هي إسبارطي Sparti المعاصرة، إحدى أشهر المدن ـ الدويلات في التاريخ اليوناني، تقع في أقصى جنوب البلوبونيز[ر] في منطقة لاكونية Laconia ، وتشغل وادي نهر يوروتاس Eurotas، عرفت بكونها أقوى دويلات بلاد اليونان وأكثرها محافظة على التقاليد.
يعود أول ذكر لها في التاريخ إلى العصر الموكيني (Mycènes = باليونانية ) (1600-1200ق.م) Mukenai، ويذكرها هوميروس في حديثه عن هلين Helen زوج منلاوس Menelaos ـ ملك إسبرطة ـ التي اختطفها باريس Paris ابن ملك طروادة، وتسبب في إشعال نار حرب طروادة بين الإغريق والطرواديين. وتشير الدلائل الأثرية والمصادر التاريخية إلى أن الغزاة الدُوريين Dorians استوطنوا المدينة بدءاً من القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ومع أنه لا يعرف شيء كثير عن المدينة حتى القرن الثامن قبل الميلاد فإن من الواضح أن هؤلاء الغزاة اتبعوا طريقة فريدة في الحكم، طبعت تاريخ إسبرطة طوال العصور التالية بطابعهم.
تكون المجتمع الإسبرطي
انقسم المجتمع الإسبرطي، بموجب الأعراف والتقاليد ـ التي أصبحت دستوراً فيما بعد ـ ثلاث طبقات: طبقة المواطنين Spartans، وطبقة البريويكيين Perioeki، وطبقة الهلوتيين Helots. وكان المواطنون الإسبرطيون (أو اللاكيديمونيون نسبة إلى مقاطعتهم لاكيديمونية) هم السادة، ويعودون بأصولهم إلى الغزاة الدوريين، ويسكنون مدينة إسبرطة نفسها، ولا يمارسون أي عمل سوى التدرب على الأعمال العسكرية، ويحتكرون حقوق السكان المدنية كاملة، كحق الترشيح و الانتخاب وشغل الوظائف العامة في الدولة . وكان عددهم قليلاً لا يتجاوز الثلاثين ألفاً، ينتظمون في قبائل ثلاث هي: البامفوليون Pamphyli والدومانيون Dymanes والهوليون Hyleies. أما طبقة البريويكيين، وتعني باليونانية «الذين يسكنون حول المدينة»، فكانت تعود بأصولها إلى سكان البلوبونيز قبل قدوم الدوريين، إضافة إلى بعض الدوريين. وقد عدّت الأعراف الإسبرطية أفراد هذه الطبقة أحراراً في مزاولة التجارة والصناعة وبيع أراضيهم وتوريثها وتجزئتها والخدمة مشاة في الجيش، إلا أنهم لا يملكون أية حقوق سياسية أو مدنية أخرى. وكان عددهم نحو مئة وعشرين ألفاً، لتوضع مساكنهم حول المدينة فقد كانوا في موضع خط الدفاع الأول يحمون المواطنين داخل المدينة من تعديات السكان المجاورين أو ينذرونهم بحدوثها. أما طبقة الهلوتيين فهم من أوائل سكان البلوبونيز الذين استرقهم البريويكيون قبل قدوم الدوريين. ويبدو أنهم كانوا أرقاء دولة توزعهم على السادة الإسبرطيين للعمل في فلاحة أراضيهم مقابل الحصول على حصة معينة. ومع أن هذه الطبقة كانت الطبقة المنتجة الرئيسة في المجتمع الإسبرطي، وكان أفرادها يؤلفون فرق مشاة خاصة بهم في الجيش الإسبرطي ويحملون أسلحة خفيفة، فإن وضعهم القانوني كان سيئاً جداً لأنهم كانوا يلقون معاملة قاسية من الشبان الإسبرطيين من دون أن تكفل لهم الدولة أية حماية. وكانوا يعبّرون عن سخطهم ـ لكثرة عددهم إذ كانوا ضعف البريويكيين ـ بالتمرد مما جعل الإسبرطيين يبتدعون نظام الشرطة السرية أو الكروبتية Kryptia لمراقبة حركات التمرد وسحقها قبل حدوثها.
الدستور والنظم السياسية
يعزو الإسبرطيون دستورهم إلى لوكورغوس Lykurgos أحد مشرعيهم شبه الأسطوريين الذي كان متنفذاً في بلاط أحد ملوك إسبرطة بحسب قول هيرودوت، وعندما قام بجمع الأعراف والتقاليد القديمة وصاغها في قالب قانوني عزاها إلى وحي دلفي المقدس ليضفي عليها شرعية دينية وقوة تنفيذية.
وبموجب الدستور تكونت الهيئات التشريعية والتنفيذية من أربع هيئات رئيسة هي: الملكان ومجلس الشيوخ gerousia والجمعية العامة apella والحكام ephoroi. ويتربع الملكان على قمة التنظيم الفريد الذي أدى إليه سببان: أحدهما أن وجود ملكين يتساويان في السلطة يبعد عنهما كليهما فكرة الاستئثار بالحكم، وثانيهما تساوي المكانة الاجتماعية والدينية والمادية لعائلتي الملكين اللتين تدعيان الانتساب إلى الإله هرقل. ومع أن الدستور كان يعطي الملكين حق قيادة الجيوش وحضور اجتماعات مجلس الشيوخ ورئاسة الاحتفالات الدينية، إضافة إلى حقوق وامتيازات شرفية أخرى مقصورة عليهما، فإن سلطاتهما كانت نظرية وتكريمهما كان شكلياً، ولم يكونا يمارسان إلا حق الفصل في بعض القضايا الثانوية، كالتبني والإشراف على تزويج الأيتام.
أما مجلس الشيوخ فكان يتألف، إضافة إلى الملكين، من ثمانية وعشرين عضواً منتخبين من رؤساء العائلات الإسبرطية. ومن مهام المجلس النظر في شؤون السياسة الخارجية للدولة، وإعداد المشروعات العامة لعرضها على الجمعية العامة، إضافة إلى مهمة الفصل النهائي في القضايا الجنائية للمواطنين الإسبرطيين، والإشراف الإداري على هيئات الدولة المختلفة. ولاشك في أن السلطات الواسعة لهذا المجلس قد أسهمت في انتهاج سياسة المحافظة على الماضي، والابتعاد عن أي تحديث في إسبرطة في تاريخها الطويل.
والجمعية العامة كانت نظرياً الوحدة الديمقراطية الوحيدة في الدستور الإسبرطي، إذ كانت عضويتها مفتوحة لكل المواطنين الذين بلغوا الثلاثين من العمر وأتموا مراحل التدريب العسكري. وكانت الجمعية تعقد جلساتها بدعوة من الحكام مرة في الشهر، وتقتصر سلطاتها على تصديق القوانين المقدمة من مجلس الشيوخ أو رفضها من دون مناقشتها، إضافة إلى مهمة انتخاب الحكام وأعضاء مجلس الشيوخ.
وكان عدد الحكام في إسبرطة خمسة، تنتخبهم الجمعية العامة سنوياً، ويشرفون على الأخلاق والنظام العام وحفظ القانون، ولهذا كانوا يرأسون فرقة الشرطة السرية، لمناهضة حركات التمرد عند الأقنان، ومراقبة تصرفات الغرباء في المدينة، ويشرفون على التدريب العسكري للشباب، ويراقبون سلوك الموظفين، ويرافقون الملوك في الحروب، ويفصلون في بعض القضايا، ويفاوضون ممثلي الدول وسفراءها، ويعقدون المعاهدات مع الدول الأجنبية.
إسبرطة والحروب الفارسية
في بداية القرن الخامس قبل الميلاد وافقت إسبرطة على مساعدة المدن اليونانية لمناهضة التهديد الفارسي، لكن قواتها لم تتمكن من المشاركة في معارك المرحلة الأولى من الحروب الفارسية لانشغالها في مهرجان كرْنِيَة Karneia الديني، ووصلت هذه القوات إلى ميدان المعركة بعد أن كانت أثينة[ر] قد حققت نصرها على الفرس في معركة ماراثون Marathon. على أن إسبرطة قبلت في المرحلة الثانية من الحروب بعد عشر سنوات بأن يسند إليها شرف قيادة القوات اليونانية المتحالفة في البر والبحر. وضرب الملك الإسبرطي ليونيداس Leonidas مثلاً رائعاً في دفاعه اليائس عن مضيق ترموبولاي Thermopylae في الشمال مع ثلاثمئة من جنوده. كما تمكن القائد الإسبرطي يوروبيادس Eurybiades من إحراز نصر بحري في معركة سالاميس Salamis بمساعدة القائد الأثيني تمستوكلس Themistokles. وفي سنة 479ق.م حقق الملك الإسبرطي باوسانياس Pausanias نصراً مؤزراً للقوات اليونانية المشتركة على الفرس في معركة بلاتاية Plataea. ومع أنه نجح في تحرير عدد من مدن شرقي بلاد اليونان من قبرص حتى بيزنطة فإنه اضطر إلى العودة إلى إسبرطة، فأتاح بذلك للأثينيين إنشاء حلف مهمته متابعة حرب الفرس، وتطوير قواهم العسكرية لدرجة أدت إلى اعتراف إسبرطة بهيمنة أثينة على البحر مقابل اعترافها بهيمنة إسبرطة على البر.
حرب البلوبونيز
يذكر مؤرخ هذه الحرب ثوقوديدس Thukydides أن خشية إسبرطة من تزايد قوة أثينة البحرية والاقتصادية هي التي دفعتها إلى إعلان الحرب على أثينة متذرعة بأسباب منها حرمان أثينة مدينة ميغارة Megara من التجارة مع إسبرطة التي كانت حليفة لها، ومحالفة أثينة جزيرة كوركورا (كورفو اليوم) Korkura ومحاصرتها مدينة بوتيدايه Potidaea وكانتا مستعمرتين لكورنثة حليفة إسبرطة.
وطوال السنوات العشر الأولى من الحرب كانت نتائج المعارك متكافئة، فكانت إسبرطة تكسب المعارك البرية وتكسب أثينة البحرية منها. ومع أن بعض المعارك اشتعلت خارج بلاد اليونان ولاسيما في صقلية وآسيا الصغرى فإن الحرب لم تنته إلا بعد أن قامت إسبرطة ببناء أسطول بمساعدة الفرس، وحطمت الأسطول الأثيني سنة 405ق.م وحاصرت أثينة براً وبحراً وأكرهتها على القبول بشروط التسليم، وأبرزها الاعتراف بزعامة إسبرطة على بلاد اليونان.
تاريخ إسبرطة المتأخر
لم تكن إسبرطة ـ بحكم عزلتها السابقة ـ قادرة على أن تتبوأ مركز الزعامة في العالم الإغريقي، فكانت تضطر أحياناً إلى الاعتماد على دعم الامبراطورية الفارسية مما أثار النقمة عليها داخل بلاد اليونان وخارجها، وأدت النزاعات والتحالفات الجديدة إلى بروز مدينة طيبة Thebes قوةً عسكريةً تمكنت سنة 371ق.م من كسب ود معظم الناقمين، وهزيمة إسبرطة في موقعة ليوكترا، وأتبعت طيبة نصرها باكتساح البلوبونيز وتحرير الميسينيين أرقاء إسبرطة التي تدهورت مكانتها السياسية والعسكرية منذ ذلك الوقت.
وعندما رغب المقدونيون في توحيد بلاد اليونان لم تشارك إسبرطة في أي جهد عسكري لمواجهة فيليب الثاني المقدوني، كما لم تقبل الدخول في الحلف الكورنثي بزعامة فيليب لمتابعة مقاومة الفرس، وإن التحق عدد من رجالها بالخدمة في جيوش ذلك العصر مرتزقةً، وهو أمر اضطر ما تبقى فيها من سكان ـ نحو 700 رجل مع أسرهم ـ إلى إقامة أسوار تحمي المدينة لأول مرة في تاريخها. وقد حاولت المدينة في عهد كليومينس Kleomenes الثالث (229 – 222ق.م) أن تنهض من كبوتها، ونجحت في استعادة بعض نفوذها في البلوبونيز بعد أن منحت المواطنة ستة آلاف من الهلوت المقيمين فيها. ولكن هذا النفوذ سرعان ما قضت عليه مقدونية وتابعته رومة التي ساءها مساعدة بعض المدن اليونانية أنطيوخوس الثالث ملك سورية عند غزوه أوربة.
وفي القرنين الثاني والثالث الميلاديين استغلت إسبرطة أريحية بعض أباطرة رومة وكرمهم فاستعادت بعض رخائها وتقاليدها في التدريب العسكري، لكنها لم تتمكن من الصمود أمام غزوة الهون بقيادة ألاريك Alaric وتفرق سكانها، ولاسيما بعد الغزو السلافي للمنطقة، وتلاشت المدينة منذ ذلك التاريخ حتى أعيد بناؤها سنة 1834م وتشتهر اليوم منتجاً رئيساً للحمضيات والفواكه والحرير الخام والعسل وزيت الزيتون في بلاد اليونان.
موضوع تاريخي قيم جدا
واصل معنا ولك التحية