تخطى إلى المحتوى

القناعة راحة وأمن واطمئنان 2024.

للقناعة فوائد تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة· وأول هذه الفوائد: امتلاء القلب بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والثقة به والرضى بما قدر وقسم· ويقوى اليقين بما عنده سبحانه؛ ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم، حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئا·
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ”إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق” أي كلما فني ما عندي انتظرت رزقا جديدا· وقال الإمام أحمد رحمه الله: ”أسرّ أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي شيء”· وقال الحسن رحمه الله: ”إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق بما في يد الله عز وجل”·
الفائدة الثانية: حصول الحياة الطيبة قال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)· وقد فسر الحياة الطيبة علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم فقالوا: ”الحياة الطيبة هي القناعة”· وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي رحمه الله: ”من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه”·
الفائدة الثالثة: تحقيق شكر المنعم سبحانه وتعالى· وذلك أن من قنع برزقه شكر الله تعالى عليه، ومن تقالّه – أي رآه قليلا- قصّر في الشكر فيتلهف ويشتغل عن الشكر بالطمع، وربما جزع وتسخّط والعياذ بالله· ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنوعا تكن أشكر الناس)·
الفائدة الرابعة: الفلاح والبشرى لمن قنع؛ فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع)· وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه)·
الفائدة الخامسة: الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب بالحسنات، كالحسد والغيبة والنميمة والكذب وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة·· ذلك أن الدافع على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالبا ما يكون طلب دنيا أو دفع نقصها· فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا، لأنه رضي بما قسم له، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ”اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحدا على رزق الله، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يردّه كراهة كاره، فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط”· وقال بعض الحكماء: ”وجدت أطول الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع”·
سادس فائدة: إن حقيقة الغنى يكون في القناعة، ولقد رزقها الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وامتن عليه بها فقال: (ووجدك عائلا فأغنى)· وقد نزّل بعض العلماء هذه الآية على غنى النفس، لأن الآية مكية، ولم يكن النبي قد فتح عليه إلا عام خبير وما بعدها· وذهب بعض المفسرين إلى أن الله تعالى جمع له الغنائين: غنى القلب، وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة رضي الله عنها·
وقد بين عليه الصلاة والسلام أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)· وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (فترى قلة المال هو الفقر؟) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب)· وهذه حقائق لا مِرية فيها، فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولده وأحفاده ولو عمر ألف سنة؟ لكنه لما فقد القناعة تجده يخاطر بدينة وصحته ويضحي بوقته يريد المزيد، وأقرانه بين ألوان العبادة يتقبلون، يغتنمون الكفاف وللآخرة يستعدون· وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس وهو لا يجد قوت غده· فالعلة في القلوب رضى وجزعا، وضيقا واتساعا، وليست في الفقر والغنى· ولما بدأ الحرص يدبّ في القلوب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام على المنبر يصلح حالها فقال: ”إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه”· وسئل أبو حازم فقيل له: ما مالك؟ قال: ”لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة واليأس مما في أيدي الناس”· وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنّيك ورضاك بما يكفيك·

الفائدة السابعة: العز في القناعة والذل في الطمع، ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزا بينهم، والطمّاع يُذل نفسه من أجل المزيد· جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعا: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)· وكان محمد بن واسع رحمه الله تعالى يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: ”من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد”· وقال الحسن رحمه الله: ”لا تزال كريما على الناس، ولايزال الناس يكرمونك ما لم تغاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك”· كما أن الإمامة في الدين والسيادة في الدنيا والرفعة في الذكر لا يحصّلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس وما في أيديهم، واحتاج الناس إليه في العلم والوعظ والإحسان· قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم·
*إمام خطيب/ مسجد مالك بن أنس (باش جراح)

جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم على الموضوع المميز نفع الله به وجعله في ميزان حسناتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.