ما الخلافات بين المذاهب الفقهية إلا إلهامات إلهية في تأويل النصوص القرآنية وتوجيه الأحاديث النبوية لسعة الديانة الإسلامية من الأئمة من يأخذ بظاهر الآية وهذا صواب ومنهم من يأخذ بتأويل في القرآن والقرآن يُفسر بعضه بعضاً وهو على صواب هذا على صواب وهذا على صواب وذلك لوسعة دين الله
مثال على ذلك يقول الله تعالى في نواقض الوضوء {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} أخذ الإمام الشافعي بظاهر الآية فقال: اللمس هو اللمس المباشر فلو لمس الرجل المرأة بدون حائل انتقض وضوءه فإذا أراد أن يلمس المرأة لا بد أن يضع على يده حائل يحول بينه وبين يدها وهذا رأى صواب
والإمام أبو حنيفة قال: لو نظرنا إلى قول الله عن السيدة مريم البتول رضي الله عنها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} تقصد بالمس الجماع إذاً اللمس الذي ينقض الوضوء هو الجماع لكن اللمس المباشر لا ينقض الوضوء
هذا أوَّل من القرآن وهذا أخذ بظاهر القرآن وذلك ليتبين لنا سعة شرع الرحمن الذي أنزله لنا على النبي العدنان صلي الله عليه وسلم ليس بينهما خلاف ولا اختلاف لكن سعة في الفكر ونباهة في الذكر وإلهام من الله ليعلم الجميع أن شرع الله شرع واسع لا يحيط به رجل واحد من عباد الله إلا سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي علَّمه الله وقال له الله {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}وقس على ذلك باقي الأمثلة فلم يظهر بينهم خلاف ولذلك لم يظهر على مدى التاريخ عصبيات بين أصحاب المذاهب كما ظهر في عصرنا الآن لأنهم يعلمون أنهم
وكلهم من رسول الله ملتمس ،،،،،،،،، رشفاً من البحر أو غرفاً من الديم
لو جاء أي رجل مهما كان شأنه بين المسلمين بشيء يخالف سنَّة سيد الأولين والآخرين لقرعناه بالنعال حتى أصغر مسلم لا يرضى بذلك لكنه يأتي بفهم لطيف في كتاب الله أو في توجيه حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم فالسابقون فهموا ذلك فلم يختلفوا ولم يتفرقوا ولم يتحزبوا كما ظهر الآن وكذا الصالحين على اختلاف أنواعهم وأشكالهم الطريق إلى الله واحد لا يغيب عن سلوكه إلا جاحد ولا يُصد عنه إلا كافر أو معاند لكن كيف أسير فيه؟
ما المنهج الذي إذا اتبعته أنال رضا الله وأحظى بحسن المتابعة لحبيب الله ومصطفاه؟ وليس فينا ولا فيمن قبلنا ولا فيمن بعدنا رجل يستطيع أن يأتي بكل ما أمرنا به الله فظهر الرجال الذين مشوا على منهج حبيب الله واختاروا باباً مشوا فيه وعندما صدقوا في السير في هذا الباب فتح عليهم الوهاب ولاحت عليهم الفتوحات الإلهية، رأينا لهم إكرامات من باب{وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} ورأينا لهم وعليهم إشراقات من باب {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} ورأينا لهم إجابة دعاء وتحقيق رجاء من الله دليلاً على أنهم استجابوا لله فاستجاب لهم الله{فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
ورأينا فيهم أدب النبوة وسمت القرآن وسيما الصالحين التي وسم بها الله أحبابه المقربين من أُمة النبي العدنان فكل رجل منهم على باب من أبواب القرب والطاعة والقرب وهي أبواب كثيرة ولا يستطيع الإنسان أن يدخل منها جميعاً إلا بتوفيق الله ورعاية الله وأنا بعدما اشتد شوقي إلى ربي ورأيت حنيناً في نفسي إلى العمل بما أمر ربي أريد أن أمشي على هذا الهُدى فأنظر فأجد رجلاً وصل إلى ما وصل إليه من الفتح الإلهي بقيام الليل فأذهب إليه لأتعلم منه الكيفية السديدة والطريقة الرشيدة التي أقوم بها الليل فيفتح الله به علىِّ وينظر آخر إلى رجل فتح الله عليه بكثرة الإنفاق والصدقات فيذهب إليه ليتدرب على يديه على الكيفية التي يتصدق بها وينال القبول بسببها ويُفتح عليه من أجلها أحتاج إلى خبير في هذا الدرب الذي أريد أن أسلكه إلى العلى الكبير
وكل خبير له باب ولا يستطيع أحد أن يدخل من كل الأبواب إلا الحبيب الذي منحه الله الحكمة وفصل الخطاب سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ومن هنا ظهر الصالحون منهم من اشتهر بذكر الله ومنهم من اشتهر بتلاوة كتاب الله ومنهم من اشتهر بالعلوم ومنهم من اشتهر بخدمة الفقراء والمساكين ومنهم من اشتهر بالصلح بين المتخاصمين من المسلمين ومنهم من اشتهر بالسعي على حوائج الأرامل والفقراء والضعفاء والمساكين كل واحد منهم دخل من باب ومن هنا افترقوا لم يكن افتراقهم عن اختلاف وإنما لإظهار غِنى شرع الله وكثرة الأبواب التي توصل المؤمن إلى رضاء الله وإلى فضل الله وإلى إكرام الله
الخطأ في هذا المقام للذي يدَّعي أن الطريق الذي سلكه هو وحده الطريق السديد وغيره على الخطأ وهذا لا ينبغي أن يكون بين المسلمين فإنهم كلهم على الصواب لكن هذا منهج ارتضيته وأحببته وليس معنى ذلك أن أُقبح مناهج غيري لأنها كلها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وكلها توصل إلى مراضي الله لكني أميل إلى ذلك فلا أُقبح غيري إذا سار على غير ذلك فمن أراد أن يُلزم غيره بالمنهج الذي سار عليه فقد حجَّر واسع فضل الله وأغلق أمام الخلق الأبواب التي فتحها الله وبينها رسول الله صلي الله عليه وسلم لكن دع الخلق للخالق سر كما شئت واترك غيرك يسير كما يشاء
واعلم أن الله واسع عليم ومن وسعته أن فضله ليس قاصر على أحد ولا قاصر على عدد ولا قاصر على زمان ولا قاصر على مكان بل فضل الله يُحيط بكل زمان ومكان ويُحيط بالملائكة والإنس والجان وغيرها من مخلوقات الرحمن منذ خلق الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لو فهم المسلمون ومُحبِّي الصالحين هذه الحقيقة هل يختلفون؟ شيخي أفضل أو شيخك أقل
وهل هناك من سبيل لمعرفة الأفضلية عند رب البرية بعد قول الله في آيته القرآنية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ومَن يعرف التقوى؟ هل معك أشعة في باطنك ونوراً في قلبك تستطيع أن تكشف به تقوى الأتقياء لتُميز بينهم؟ هذا أمر لله وقد قال الحبيب صلي الله عليه وسلم موصداً هذا الباب أمام أصحابه ومن بعدهم {التَّقْوَى هَاهُنَا التَّقْوَى هَاهُنَا التَّقْوَى هَاهُنَا}[1] وأشار إلى صدره وقال للصِديق الأعظم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه {يَا أَبَا بَكْرٍ إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يُسَارِعُونَ فِي الدُّنْيَا فَعَلَيْكَ بِالآْخِرَةِ وَاذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُل حَجَرٍ وَمَدَرٍ يَذْكُرْكَ إِذَا ذَكَرْتَهُ وَلاَ تَحْقِرَنَّ أَحَدَاً مِنَ المُسْلِمِينَ فَإِنَّ صَغِيرَ المُسْلِمِينَ عِنْدَ اللَّهِ كَبِيرٌ}[2]
فأنت لا تعرف من الأقرب إلى الله أو الأشد خشية لله وقد قال سيدي جعفر الصادق رضي الله عنه{إن الله أخفى ثلاثاً في ثلاث أخفى رضاه في طاعاته فلا تُحقرن من الطاعات شيئاً فعسى أن يكون فيه رضا الله وأخفى غضبه وسخطه في معاصيه فلا تُحقرن من المعاصي شيئاً فعسى أن يكون فيه سخط الله وغضبه وأخفى أولياءه في خلقه فلا تُحقرن من الخلق أحداً فعسى أن يكون ولياً لله} مؤمن تحقق بذلك هل تجد بينه وبين غيره خلاف أو فُرقة أو شتات أو جدال أو تناحر أو تضاد أو ما شابه ذلك؟ كلا والله ناهيك عن السب والشتم واللعن هذا لا يكون من مسلم مبتدئ في دين الله لأن المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده
[1] صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد
[2] جامع المسانيد والمراسيل الديلمى عن على رضي الله عنه
أمراض الأمة وبصيرة النبوة
منقول من كتاب [أمراض الأمة وبصيرة النبوة]