق من الغيبة في الآية الأولى إلى الخطاب في بداية الآية الثانية ، فقال : " إن تتوبا " وفي هذا الالتفات بالخطاب معنى العتاب . وأيضاً : " عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى " ( سورة عبس ، الآياتن1 : 3 ) وفي الانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله : " وَمَا يُدْرِيكَ " معنى العتاب .
6- التسجيل ، والمبالغة ، في إقامة الحجة :
ومن الأمثلة على هذا المعنى قول الله تعالى : " فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُون ، أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ، وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ " ( سورة الأعراف ، الآيات 190 : 193 ) ونلاحظ أن السياق انتقل من الغيبة إلى الخطاب في قول الله تعالى : " وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى " لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة " .
يُتبع …
7- التخويف والتذكير :
ومن الأمثلة على ذلك قول الله تعالى : " ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ " ( سورة المؤمنون ، الآيتان 14 ، 15 ) فانتقال السياق من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى : " ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ " لأن التخويف والتذكير بالموت إنما يناسبه الخطاب " .
8- التشريف :
ويأتي الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشريف والرفع من شأن المخاطَب .. مثل قول الله تعالى : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " ( سورة النور ، الآية 62 ) فتوجه السياق من الغيبة إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ " تشريفاً له بهذا الخطاب . وأيضاً ، قول الله تعالى : " إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " ( سورة التوبة ، الآية 111 ) فنلاحظ تحول السياق من الغيبة إلى خطاب المؤمنين في قوله تعالى : " فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ " لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم . ومن تشريف الله لعباده المؤمنين قوله عز وجل : " وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَاب ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ " ( سورة ص ، الآيتان 52 ، 53 ) والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى : " هَذَا مَا تُوعَدُونَ " لتشريف المتقين بهذا الخطاب .
9- الامتنان :
ومن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب لغرض الامتنان قول الله تعالى : " ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ " ( سورة السجدة ، الآية 9 ) والالتفات إلى الخطاب في قوله تعالى : " وَجَعَلَ لَكُمُ " والغرض هو الامتنان .
وأيضاً ، فمن الشواهد على ذلك قوله تعالى : " وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ " ( سورة النور ، الآيتان 9 ، 10 ) … وقد جاءت الآية بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل العناية بمقام الامتنان ، والفضل ، من الله تعالى عليهم بهكذا تشريع .
يُتْبع …
10- الاختصاص والاستحقاق :
وقد يأتي الانتقال من الغيبة على الخطاب كدلالة على الاختصاص والاستحقاق … مثل قول الله تعالى : " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " ( سورة الفاتحة ، الايتان 4 ، 5 ) . ونلاحظ تقديم الضمير ( إياك ) مع هذا الانتقال إلى الخطاب يدل على المبالغة في الاستحقاق والاختصاص .
11- المبالغة في الحث / الحض :
مثل قول الله تعالى : " وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين " ( سورة الأعراف ، الآية 145 ) والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى : " سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين " . والغرض هو المبالغة في الحث على أخذ المأمور بأخذه تأكيداً على صحة الإيمان .
12- التأكيد على الشيء :
مثل قول الله تعالى : " ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا " ( سورة مريم ، الايتان 70، 71 ) والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله تعالى : " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا " بغرض التأكيد .
13- التعجب والاستبعاد :
مثل قول الله تعالى : " إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ " ( القلم ، الآيات 34 : 36 ) والالتفات في قوله تعالى : " مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ " بغرض التعجب والاستبعاد .
انتهى .