تخطى إلى المحتوى

في مِحن العقل العربي ، ابن رشد نموذجاً : 2024.

على إثْر حملة أبي حامد الغزالي على الفلسفة ، والتفكير العقلي بوجهٍ عام ، دخل العقل المسلم في غيبوبة لم تقتصر على المشرق الإسلامي بل امتدت لتشمل المغرب الإسلامي !!! ، وحدث أن تولّى أمر المسلمين من الحكام مَن اغتصب سلطتَه حاجبُه !!!!!!! ، فكان أن قلل من قيمة العلماء والعلم ، حتى صدر الأمر بمحاصرة قصر الخليفة وإحراق كل ما فيه من كتب الفلسفة والمنطق والفلك ، فطرحت هذه الكتب في ساحات قرطبة وإحرقتْ أو ألقيتْ في الآبار !!!! وما كان منها في غير هذه الفروع بيِعَ بأبخس الأثمان .
وتورد كتب التاريخ أن الحاجب المنصور فعل ذلك " استمالة لرجال الدين ، وإرضاءً للشعب بعد اغتصابه المُلك من الخليفة هشام ، وليبدو بهذا الفعل المُدافِع عن الشريعة " .
ومر زمن إلى أن جاء ابن رشد فسعى للانتصاف للفلسفة والفلاسفة ، فكتب " تهافت التهافت " ليبين ضعف حجج الغزالي في " تهافت الفلاسفة " وليبين التوافق بين الفلسفة والدين ، فأشار الرجل " بالاستدلال بالقرآن على وجوب النظر العقلي " ، ومتى صح هذا وجب الانتفاع بتراث اليونان ، وعلينا السعي للتوفيق بين حرفية النص وتراث العقل القديم ، وذلك بتأويل ظاهر النصوص حال تعارضت مع دليل العقل ، حتى خرجت القاعدة " تقديم المصلحة على ظاهر النص حال تعارضا " .
كتب ابن رشد لهذا المقصد كتابيه " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " و " الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد أهل الملة ".
اعتمد ابن رشد في كتابيه هذين الدعوة إلى بيان أن للآيات ظاهراً وباطناً ، ولا يجب على العلماء الوقوف عند الظاهر حتى لا يُظَن وجود تعارض بين الدين والعقل ، مع التأكيد على ضرورة قصر التأويل على " الخاصة " ، وأما العامة فالخير لهم أن يقفوا على ظاهر النص ، من حيث إن التأويل يضرهم .
لكن أمر الصفاء لم يدم لابن رشد ، حيث جاء الخليفة المنصور بعد أبيه يوسف الذي توفي العام 580هـ ، واحتمل ابنَ رشد قليلاً ثم بدأ يقلب له ظهر المجن !!! ، فجمع نفراً من " فقهاء البلاط " وعرض عليهم كُتبَ ابن رشد … " لما قُرئتْ فلسفة ابن رشد بالمجلس ، وتُدُولت أغراضها ومعانيها ، وقواعدها ومبانيها ، خرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج ، وربما ذيلها مكر الطالبين ، فلم يكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام ، ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء ، وغمد السيف التماس جميل العزاء ، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين ، وتعريف الملأ بأن ابن رشد مرقَ من الدين ، وأنه استوجب لعنة الضالين . وأضيفَ إليه القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي في هذا الازدحام ، ولُفّ معه في فريق هذا الملام ، ثم أُمر أبو الوليد ( = ابن رشد ) بسكنى أليسانة ( بقرب قرطبة ، وسكانها من اليهود ) لقول من قال إنه ( ابن رشد ) ينسب في بني إسرائيل وإنه لا يعرف له نسبةٌ في قبائل الأندلس ".
قام القاضي أبو عبد الله بن مروان بدور " المدعي العام " فرفع الدعوى على ابن رشد ، وعرّف الحاضرين الاتهامَ الخطيبُ أبو علي بن حجاج ، ولم يدافع ابن رشد عن نفسه ، ونُفي ابن رشد ، ثم نشر الخليفة في الأندلس منشوراً كتبه كاتبُه أبو عبد الله بن عياش يدعو لتحريم الفلسفة وإعدام كتبها واضطهاد رجالها وتحذير الناس من شرها .
نُكبَ مع ابن رشد أبو جعفر الذهبي ، والقاضي عبد الله بن إبراهيم الأصولي ، وأبو الربيع الكفيف ، وأبو العباس الشاعر .

يقول ابن رشد إن أعظم ما آلمه في محنته أنه دخل ، مع ابنه ، مسجداً في قرطبة وقد حانت صلاة العصر ، فثار بعض سِفْلةِ العامة وأخرجوهما من المسجد .
ويُرجع باحثون ثقات سبب هذه المحنة إلى تعصب الموحدين ، حكام المغرب الإسلامي وقتها ، وكانوا متصلين بمدرسة الغزالي اتصالاً مباشراً ، فالمهدي ، مؤسس دولة الموحدين في إفريقية ، كان يتتلمذ على أبي حامد الغزالي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.