إن الجهل بحقيقة الإنسان- حقيقة وجوده وطبيعته وفطرته، وما كُلّف به ولأجله- جعل كلّ محاولة لمعالجة قضاياه ترتكس في أخطاء فادحة، تغتال وجدانه، وتحبط مساعيَه، وتستخف بملكاته ومواهبه، وتحتقر ذاته وكرامته، وتحيْله آلةًَ مسخَّرةً بيد مستغلّيْه.
من منطلق هذا الخطأ عالجت الفلسفات الوضعية- شرقية وغربية، شيوعية ورأسمالية- قضية حرية المرأة ومساواتها، فأخطأت التقدير، وضلَّت السبيل، وجنَت من النتائج ما أفقد المرأة قيمتها وكرامتها وحقوقها التي وُهبت لها بالتكوين والتشريع.
إن جميع الطوائف تجأَر حاليًا بالدعوة إلى ضمان حقّ المرأة في المساواة من غير أن تحدد فحوى هذا الحق ومضمونه ومداه، ومن قبلهم لم ينادِ الإسلام بهذا الحق فقط، ولكن جعله واقعًا حياتيًّا في مجتمع الأسرة المسلمة بعد أن عرَّفه وحدَّد معناه وأبعاده وفحواه، إلاَّ أن ظلم الإنسان أخاه الإنسان، وتسلطه وأنانيته سلَب المرأة هذا الحق، كما انتزع منها سائر الحقوق الأخرى.
وليست وحدها التي سلُبت حقوقها، فمعها في ذلك المستضعفون من الرجال أنفسهم ومن الولدان ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 98) ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 4)، بل إن أنبياء الله- عز وجل- كذلك، نالهم الاستضعاف وسلب الحقوق بما فيها حق الحياة، يقول هارون لموسى- عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام – كما ورد في القرآن: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فلاَ تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ ولاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأعراف: 150).
إن الانطلاق نحو تحقيق المساواة للمرأة انبثق من جهل تام بطبيعة من ندافع عنه، فكانت حصيلة جهودنا أن تحررت المرأة من طاغوتية التخلف والتحجر والكبت، وسقطت في طاغوتية الفساد والتحلل والانحراف والتسيب، وتحولت آلة تتلاعب بها رأسمالية الغرب وتستهين بها شيوعية الشرق، وأداة تجارية بيد الشركات لتسويق البضاعة، تتقاذفها خمارات الشوارع وحانات الليل.
لا شك في أن المرأة والرجل خُلِقا من نفس واحدة ألهمها ربها فجورها وتقواها ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء: من الآية1)، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: من 7-10)، وهذا يجعلهما متساويين في الحقوق والواجبات بالطبيعة التكوينية لهما.
إن الخطاب الإلهي كتابًا وسنةً، كما توجَّه إلى الرجل توجَّه إلى المرأة، مما يؤكد المساواة في الجانب التشريعي أيضًا، يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: "لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله لم يبعثني مُعْنِتًا- أي موقعًا أحدًا في فتنة، أو متعنتًا- أي طالبًا لزلة أحد-، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا"، ولذلك عدَّهُن- صلى الله عليه وسلم- شقائق للرجال، والمساواة بهذا الاعتبار حق أصلي للمرأة بحكم الخلق والتكوين كما هو حق بحكم الوحي والتشريع.
إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو:
هل كون المرأة والرجل ينتميان إلى نفس واحدة ونوع واحد هو الإنسان، يجعلهما متطابقين يجري على الواحد منهما حكم الثاني، ويستطيع كل منهما أن يقوم مقام الآخر، في مساواة تامة ينهض فيها الرجل بدور الأم والحاضنة والمرضعة، والمرأة بدور الرجل قوامةً ونشاطًا عضليًا شاقًا؟ أم أن انتماءهما الواحد وتكامل وجوديهما وسعيهما وهدفيهما ومصيريهما لا يمنع كونهما نوعين من الإنسان، لكل منهما طبيعته وتركيبه المادي والنفسي ومهمته ووظيفته في الحياة.
إن الإجابة الصحيحة الموضوعية تحدد بدقة نقطة الارتكاز في موضوع مفهوم المساواة التي تعني الكبت والتخلف لدى المتحجرين، والتسيب والفساد لدى المتحررين، وتفسح المجال لمعرفة الصواب الذي ليس تخلفًا وليس تسيبًا، وليس ظلمًا للإنسان ذكرًا كان أو أنثى.
إن المساواة إذا كانت بمعنى المماثلة تُؤدي إلى تطابق مهمتي الرجل والمرأة ووظيفتيهما في الحياة، وهذا يجعل يسيرًا أن توضع لحقوقهما لائحة واحدة تنطبق على أحوالهما انطباقًا تامًا، فيستفيد الرجل مثلاً من إجازة الحمل والوضع، وتشتغل المرأة في سراديب المجاري أو تنقطع عن أهلها وزوجها في معسكرات الجيش وميادين الحروب.
أما إن كان هناك فرق بين مفهومي المساواة والمماثلة على رغم كون الرجل والمرأة إنسانين خُلِقا من نفس واحدة، أي كان بينهما تطابق في الإنسانية واختلاف وتنوع في التكوين النفسي والجسدي والوظيفي ، فإن ذلك ينشئ لكل منهما حقوقًا وواجبات تناسب وضعه وقدراته ومهامه وفطرته.
إن اتحادهما في الإنسانية يرتب لهما حقوقًا متطابقة، ولكن اختلاف طبيعتهما ووظيفتهما يضع لهما حقوقًا متباينة، والبون بذلك شاسع بين ما يؤدي إليه التطابق والمماثلة، وما ينتج عن الاختلاف والتنوع اللذين تقوم عليهما الأسرة الإنسانية المكونة من رجل وامرأة متطابقين في إنسانيتهما مختلفين في طبيعتهما ومهمتهما، حرين متكاملين في تصرفاتهما ونتائج جهودهما، متعاونين على حفظ النوع البشري وازدهار الإنسانية ورقيها وإعلاء شأنها.
إن من يتأمل القرآن الكريم ومعالجته لهذا الأمر يتضح له أن في خلق الرجل والمرأة على هذا النحو إحدى آيات الله ودلائل قدرته ووحدانيته ودقيق تقديراته، فهو عز وجل لم يخلق اعتباطًا وعشوائية ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ* وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ (الروم: من الآية 22 إلى 25)، ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ (الفرقان: 2).
من هذه الزاوية نظر التشريع الإسلامي إلى المرأة بصفتها مخلوقًا بشريًا شقيقًا للرجل، له حقوق مساوية للرجل وواجبات مساوية للرجل، ولكن هذه الحقوق وتلك الواجبات غير متماثلة أو متطابقة معه، بل هي متماثلة ومتطابقة مع طبيعة خلقة المرأة وفطرتها ومهامها ودورها في الحياة، محققة لجوهر المساواة مع الرجل لا لشكلها الخارجي.
فهل استطاعت مجتمعاتنا تحقيق هذه المساواة على رغم ما يجأر به دعاتها؟
إن واقع الحال يجيب بالنفي، ويؤكد أن المرأة لدينا مظلومة سابقًا مهضومة الحقوق لاحقًا، بما حرف بعضنا من تعاليم الإسلام، وبما يعد لها المتسيبون المتحررون من شعارات ترفع نيابةً عنها.
إن واقع الحال يُبيِّن أن المرأة تئن تحت الظلم من وطأة طاغوتين عاتيين، طاغوت التحجر وطاغوت التسيب الذي دُعي تحررًا؛ وكل منهما ألغى بطريقته الخاصة، وتأويلاته المتشيطنة، التشريع الإسلامي الذي يحمي المرأة من غيرها ومن نفسها، ويحمي حقوقها ومصالحها، ويجعلها شقيقة للرجل، كاملة الأهلية والشراكة في خلية الأسرة والمجتمع.
لقد جعل الله تعالى الأسرة بأحكامها، للرجل والمرأة سكنًا ومودةً وكرامةً واحترامًا واستمرارًا للحياة، فحولها التحجر معتقلاً هو المرأة وسجانًا هو الرجل، وحولها ( التحرر) مفسقةً وبؤرة رذيلة.
جعل الله الزوجة الواحدة للرجل الواحد قاعدةً وأصلاً، والتعدد علاجًا لحالات خاصة واستثناء، فجعل التحجر التعدد أصلاً والبيت مجمع إماء وسبايا، وجعل (التحرر) المخادنة أصلاً والزواج قيدًا ومحنةً وبلاءً.
لوى التحجر لكل تشريع عنقه وأوَّله لغير غايته ومقصده، فجاء (التحرر) وألغى كل تشريع إلا تشريع الهوى والتسيب.
إن المساواة بين الرجل والمرأة هي الأصل في التشريع الإسلامي ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ (النور: 30-31)
وهي الأصل كذلك عند الله- عز وجل- في اللوح المحفوظ، يقول- عز وجل-: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: 35).
إن المرأة المسلمة اليوم تعيش بين سندان من التحجر نُسِبَ زورًا للإٍسلام، ومطرقةً من التسيب والفساد دُعيت تحررًا، فكيف تنقذ المرأة نفسها وتؤوب إلى شريعة ربها راضيةً مرضيةً؟ ذلك هو مهمة الداعيات المتحليات بالفقه والخبرة والحكمة والإصرار، وذاك ما يسعى إليه كل غيور على أمته وعقيدته.