الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
جل جلاله
المعنى اللغوي:
أصل اسم الله المهيمن المؤأمن، لينت الثانية وقلبت ياء، وقلبت الأولى هاء، وهذا هو التصريف الثالث لها ([1])، أما التصريف الأول فهو الأمين، ومعلوم أن الأمين من الأمانة، التي هي ضد الخيانة، التي يطمئن صاحبها، وينفى عنه الخوف، ويؤمن غيره، وقيل المهيمن مؤيمن، والهاء بدلاً من الهمزة، لأنه جرت عادة العرب في لغتهم، أن يقلبوا الهمزة إذا عقبت الهمزة هاء، مثال ذلك هرقت الماء وأرقت الماء، وكما قالوا إياك وهياك وهكذا، قال الأزهري: وهذا على قياس العربية صحيح مع ما جاء في التفسير أنه بمعنى الأمين، ولذلك أصلها: ما أمن ثم انتقلت إلى مؤيمن ثم انتقلت إلى مهيمن، فالهيمنة لغة بمعنى أأمنة، وقيل: إن «المهيمن» الرقيب الحافظ، فإذا قرأت في التعريف اللغوي أن المهيمن، «الرقيب الحافظ» فهو ليس في أصل إطلاق اللغة له، وإنما هو بالمعاني المصطلحية له، أما الإطلاق اللغوي لاسم المهيمن، مأخوذ من الأمين، وقال الكسائي: المهيمن الشهيد، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المهيمن المؤتمن، وقال غيره: هو الرقيب، يقال: هيمن يهيمن هيمنة إذا كان رقيبًا على الشيء ([2])، قال أبو عبيدة: لم يجئ في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة ألفاظ: مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر ([3]).
ورود الاسم في القرآن:
ورد الاسم مرة واحدة في قوله تعالى: }الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ{([4])، وذكر معناه في قوله تعالى: }وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ{([5]).
والمعنى هنا: أي أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدقًا للكتب قبله وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله أمينًا عليها حافظًا لها، وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده قد هيمن فلان عليه فهو يهيمن هيمنة وهو عليه مهيمن ([6])، وهو يقترب من معنى الرقيب.
معنى الاسم في حق الله تعالى:
مداره على ثلاث معاني:
1- الرقيب 2- الشهيد 3- الحفيظ
* ما معنى الرقيب الشهيد الحفيظ؟
وأحسن من فسر اسم الله عز وجل «المهيمن» الغزالي وفيه يقول: "معناه في حق الله عز وجل. أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم. وإنما قيامه عليهم، باطلاعه واستيلائه وحفظه. وكل مشرف على كنه الأمر مسؤول عليه، حافظ له، فهو مهيمن عليه. والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء إلى كمال القدرة، والحفظ إلى الفعل. فالجامع بين هذه المعاني اسمه «المهيمن»([7]). ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا لله عز وجل.
وقيل: «المهيمن الشهيد»([8])، وأصل الهيمنة: «الحفظ والارتقاب»([9]).
وقال ابن كثير رحمه الله: قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم. بمعنى هو رقيب عليهم. كقوله: }وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{ وقوله: }ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ{([10]).
وقال الحليمي: "المهيمن معناه: لا ينقص للمطيعين يوم الحساب من طاعاتهم شيئًا فلا يثيبهم عليه، لأن الثواب لا يعجزه، ولا هو مستكره عليه فيحتاج إلى كتمان بعض الأعمال أو جحدها، وليس ببخيل فيحمله استكثار الثواب إذا كثرت الأعمال على كتمان بعضها، ولا يلحقه نقص بما يثيب فيحبس بعضه، لأنه ليس منتفعًا بملكه، حتى إذا نفع غيره به زال انتفاعه بنفسه" ([11]).
قال الحسن البصري رحمه الله: المهيمن المصدق وهو في حق الله تعالى يعني: أن يكون هذا التصديق بالكلام فيصدق أنبياؤه بإخباره تعالى عن كونهم صادقين أو يكون معنى تصديقه لهم أنه ينزل المعجزات على أيديهم ([12]).
وقال الغزالي: اسم لمن كان موصوفًا بمجموع صفات ثلاث:
أولاً: العلم بأحوال الشيء.
الثاني: القدرة التامة على تحصيل مصالح ذلك الشيء.
الثالث: المواظبة على تحصيل تلك المصالح، فالجامع لهذه الصفات اسم الله المهيمن. وأنى أن تجتمع على الكمال إلا لله تعالى([13]).
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "المهيمن المطلع على خفايا الأمور. فكونه عالمًا يعلم سرك وعلانيتك يعلم الصالح لك من الفاسد }وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ{([14]). فهو المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور، }يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ{([15])، الذي أحاط بكل شيء علمًا"([16]).
وقال الشيخ السعدي أيضًا رحمه الله: "الشهيد المهيمن المحيط: أي المطلع على جميع الأشياء، الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والخفيات والجليات، والماضيات والمستقبلات، وسمع جميع الأصوات، خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليلها، وصغيرها وكبيرها، وأحاط علمه وقدرته وسلطانه وأوليته وآخريته، وظاهريته وباطنيته بجميع الموجودات، فلا يحجبه عن خلقه ظاهر عن باطن، ولا كبير عن صغير، ولا قريب عن بعيد، ولا يخفى على علمه شيء، ولا يشذ عن ملكه وسلطانه شيء، ولا ينفلت عن قدرته وعزته شيء، ولا يتعاصى عليه شيء، ولا يتعاظمه شيء"([17]).
وجميع أعمال العباد قد أحصاها، وقد علم مقدارها ومقدار جزائها في الخير والشر، وسيجازيهم بما تقتضيه حكمته وحمده وعدله ورحمته. والملوك والجبابرة وإن عظمت سطوتهم، وعظم ملكهم، واشتد جبروتهم، وتفاقم طغيانهم، فإن الله لهم بالمرصاد. قد أحاط بأحوالهم، وأحصى وراقب كل حركاتهم وسكناتهم، ونواصيهم بيده، وليس لهم خروج عن تصرفه وإرادته ومشيئته.
والأشرم المغلوب ليس الغالب([18])
فهذه الأسماء الثلاثة، ترجع إلى سعة علمه، وإحاطته بكل شيء، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى شهادته لعباده وعلى عباده بأعمالهم، وإلى الجزاء وانفراد الرب بتصريف العباد. وإجرائهم على أحكام القدر. وأحكام الشرع، وأحكام الجزاء. والله أعلم.
آثار الإيمان بهذا الاسم ولوازمه:
1- إن الله سبحانه، هو الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول أو فعل، فلا يغيب عنه من أفعالهم شيء، وله الكمال في هذا، فلا يضل ولا ينسى ولا يغفل ([19])، قال الله تعالى: }وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{([20])، وإذا علمنا هذا عن الله سبحانه وتعالى، فلا بد أن تولد هذه المعرفة مراقبة الله في الظاهر والباطن، والعلماء مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر؛ سبب لحفظها في حركات الظواهر. فمن راقب الله في سره؛ حفظ الله حركاته في سره وعلانيته، فلا بد قبل إصلاح الظواهر إصلاح القلوب. قال الله تعالى: }يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ{([21])، وقال صلى الله عليه وسلم: «… ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»([22]).
يقول ابن القيم رحمه الله:
"القلوب على قلبين: قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان، فهناك الضيق والظلمة، والموت والحزن والغم والهم فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل، مغموم في الحال"([23]).
قلب ممتلئ بحب الله والإقبال عليه، والانطراح بين يديه، وقلب متكبر عن أمر الله، ناكص على عقبيه.
وتأمل شؤم المعصية لتفر منها، وأنت عالم بأن الله مهيمن عليك مطلع على أحوالك، والمعصية باب خطير يفتحه العبد، وهذه بعض آثارها:
من شؤم الذنوب والمعاصي وآثارها:
1- حرمان العلم. قال تعالى: }وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ{([24]). فمن لم يتق الله لا يعلمه الله، وقد جلس الشافعي رحمه الله بين يدي الإمام مالك رحمه الله وقرأ عليه، فأعجبته قراءته فقال الإمام مالك رحمه الله: إني أرى الله ألقى في قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية.
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور
ونور الله لا يؤتاه عاصي
وكثير من الناس كانوا أهل طاعة وعبادة وعلم، ثم تراهم بغتة وقد سحبتهم الذنوب وجرفتهم المعاصي إلى واد سحيق فجهلوا بعد علم، وضلوا بعد هدى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- حرمان الرزق، فما دام العبد يؤمن بأن الله هو المهيمن، العالم بجميع أحواله، الشهيد على كل أفعاله، المطلع على خفاياه، وعلم أن رزقه بيد ربه تعالى، فليحذر من معصيته ومخالفة شرعه، فإن أعظم الرزق الطاعة، ومن حرم الطاعة حرم الخير كله، وإن أعظم الحرمان هو حرمان لذة العبادة، وأعظم مصيبة يصاب بها العبد مصيبة الأديان.
عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية»([25])، وفي الحديث عن ثوبان t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن العبد ليحرم الرزق بالخطيئة يعلمها»([26]).
3- وحشة يجدها العاصي بينه وبين الله، لا توازنها لذة أصلاً. ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها. قال تعالى: }وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ{([27]).
فتجد أثقل الأوقات عند العاصي، وقت الصلاة، وأثقل الأيام أيام قضاء الصيام، وأثقل وقت عليه، وقت سماع الذكر؛ لأن المعاصي اجتمعت على قلبه حتى قيدته.
4- وحشة تحصل بينه وبين الناس، لا سيما أهل الخير منهم، لا يطمئن لهم، لكنه لأهل الشر والفساد يأنس، والله سبحانه وتعالى حذر من مجالس أهل الفساد.
قال تعالى: }وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{([28]).
وقال جل وعلا: }وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا{([29])، قال تعالى: }فَلَا تَقْعُدُوا{ فمجرد القعود يجعلك منهم، قال ابن كثير رحمه الله: "أي إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم بالجلوس معهم، في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله، ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه. فلهذا قال الله تعالى: }إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ{ في المآثم، كما جاء في الحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر»([30])([31]).
5- المعصية تضعف إرادة الخير. فليست المعصية آخر الخطوات، بل هي أولى الخطوات.
وإذا تأملت قصة يوسف u، لما قرر إخوته أن يلقوه في غيابة الجب، أتى إليهم الشيطان، مزينًا لهم الفعل، وقال لهم: }وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ{([32])، قال لهم: ستكونون أصلح الناس!! فكانت تلك المعصية ومن بعدها سلسلة معاصي متوالية، وقع فيها إخوة يوسف عليه السلام؛ قال الله عنهم: }وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ{([33])، فها هم كذبوا ثم أعقبوا هذه الكذبة كذبة أخرى، قال تعالى: }قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ{([34]).
وهذا أنا وأنت، إن تمكن الشيطان منك من باب؛ فإنه سيوردك إلى أبواب أخرى، وقد قال الله تعالى: }وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ{([35])، ولم يقل «ولا تتبعوا الشيطان» وأراد: لا تتبع الشيطان في خطوه، فإن ذلك سيجرك إلى خطوات أشد خطرًا.
([1])لسان العرب (13/23).
([2])لسان العرب (13/436).
([3])فتح الباري لابن حجر (8/269).
([4])سورة الحشر: 23.
([5])سورة المائدة: 48.
([6])تفسير الطبري (6/266).
([7])المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/72).
([8])تفسير الطبري (28/55).
([9])تفسير الطبري (6/266).
([10])تفسير ابن كثير (4-344).
([11])الأسماء والصفات للبيهقي (1/166).
([12])النهج الأسمى (1/132).
([13]) المقصد الأسنى (1/72) بتصرف.
([14])سورة البقرة: 220.
([15])سورة الطارق، الآية: (9).
([16])تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي (5/301).
([17])تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي.
([18])قائل البيت: نفيل بن حبيب الخثعمي، تفسير ابن كثير (4/551).
([19])النهج الأسمى (1/132).
([20])سورة البقرة: الآيات 149، 140، 85، 74، سورة آل عمران: الآية 99.
([21])سورة الشعراء: الآية 88، 89.
([22])متفق عليه، أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
([23])الفوائد (33).
([24])سورة البقرة: 282.
([25])رواه الترمذي في السنن (3558) بهذا اللفظ، والنسائي في الكبرى (10717)، وابن ماجة في سننه (3849)، وصححه الألباني.
([26])رواه ابن ماجة (90) (4022) وقال الشيخ الألباني: حسن دون قوله وإن الرجل، وضعفه في ضعيف الجامع (6349).
([27])سورة الزمر.
([28])سورة الأنعام: 68.
([29])سورة النساء: 140.
([30])رواه النسائي في الكبرى (6741)، والبيهقي في الكبرى (14326)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6506).
([31])تفسير ابن كثير (1/567-568).
([32])سورة يوسف: 9.
([33])سورة يوسف: 16.
([34])سورة يوسف: 77.
([35])البقرة: 208، 168، الأنعام: 142.
7- هوان العاصي على ربه، قال الحسن البصري t «هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم»([2]).
قال الله تعالى: }نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ{([3]). أي: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه([4])، وقال تعالى: }نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ{([5]). أي: فأنساهم الله حظوظ أنفسهم من الخيرات ([6]).
8- المعصية تورث الذل؛ لأن العز كل العز في طاعة الله، قال الله تعالى: }مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا{([7]). فمن طلب العزة بالمعصية أذله الله، وكان من دعاء جعفر بن محمد – وهو أحد السلف – رحمه الله: «اللهم أعزني بطاعتك، ولا تخزني بمعصيتك»([8]).
قال ابن المبارك:
وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها ([9])
9- الطبع على القلوب، قال الله تعالى: }كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{([10]).
وعن حذيفة رضي الله عنهt عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير، عودًا عودًا فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه»([11]).
10- والمعصية تدخل تحت لعنة الله، قال تعالى: }فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ{([12])، أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء, تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام ([13])، وتعاقرون المعاصي، ولذا كثير من الأحاديث جاءت بلعن الله للعاصين، فعن علي t عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غير منار الأرض»([14])، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا لعن شيئًا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها, ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينًا وشمالاً, فإن لم تجد مساغًا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها»([15])، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة»([16])، وعن عون ابن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن المصورين»([17]).
11- حرمان دعوة الملائكة: تكف الملائكة عن الدعاء للعاصي، حتى يترك معصيته.
قال تعالى: }الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{([18]).
يخبر الله تعالى عن الملائكة المقربين – حملة العرش وهم أقرب الملائكة لله – ومن حوله بأنهم }يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ{([19])، أي: يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح، وأنهم }وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا{([20]) أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب، ودعاء الملائكة مجاب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة، كانوا يؤمنون على دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، ففي الحديث الصحيح عن أبي الدرداء t، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل»([21]).
قال ابن كثير رحمه الله: وقولهم }رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا{ أي: رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم. }فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ{ أي: فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا، عن ما كانوا فيه واتبعوا ما أمرتهم به، من فعل الخيرات وترك المنكرات، }وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ{ أي: وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم }رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ{ أي: اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة، كما قال تعالى: }وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ{([22]). أي: ساوينا بين الكل في المنزلة؛ لتقر أعينهم، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني، بل رفعنا ناقص العمل، فساويناه بكثير العمل تفضلاً منا ومنة، وقال سعيد بن جبير رحمه الله: "إن المؤمن إذا دخل الجنة يسأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم؟، فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول إني عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا سعيد بن جبير رحمه الله هذه الآية: }رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{([23]). وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: "أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة، ثم تلا هذه الآية: }رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ{. وأغش عباد الله للمؤمنين الشياطين، }وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ{. أي: فعلها أو وبالها ممن وقعت منه. }وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ{. أي: يوم القيامة. }فَقَدْ رَحِمْتَهُ{ أي: لطفت به ونجيته من العقوبة([24])، ومع عظيم فضل الطائعين، إلا أن عقوبة العاصين شنيعة حين يكف الملائكة عن الدعاء لهم والاستغفار، فتأمل.
12- المعصية تطفئ في القلب تعظيم الرب، وتنسي العبد ربه. قال تعالى: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{([25]).
وعظ الله المؤمنين بألا يتركوا أمره ونهيه، كاليهود ويوحدوه في السر والعلانية ولا يكونوا في المعصية كالمنافقين، فقال: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ{ يعني تركوا أمر الله تعالى. }فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ{. يعني خذلهم الله تعالى، حتى تركوا حظ أنفسهم أن يقدموا خيرًا لها. }أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ يعني العاصين.
ويقول تعالى: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ{ أي: تركوا ذكر الله وما أمرهم به.
}فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ{ يعني فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق.
وقيل: }وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ{. يعني تركوا عهد الله ونبذوا كتابه وراء ظهورهم }فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ{. يعني أنساهم حالهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ولم يقدموا لها خيرًا. }أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{ فاحذر أيها المؤمن وأنت تؤمن بالمهيمن سبحانه أن يراك وأنت تعصيه.
13- المعصية سجن الشيطان([26]).
وبعد هذا.. إذا علمنا أن الله مطلع على أعمالنا، بيده أرزاقنا، يعلم ما تكنه صدورنا، توجب علينا إصلاح البواطن قبل إصلاح الظواهر، وطاعته والانقياد لأمره، والله لا يرد عبدًا أقبل عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»([27])، فراقب المهيمن سبحانه في ظاهرك وباطنك، واحذر أن تعصيه.
14- من الآثار المسلكية: بما أنك تؤمن بأن الله هو القادر على كتابة الآجال، وتقسيم الأرزاق، وأن مصلحتك تابعة لعلمه، فلو أتت خلاف ما تحب، أين إيمانك بالمهيمن؟؟ فهيمنته تابعة لرحمته، قال تعالى: }وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{([28])، واعلم أن الخير في قضائه، والمصلحة فيما كتبه لك، وليطمئن قلبك إلى ما كتبه الله لك، هو المهيمن علم الخير وقدره لك بقدرته سبحانه وتعالى، فارض بما قسمه الله لك، }أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{([29]).
ومن الأمثلة على ذلك:
1- نزول آية التيمم:
* ما سبب نزول آية التيمم؟
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر t فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر t ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة رضي الله عنها: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فما يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله عز وجل آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير t ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته([30]).
ولك أن تتأمل معي هذا النموذج له، وهو في سفره، والسفر مظنة التعب، وتغير الأحوال الإنسانية.
تخبره زوجته وهو القائد المطاع المحبوب لدى أتباعه بضياع عقد لها قد استعارته من أختها أسماء، فيتراءى في خاطره أمران: الأمانة التي طالما حدث أصحابه عنها، لأن القضية الآن أكبر من عقد زهيد، إنها تربية على حفظ الأمانات وردها لأصحابها، وتربية الموقف أبلغ من تربية الأقوال، فهل يفقه المربون هذه اللفتة النبوية ؟ والأمر الآخر الحالة النفسية التي تعيشها زوجته لضياع العقد، وما إسهاماته في التخفيف عنها، فتكون الحكمة المحمدية بحبس الجيش للبحث عن العقد، رسالة منه إلى الرجال أجمع عن عظيم حق النساء عليهم، وأن مسؤولية المرأة يشترك في تحملها الكثير من الرجال، وفي الحديث استحضار آثار الابتلاءات الفردية والجماعية، والاعتبار بها، وما يترتب عليها، إنك تلمح مشاعر الحسرة والقلق تهز كيان الجارية حينما أضاعت عقدًا استعارته من أختها!!.
وتلمح الشعور بالضعف، والضيق والاضطراب الذي طوق الركب ورجال العسكر.. لا تحبسهم من أجل عقد زهيد لا تربو قيمته على اثني عشر درهمًا.. مع معاناة وعثاء السفر، ومشقة الرحلة، وأنهم ليسوا على ماء.. وليس معهم ماء، فعظم الأمر عليهم؛ لما تقرر عندهم من شرطية الوضوء ووجوبه عليهم.
وتمضي الساعات الحرجة ما بين ملتمس للعقد، ومرتقب للماء؛ لتهب نسمات الفرج الرخية مع تباشير الصبح الندية، وتجد عائشة رضي الله عنها عقدها أقرب ما يكون إليها، تحت بعيرها الذي كانت تركبه. وتنزل آيات الرخصة في ذروة الحاجة إليها؛ ليستبشر بها الصحابة، والأمة بأسرها، فتأمل كيف صارت البلية نعمة أبدية، والمحنة منحة ربانية!! وآل أمر القلادة التي سخطها الناس، وتبرموا منها إلى بركة ويسر.
* وفيه بيان حال خيار هذه الأمة، وحال نبيهم في تلك الشدة، فقد استثقل الناس ما حلَّ بهم، حتى شكوا أمرهم إلى أبي بكر t الذي ضاق ذرعًا، وأسى من صنيع ابنته… فأتاها معاتبًا ومؤدبًا قالت: «فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول». ومما قاله لها كما في رواية: «في كل مرة تكونين عناء» هذا شأن الناس، فما شأن نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!
لقد تحمل أمرها بصدر رحب، وحكمة بالغة، إن ما أشغل الركب، لا يكاد يكون شيئًا في التاريخ النبوي الحافل بالمتاعب، وحينما يعتريه الأمر، يقضي فيه بحكمة، وصبر، ثم يستلقي بذهنه المكدود، وجسمه المهدود على فخذ عائشة رضي الله عنها وينام قرير العين حتى يصبح، ليظفر بالخيرين: آية التيمم، والقلادة. وتعجب حين ترى الاحترام المتبادل بين الزوجين، فها هي الفتاة ذات الخمسة عشر خريفًا تقدر الزوج الذي ينام على فخذها، فلا تتحرك مع طعن أبيها لها في خاصرتها كراهية أن تؤذيه، زوج يحتبس لأجل زوجته، وزوجة لا تتحرك تقديرًا لزوجها، ما أعظمها من حياة مبنية على التواد، أما آن الأوان إلى نقل السيرة من بطون الكتب إلى حياة يعيشها الناس.
وعليك أن تستشعر معنى اسم الله المهيمن في هذه القصة، إنه القائم سبحانه على خلقه بأرزاقهم وقد علم أن هذا الرزق لا يحصل إلا بهذا الابتلاء فقدره، فتأمل.
2- وعن عائشة رضي الله عنها أن وليدًا كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم قالت: فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، قالت: فوضعته أو وقع منها فمرت به حُدَيَّاة وهو ملق فحسبته لحما فخطفته قالت: فالتمسوها فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به قالت فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته، قالت: فوقع بينهم، قالت فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو، قالت: فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت قالت عائشة رضي الله عنها: فكان لها خباء في المسجد أو خفش قالت : فكانت تأتيني فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلسًا إلا قالت:
ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين معي مقعدًا إلا قلت هذا!! قالت فحدثتني بهذا الحديث ([31]).
وتأمل ما حدث في بيت من بيوتات العرب نشأت هذه الوليد السوداء أمة أمينة تقوم بحوائج البيت من التنظيف والخدمة، مما حدى بأرباب البيت بعد إعجابهم الشديد بما امتازت به من نبيل الأخلاق، وحسن المعاملة أن يكافئوها بالعتق، والشعور بالحرية التي لا يدرك قيمتها إلا من فقدها، ومع ذلك تختار هذه الأمة المكث عند أسيادها بعد عتقها لأن محبتهم تضرب بأطنابها في القلب ولن تختار عليهم أحدًا من العالمين، وتمضي الليالي والأيام وتشب إحدى فتيات المنزل حتى يكون يوم عرسها فتحتاج لمزيد من العناية والاهتمام في الهيئة والهندام، فتلبس وشاحًا أحمر قد رصع باللآلئ والودع، وتريد العروس أن تدخل إلى المغتسل فتضع وشاحها الأحمر، وتأتي حدياة – نوع من أنواع الطيور – فتلمح هذا الوشاح ملق على الأرض وبياض اللؤلؤ على حمرة الجلد صيرته كاللحم السمين، فرحت الحدياة لظفرها بوجبة شهية دسمة، وخرجت العروس من مغتسلها لتتفاجأ بفقدان وشاحها، جالت الشكوك في خواطر أهل البيت، وأشاروا بأصابع التهم إلى الوليدة السوداء، ولإقامة الحجة والبرهان على سرقة الأمة بدؤوا بعملية التفتيش، وبدأ تجريد ملابسها حتى وصلوا إلى قبلها ففتشوه، مخافة أن تكون قد خبأت الوشاح فيه، والوليد تنظر إليهم وقد علاها من الكرب ما لا يعلمه إلا الله، إذ كيف تتهم في أمانتها وهي تربية أيديهم، وفي وسط رباعهم، ولم يعهدوا عليها إلا كل خير، وفي وسط هذه الكربة وهي واقفة قد اطلعوا على عورتها وسوأتها يلهج لسانها بالدعاء إلى ناصر المظلوم ومجيب المضطر وكاشف الضر أن يظهر الحق، ويكشف الزيغ، فترفع دعوتها إلى السماء ويأتي الفرج من الله سبحانه، وتأتي الحدياة فتقف على رؤوسهم وتلقي الوشاح بينهم، ويظهر للأمة عظيم رحمة الله بعباده، لقد استجابت الأمة وقت كفرها إلى نداء الفطرة بخلوص الدعاء للرب، فلم تلتفت إلى الصنم الذي طالما خدمته ورأت أسيادها يعظمونه، لأنها أدركت وقت الكربة جزمًا أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، والتوحيد مفزع أولياء الله وأعدائه، فأما أولياؤه فينجيهم بالتوحيد من كربات الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه فينجيهم من كربات الدنيا، وبلجوء الأمة إلى الرب كان إرسال الطير الذي لا يفقه إلى نفس المكان الذي أخذ منه الوشاح رسالة من الله للعبيد بعاقبة الظلم، لقد كرهت الأمة ذاك البيت الذي اتهمها بسرقة الشيء الزهيد، وتصحح مفهومًا كان غائبًا لديها وهو أنهم لا يصلحون لنوائب الدهر بل هم إحدى نوائبه، وما زالت تذكر ما كانت تسمعه عن محمد النبي، فرأت هذه الحادثة فرصة إلى أن تتعرف على ما كانت تسمعه وينتقل الخبر إلى المعاينة، قدمت الوليد إلى العظيم صلى الله عليه وسلم الذي كان مفتوح الصدر والدار لكل غريب، يعلمه ويهديه وينقذه من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، فتستجيب الأمة إلى الدعوة المحمدية وتنضم إلى قافلة الإيمان وركب المؤمنين، فتختار البيت الذي لا يمكن أن يظلم ربه لأنه عدل كتب العدل على نفسه، وحرم الظلم بين عباده، ستختار البيت الذي جزمًا سيكون لها عند استحكام الأزمات، وترادف الضوائق، ستختار البيت الذي تشرفت بخدمته، وتنال بركة المبيت فيه، ستختار المسجد النبوي لتكون خادمة له وهذا ما يتناسب مع مهنتها قبل إسلامها، فيضرب لها حفش في المسجد – والحفش البيت الصغير القريب السمك – وتنال بركة جوار مسجد رسول الله وبيت رسوله صلى الله عليه وسلم أيضًا، فتكثر الذهاب والإياب على بيت رسول الله لتسمع حديثه، وتكحل ناظريها برؤيته، وتأنس مع زوجاته، ولا غرو أن يكون بيت النبي صلى الله عليه وسلم ملفى للضعفاء والمحتاجين والمساكين، ويلفت انتباه عائشة رضي الله عنها تكرار هذه الأمة لبيت شعر من الطويل في كل مجلس:
ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
لتسألها عائشة رضي الله عنها عن خبر البيت، فتسرد خيوط قصتها العجيبة التي تحمل في طياتها رسالة إلى كل مهموم وصاحب بلية أن تباشير الصباح ونوره لا يكون إلا بعد ظلمة الليل وسواده، وأن القطر بعد الجدب، والثمر بعد معاناة الزرع: }فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا{ وما أجمل بيت شعرها الذي يدل على أن راحة البال وسعة الصدر لا ترتبط بالمسكن الواسع أو المركب الهنيء وإنما ترتبط بنفس مطمئنة حتى لو سكنت حفشًا، وما أصابها في البدايات كان من حكمة المهيمن سبحانه الذي يعلم المستقبل، وما يصلح لهذه الأمة.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر «كبر ثلاثًا ثم تلا هذه الآية: }سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ{ اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى, اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده, اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل, اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل وإذا رجع قالهن وزاد فيهن آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون»([32])، يصحبك في سفرك ويخلفك في مالك وأهلك وولدك، فهو المهيمن سبحانه وتعالى.
4- وتأمل قول موسى عليه السلام للرب جل وعلا: }قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى{([33])، مهيمن سبحانه جل في علاه.
5- إخوان يوسف عليه السلام عندما أجمعوا أمرهم أن يجعلوه في غيابة الجب وينهوا أمره فأظهره عليهم وجعله على خزائن الأرض ولذلك قال الله تعالى في سورة يوسف: }وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{([34]) أي: إذا أراد شيئًا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب لما سواه، قال سعيد بن جبير: "فعال لما يشاء، قوله: }وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{ أي: لا يعلمون حكمته في خلقه، وتلطفه، وفعله لما يريد" ([35]).
6- وقول الله تعالى للنار والتي ألقي فيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام: }قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ{([36])، قيل: إن إبراهيم u حين ألقي في النار، لم تكن في الأرض دابة إلا تطفئ عنه النار([37])، فمن الذي أمرهم؟!! إنه المهيمن سبحانه وتعالى.
7- قال تعالى: }وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ{([38])، فهذه أم موسى حينما ألقت رضيعها امتثالاً لأمر الله }فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ{ من الذي جعله يعيش في بيت فرعون ثم يكون لهم عدوًا وحزنًا!! إنه المهيمن سبحانه وتعالى الذي لا يستطيع أحد أن يخرج عن قضائه، وفي هذه الآية أمران ونهيان وبشارتان: أما الأمران فهما: (أن أرضعيه)، (فألقيه)، والنهيان هما: (لا تخافي)، (ولا تحزني)، وأما البشارتان فهي قوله تعالى: }إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ{.
8- وقال تعالى: }وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ{([39]).
من الذي أنجاه من بطن الحوت، ومن ظلمة البحر، ومن الغم!! إنه المهيمن جل في علاه.
9- وفي غزوة الأحزاب، لما ضرب الكفار على المسلمين ذلك الحصار العسكري في قوله تعالى: }إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا{([40])، تأمل شدة هذا الحصار العسكري، وقوة أثره في المسلمين، مع أن جميع أهل الأرض في ذلك الوقت مقاطعوهم سياسة واقتصادًا، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن الله مهيمن مستول على الخلق كلهم لن يضروك إلا بما كتب الله لك، فالإيمان الكامل، والتسليم العظيم لله جل وعلا، ثقة به وتوكل عليه، هو سبب حل جميع المشكلات التي تواجهك.
10- ومن الآثار المسلكية لاسم الرب المهيمن، الإيمان بأن كتاب الله مهيمن على غيره من الكتب وجاء ذلك بنص القرآن، وفي هذا إشارة إلى كمال التصديق بما في كتاب الله، قال تعالى: }وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ{([41])، ومعنى قوله }وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ{ أي: أمينًا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب ([42])، وإنما كان القرآن مهيمنًا لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخًا البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف قال تعالى: }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{([43])، ويحتمل معنى آخر وهو: مهيمنًا عليه، بأنه مشهود عليه من عند الله بأنه يصونه عن التحريف والتبديل، فهو الكتاب المحفوظ في الصدور، الميسر على الألسنة، المهيمن على القلوب، المعجز لفظًا ومعنى، ولهذا جاء في صفة هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم.
11- ومن الآثار المسلكية: الحرص على الابتعاد عن الذنوب والمعاصي، سواء ذنوب القلوب أو ذنوب الجوارح.
12- الثقة بالرب جل وعلا، وتفويض الأمر إليه، وعدم الخوف من الخلق.
13- ومن الآثار: عدم القلق والطمأنينة، لأن الإنسان يؤمن بأن الله تعالى كامل القدرة والاستيلاء, وهو العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة، فكلما زاد علمك بالله ستزداد سكينتك ويقينك، وطمأنينتك، وهذان أمران مطردان، وزيادة العلم تورث السكينة والطمأنينة واليقين.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت.
([1])أخرجه البخاري (5721).
([2])روضة المحبين (1/441)، جامع العلوم والحكم (1/188).
([3])سورة التوبة: 67.
([4])تفسير الطبري (1/259).
([5])سورة الحشر: 19.
([6])تفسير الطبري (28/52).
([7])سورة فاطر: 10.
([8])حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني (3/196)، تهذيب الكمال للمزي (5/91).
([9])ديوان عبد الله بن المبارك، (1/26).
([10])سورة المطففين: 14.
([11])أخرجه مسلم (144).
([12])سورة محمد: 22-23.
([13])تفسير ابن كثير (4/179).
([14])أخرجه مسلم (1978).
([15])رواه أبو داود (4905)، وحسنه الألباني.
([16])متفق عليه، أخرجه البخاري (5589) (5593) (5596) (5603)، ومسلم (2124).
([17])أخرجه البخاري (5032).
([18])سورة غافر، الآيات: 7-9.
([19])سورة الزمر، الآية: 75.
([20])سورة غافر، الآية: 7.
([21])أخرجه مسلم (2732).
([22])سورة الطور: 21.
([23])سورة غافر: 8.
([24])تفسير ابن كثير (4/73).
([25])سورة الحشر: 19.
([26])راجع للاستزادة الجواب الكافي.
([27])متفق عليه، أخرجه البخاري (6970) واللفظ له، ومسلم (2675).
([28])سورة البقرة: 116.
([29])سورة الملك: 14.
([30])متفق عليه، أخرجه البخاري (327) (3469) (4331)، ومسلم (367).
([31])أخرجه البخاري (428).
([32])أخرجه مسلم (1342).
([33])سورة طه: 45.
([34])سورة يوسف: 21.
([35])تفسير ابن كثير (2/474).
([36])سورة الأنبياء: 69.
([37])الدر المنثور للسيوطي (5/638).
([38])سورة القصص: 7.
([39])سورة الأنبياء: 87-88.
([40])سورة الأحزاب: 10-11.
([41])سورة المائدة: 48.
([42])تفسير الطبري (6/267).
([43])سورة الحجر: 9.
اللهم صل و سلم على الحبيب المصطفى صل الله عليه و سلم
بارك الله فيك على الموضوع القيم و جزيت كل خير يارب
جعله الله في ميزان حسناتك