أما بعد، أيها الفضلاء ـ أصلح الله أقوالكم وسدد ـ:
فإن الحلف بغير الله تعالى من الذنوب العظيمة، والسيئات الخطيرة، والآثام البشعة الشنيعة، والمعاصي المهلكة المذلة، والمحرمات الغليظة، والمنكرات البغيضة، والقبائح الشديدة.
ومع ذلك فلا يزال هذا المحرم الفظيع يسري بين المسلمين، ويتسع ويزيد، تسمعه من الشيخ الكبير، والعجوز المسنة ، والرجل الكهل، والمرأة الكهلة، والفتى اليافع، والشابة اليانع، والصبي والصغيرة.
تسمعه من أهل الحاضرة والمدن الكبيرة العامرة، ومن أهل البادية والقرى الصغيرة النائية.
وتسمعه من الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ومن الدارس الذي حاز أعلى الشهادات، وتبوأ عالي الرتب والمناصب.
تسمعه من الفلاح والحرفي، ومن المدرس والمبرمج، ومن الطبيب والمهندس.
تسمعها من الشعراء والكُتاب، ومن الخطباء والبلغاء والفصحاء.
تسمعه في البيوت والطرقات، والمجالس والملتقيات، والمدارس والمعاهد، وعند الخصومات والمشادات، والوعود والمحادثات، وعبر البرامج الإذاعية والتلفزيونية.
فذاك يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذاك يحلف بالأولياء والصالحين، وذاك يحلف بأبيه أو أمه، وذاك يحلف بشرفه أو ذمته، وتلك تحلف بالكعبة أو الأمانة، وأخرى تحلف بالنعمة.
أيها النبلاء ـ ساقكم الله إلى مراضيه وأبعدكم عن مساخطه ـ:
لقد تعددت الأحاديث النبوية في نهي المسلمين عن الحلف بغير ربهم وخالقهم، وتنوعت في بيان طرق تحريمه وقبحه وذمه، وذلك ليبتعدوا عنه غاية البعد، وينفروا منه أعظم نفرة، وينزجروا عن الوقوع فيه أشد انزجار، ويُحذروا أولادهم وأهليهم وأصحابهم وجيرانهم وجلسائهم من النطق به، ودونكم بعض هذه الطرق، لعلكم ترحمون:
الطريق الأول: نهي الله جل وعلا عنه.
حيث أخرج البخاري (6108) ومسلم (1646) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدْرَك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: (( أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ )).
الطريق الثاني: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
حيث أخرج أبو داود (3248 ) والنسائي (3769) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ)).
وهو حديث صحيح، وقد صححه: ابن حبان وابن الملقن والألباني وابن باز ومحمد علي بن آدم الأتيوبي.
الطريق الثالث: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الشرك بالله ـ جل وعلا ـ.
حيث أخرج أحمد (6072) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ سمع رجلاً يحلف: لا والكعبة، فقال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ )).
وهو حديث صحيح، وقد صححه: الترمذي والحاكم وابن حبان والضياء المقدسي وابن تيمية وابن قيم الجوزية والذهبي وابن الملقن وزين الدين المناوي والمعلمي والألباني وابن باز والوادعي وربيع بن هادي ومحمد علي بن آدم الأتيوبي.
الطريق الرابع: تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم من الناطق به.
حيث أخرج أحمد (22980) وأبو داود (3253) عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا )).
وهو حديث صحيح، وقد صححه: الحاكم وابن حبان والمنذري والنووي والذهبي والهيتمي وزين الدين المناوي والألباني وابن باز والوادعي.
الطريق الخامس: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم شأن النطق به، حتى إنه أمر من تلفظ به أن يقول كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله".
حيث أخرج البخاري (4860) ومسلم (1647) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )).
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده"(1622و1590) والنسائي (3776و 3777) وابن ماجه (2097 ) عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( حَلَفْتُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ أَصْحَابِي: قَدْ قُلْتَ هُجْراً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ قَرِيباً، وَإِنِّي حَلَفْتُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ ثَلاثاً، ثُمَّ انْفُثْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَلا تَعُدْ )).
وهو حديث صحيح، وقد صححه ابن حبان والضياء المقدسي والوادعي ومحمد علي بن آدم الأتيوبي.
والهُجر هو: القبيح من الكلام.
وقال ابن بطال المالكي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح البخاري"(6/99-100):
قال الطبري: وقول ذلك واجب عليه مع إحداث التوبة، والندم على ما قال من ذلك، والعزم على ألا يعود، ولا يعظم غير الله.اهـ
الطريق السادس: عقوبة ولي أمر المسلمين لمن نطق لسانه به، وهو عالم عامد ذاكر.
حيث ثبت عند عبد الرزاق في "مصنفه"(15927) عن عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ أنه سابق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فسبقه، وقال: سبقته والكعبة، فقال له عمر: (( أَرَأَيْتَ حَلِفَكَ بِالْكَعْبَةِ، وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ فَكَّرْتَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَحْلِفَ لَعَاقَبْتُكَ، احْلِفْ بِاللَّهِ، فَأْثَمْ أَوِ ابْرَرْ )).
الطريق السابع: إخبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أن حلفهم بالله كذباً أهون عليهم من حلفهم بغيره صدقاً.
حيث أخرج عبد الرزاق (15929) وابن أبي شيبة (12281) والطبراني في "المعجم الكبير"( 8902أو 8810) عن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( لأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ وَأنَا صَادِقٌ )).
وهو أثر صحيح، وقد صححه الألباني وعبد المحسن العباد، وقال المنذري والهيثمي: رواته رواة الصحيح.
وكون الحلف بالله كذباً أهون من الحلف بغيره صدقاً يظهر من جهتين:
الأولى: أن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله توحيد، وتوحيد معه كذب، خير من شرك معه صدق.
الثانية: أن الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله كذباً معصية، والمعصية أهون من الشرك، والذنب الذي أطلق عليه في الشريعة أنه شرك، يكون أعظم من غيره وأشد.
الطريق الثامن: إنكار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وعقوبتهم لمن تلفظ لسانه به.
حيث ثبت عند الإمام أحمد في "مسنده"(5222و5256) ومسدد في "مسنده"( 4815مع اتحاف الخيرة) عن سعد بن عُبيدة ـ رحمه الله ـ أنه قال: (( كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي حَلْقَةٍ، فَسَمِعَ رَجُلاً فِي حَلْقَةٍ أُخْرَى وَهُوَ يَقُولُ: لَا وَأَبِي فَرَمَاهُ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى، وَقَالَ: إِنَّهَا كَانَتْ يَمِينَ عُمَرَ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا وَقَالَ: إِنَّهَا شِرْكٌ )).
أيها الأجلاء ـ بصركم الله بدينه وشرح صدوركم إليه ـ:
إن صور وصيغ الحلف بغير الله ـ جل وعلا ـ كثيرة جداً، لا تكاد تحصيها نفس آدمي، لأنها قد تختلف من زمن إلى زمن، ومن لغة إلى لغة، ومن لهجة إلى لهجة، ومن بلد إلى بلد، بل حتى من مدينة إلى مدينة، وقرية إلى قرية، وقبيلة إلى قبيلة، وبين حاضرة وبادية.
ودونكم شيء من هذه الصور والصيغ:
الصورة الأولى: الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
كأن يقول الحالف: والنبي أني لصادق فيما قلت، أو سِيدنا النبي أني لن أفعل ما تريد، أو وسيدي المصطفى لقد أصلحت ما تريد.
الصورة الثانية: الحلف بالشرف.
كأن يقول الحالف: وشرفي لن أتركه يمر دون عقاب، أو أقسم بشرفي على حفظ ما أوكل إلي من عمل.
الصورة الثالثة: الحلف بمكانة ومنزلة المحلوف به.
كأن يقول الحالف: وحِياتك أو حِيات سِيدنا النبي أو وحِيات أبي أو وحِياة أمي لن أفعل ما تطلبونه، أو وحِياة والديك أن تعطيني ما أريد، أو وغلاتك عندي أو وغلاوة سِيدي البدوي عندك أو بجاه النبي عندك أو جاه والديك أو جاه أحب الناس إليك أن تقرضني هذا المال.
الصورة الرابعة: الحلف بالأمانة أو الذمة.
حيث يقول بعضهم لمن يخبره بحصول شيء: أمانة أنه قد حصل أو بذمتك أنه قد وقع فيقول مجيباً عليه: أمانة، أو يقول له: بذمتك أنك ما تدري عن هذا الشيء، فيجبه: بذمتي.
الصورة الخامسة: الحلف بالأولياء والصالحين.
كأن يقول الحالف: والحسين أو والزهراء أو والعيدروس لقد صدقت، أو وسِيدنا البدوي أو والجيلاني أو والمرغني لن تأخذ مني درهماً، أو والمرسي أبو العباس أو وابن علوان أو والست زينب لأفعلن بك كذا وكذا.
الصورة السادسة: الحلف بالآباء والأمهات.
كأن يقول الحالف: وأبي وأمي أو بأبي لقد قمت بكل ما طلبت مني، أو أقسم بأهلي جميعاً أني بريء مما نسب إلي.
الصورة السابعة: الحلف بالكعبة.
كأن يقول الحالف: والكعبة المشرفة أو وبيت الله الحرام أني عاجز عن سداد هذا الدين.
الصورة الثامنة: الحلف بالنعمة.
كأن يقول الحالف: والنعمة الكريمة أو والعيش والملح الذي بيننا أني لم أخنك.
أيها النبهاء ـ زادكم الله من فضله وجوده وإحسانه ـ:
لا زال العلماء والفقهاء ـ رحمهم الله ـ على مر العصور، واختلاف الأقطار، يحذرون المسلمين من الحلف بغير الله، ويبينون لهم حرمته وأحكامه، وينكرون على من يصدر عنه.
ودونكم بعض أقوالهم في ذلك:
أولاً: قال الحافظ ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ (المولود سنة: 368هـ) في كتابه "التمهيد"(14/368):
أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز الحلف بها لأحد.اهـ
ثانياً: قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (المولود سنة:661هـ) كما في "مجموع الفتاوى"(33/122):
الحلف بالمخلوقات كالحلف بالكعبة والملائكة والمشائخ والملوك والآباء والسيف، وغير ذلك مما يحلف بها كثير من الناس، فهذه الأيمان لا حرمة لها، بل هي غير منعقدة، ولا كفارة على من حنث فيها باتفاق المسلمين.اهـ
ثالثاً: قال القاضي المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأندلسي ـ رحمه الله ـ (المتوفى سنة: 435هـ) كما في "شرح صحيح البخاري لابن بطال(6/96-97):
كانت العرب في الجاهلية تحلف بآبائها وآلهتها، فأراد الله أن ينسخ من قلوبها وألسنتها ذكر كل شيء سواه، ويبقى ذكره تعالى، لأنه الحق المعبود، فالسنة اليمين بالله، كما رواه أبو موسى وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء، لا يجوز عند الفقهاء شيء من ذلك.اهـ
رابعاً: قال الإمام ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ (المولود سنة:224هـ )كما في "شرح صحيح البخاري لابن بطال(6/97):
إن الأيمان لا تصلح بغير الله تعالى كائناً ما كان، وأن من قال: والكعبة أو وجبريل وميكائيل أو آدم وحواء ونوح أو قال: وعذاب الله أو ثواب الله، أنه قد قال من القول هجراً ، وتقدم على ما نهى النبي ـ عليه السلام – عنه، ولزمه الاستغفار من قوله ذلك.اهـ
خامساً: قال القاضي بكر بن عبد الله أبو زيد ـ رحمه الله ـ في كتابه "معجم المناهي اللفظية"(ص133):
استقر الشرع العام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على تحريم الحلف بغير الله تعالى، وأن من حلف بغير الله فقد أشرك شركاً أصغر، والأحاديث في النهي عن الحلف بغير الله تعالى بلغت مبلغ التواتر، وهي من قضايا الاعتقاد التي لا خلاف فيها بين المسلمين.اهـ
دمت لنا ودام تميزك
++