تخطى إلى المحتوى

اجتهدوا تُفْلحوا : 2024.

الاجتهاد ، لغةً ، هو : " بذل الوسع / الجهد / الطاقة في طلب المقصود " . بمعنى أن المجتهد يبذل ما في وسعه لتحصيل " ظن " . وعليه يكون المجتهد ، والمقلّد ، على طرفي نقيض ؛ فالمقلد " من يأخذ مذهب / رأي غيره دون أن يسأله الدليل " .

وفي تاريخ التشريع الإسلامي ، ظل المسلمون الأوائل ، ولمدة ثلاثة قرون تقريباً ، لا ينعون على أحد أن يفكر في كل القضايا الشرعية بغية أن يصل إلى حل لهذه القضية أو تلك . ثم ، وبفعل أكثر من عامل ، بدأ التضييق على " العقل " المسلم ؛ حيث قرر فريقٌ قصْرَ " حق " الاجتهاد / الفهم على كبار الفقهاء ممن يقررون الأحكام ، وصار / أصبح على غيرهم أن يأخذوا بما توصل إليه هؤلاء . وشيئاً فشيئاً ، وبحلول القرن الرابع الهجري ، ساد تصور … ولعلنا أن نكون مصيبين لو قلنا ساد اعتقاد ، مؤدّاه أن فقهاءنا الأربعة ، مالكاً والشافعيَّ وابن حنبل وأبا حنيفة ، هم وحدهم الذين يقدرون أن يصلوا بفكرهم إلى حلولٍ لما يعنّ للمسلم من مسائل / قضايا دنيوية وأخروية !!! . ومن ثم ساد تصور / اعتقاد بأن " كل قضايا " " كل المسلمين " قد تمت مناقشتها والوصول بشأنها إلى حل ، أو أكثر ، يُرضي جميع الأطراف .
بهذا أعلن فريق أنه قد صيغتْ كافة الحلول النهائية لكافة القضايا ، وصار في حكم الممنوع وصف غير هؤلاء بالمجتهد ، إذ أصبح على كل من يتغيا الاجتهاد أن يحصر اجتهاده في نطاق الشرح والتطبيق والتعليق على ما انتهى إليه الأوائل ، فعرفنا الحواشي على المتون الأصول ، ثم شرح الحواشي ، ثم تعليق على شرح الحاشية … وهكذا أُدخل العقل المسلم في دائرة مغلقة شديدة العتمة ، ما فتح باب التقليد واسعاً على مصراعيه ، وارتفع قول البعض إنه لا يصح للمسلم أن يُعمل عقله في أي من المسائل التي بحثها الأولون ، إذ " ذهب الأولون بالخير كله " و " لم يترك الأولون للآخرين شيئاً " .
لكن ، ومن الأثر ، : " الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " ، قام رجال يعلنون أنه ليس بوسع الإنسان أن يصل بالتقليد إلى إيمان ينجيه . ولعل هذا ما أسسه المعتزلة لما أعلنت أن : " من دخل الإيمان مقلداً ، جاز أن يخرج منه مقلداً " !!! … وأنكر هؤلاء التقليد والجمود … فقيل في ذلك " أما ما سوغ للفقهاء أن يقولوا في شئ واحد إنه حلال وحرام ، فلأن ذلك الشئ تُرِكَ واجتهاد الناس فيه ، فبعض الأحكام يتغير بحسب الزمان ، وبحسب العادة ، وعلى قدْر مصالح الناس ، لأن الأحكام موضوعة على العدْل الوضعي ، وربما كانت المصلحة اليوم في شئ وغداً في شئ آخر ، وكانت لزيد مصلحة ، ولعمرو مفسدة . والاجتهاد الذي يجري مجرى التعبد ، أو لعموم المصلحة ، في النظر والاجتهاد نفسه ، لا في الأمر المطلوب ، ليس يضرّ فيه الخطأ بعد أن يقع فيه الاجتهاد موقعه . مثال ذلك أن المراد من ضرب الكرة بالصولجان إنما هو الرياضة بالحركة ، فليس يضر أن يخطئ الكرة ، ولا ينفع أن يصيبها ، وإن كان الحكم قد أمر بالضرب والإصابة ، لأن غرضه كان في ذلك الأمر نفس الحركة والرياضة . وكذلك إنْ دفن حكيمٌ في برية دفيناً وقال للناس اطلبوه ، فمن وجده فله كذا . وكان غرضه في ذلك أن يجتهد الناس فيعرف مقادير اجتهادهم ، ليكون ذلك الطلب عائداً لهم بمنفعة أخرى غير وجود الدفين . فإنه لا يضر أيضاً في ذلك أن يخطئ الدفين ، وإنما الفائدة كانت في السعي والطلب ، وقد حصلت للطائفتين جميعاً … أي الذين وجدوه والذين لم يجدوه " .
وأصناف الاجتهادات ، والنظر الذي يجري هذا المجرى كثيرة ، فمن ذلك كثير من مسائل العَدد والهندسة وسائر الموضوعات ، ليس غرض الحكماء فيها وجود الغرض الأقصى من استخراج ثمرتها ، وإنما مرادهم أن ترتاض النفس بالنظر ، وتتعوّد الصبر على الروية والفكر إذا جريا على منهاج صحيح ، ولتصير النفس ذات ملكة للفكر الطويل ، فإذا حصلت هذه الفائدة فقد وُجِدَ الغرضُ الأقصى من النظر .
وليس ينبغي ان يتعجّب الإنسان من الشئ الواحد أن يكون حلالاً بحسب نظر الشافعي ، وحراماً بحسب نظر مالك وأبي حنيفة ؛ فإن الحلال والحرام في الأحكام ليس يجري مجرى الضدين أو المتناقضين ، فينبغي للعاقل : " إذا نظر في شئ من أحكام الشرع أن يجتهد في النظر ، ثم يعمل بحسب اجتهاده ذلك ، ولغيره أن يجتهد ويعمل بما يؤديه إليه اجتهادُه وإنْ كان مخالفاً للأول ، واثقاً بأن اجتهاده هو المطلوب منه ، ولا ضرر في الخلاف " .
ولأحد أن يطرح سؤالاً نراه مهماً : هل من حق أي إنسان أن يعتنق ما يراه من آراء أو أفكار ، مهما كانت هذه الآراء / الأفكار سقيمة ، أو حتى باطلة ؟ .
هناك من يرى أن هذا حق أصيل للإنسان ، بما هو إنسان ، شريطة ألا تفضي أفكاره تلك إلى تصرف / سلوك منْكَر اجتماعياً ، أو أن يمنع غيره من التفكير ليصل حتى إلى غير ما وصل إليه الأول .
وهناك من يرى غير ذلك ؛ إذ يرى أن الإنسان لا يملك حقَّ اعتقاد رأي ما لم يكن قد درسه وقلّب النظرَ فيه ، واجتهدَ حتى يصل إلى ما وصل إليه عبر صبر طويل ، واختبارٍ حقيقي للمعتقَد ، وبحث جاد محايد يضمن الابتعاد عن الأهواء والأغراض . ولذا توزن الأدلة التي على أساسٍ منها كوّن المرءُ رأيه / اعتقاده .
إنه : " في كل مرة يتبنّى الإنسان رأياً دون معرفة الأسباب والأدلة ، تضعف قدرته على ضبط النفس ، وعلى وزن الأدلة وتمحيصها تمحيصاً عادلاً موضوعياً . إن المرء متى اعتقد رأياً دون استنادٍ إلى أدلة شافية ، وبراهين كافية ، قد لا ينجم عنده ضرر كبير من جراء هذا الاعتقاد ذاته ، الذي قد يكون سليماً ، إلا أنه ، بالتأكيد ، يلحق الضرر بمجتمعه حين جعل من ذاته نفساً ساذَجةً سريعةَ التصديق ، فأضعفَ فيها القدرة على التساؤل والاختبار والتمحيص ، فأهدر ، من ثَمَّ ، آدميته " .
" إن إغفال تحرّي الدقة في تمحيص الآراء والأفكار التي يأخذ بها الشخصُ ، يُعَدُّ المدخلَ الأساسَ لإغفال الآخرين تحرّي الصدق فيما ينقلونه إلى هذا الشخص ، ذلك لأن الناس إنما يَصْدُقون القولَ في نقلهم لمن يأخذ بالصدق مع نفسه أولاً !!! ، وبالتالي ينتفي أن يكون من حق أحدٍ مطالبة الآخرين بالصدق معه ، بينما هو غير صادق مع نفسه ، إذ يأخذ بالآراء لمجرد رغبته في اعتناقها ما وجدها مريحةً له ، فهو – باستعداده لخداع ذاته – قد شجّع الآخرين أن يخدعوه ، وهو – بسذاجته وسرعةِ تصديقه – جعل الآخرين كذابين غشاشين … ما يعد إسهاماً ، ولو بدون قصد ، في إلحاق الضرر بالمجتمع " .
إن القرآن الكريم قد نعى ، في غير موضِع ، على التعلق بالآراء الموروثة عن الآباء رغم مخالفتها للعقل وقواعده ، وللمنطق وأسسه . فيصبح اعتناق شخص ما لرأيٍ ما لمجرد أنه لُقّنه في صغره ، ثم أخذه – بعد – في كبت كل شك له تعلق به ، والثورة على أي سؤال قد يزعزع الرأي المأخوذ به ، يصبح هذا خطأ كبيراً في حق المجتمع ؛ إذ سيولّد عضواً " إمعي التفكير " والرسول ، صلى الله عليه وسلم ، يحذرنا " لا تكن إمّعة " .

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.