التوحيد : شرح العقيدة السفارينية
لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
رحمه الله
الباب الأول
________________________
32- أول واجب على العبيد معرفة الإله بالتسديد
33- بأنه واحد لا نظير له ولا شبه ولا وزير
_________________
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( الباب الأول ) والذي مضى من هذه العقيد ( المقدمة ) .
قال : ( الباب الأول : في معرفة الله عز وجل ) معرفة الله سبحانه وتعالى نوعان : معرفة ذاته بالوجود ، ومعرفة صفاته كذلك ، ومعرفة ذاته في الكنه والحقيقة ، ومعرفة صفاته كذلك ،يعني نقول : هي قسمان : معرفة وجود ومعاني ومعرفة كنه وحقيقة.
أما معرفة الوجود والمعاني فهذا هو المطلوب منا ، وأما معرفة الكنه والحقيقة فهذا غير مطلوب منا ، فلا أحد يعرف حقيقة ذات الله سبحانه وتعالى ولا حقيقة صفاته ، والوصول إلى ذلك مستحيل فمستحيل أن تعرف الله عز وجل في حقيقة ذاته .
فالإنسان تعرف حقيقة ذاته ، فهو لحم ودم وعظم وباقي مكونات الجسم ، لكن الرب عز وجل لا تعرف عنه هذا ، وصفات الإنسان كذلك تعرف حقيقتها وكنهها التي هي عليه ، فتعرف وجه الإنسان ؛ وتعرف العين ؛ وتعرف القدم ؛ وتعرف اليد ؛ وتعرف الأصابع لكن صفات الله عز وجل لا تصل إلى حقيقتها وكنهها والمطلوب إذا معرفة الذات بالوجود ومعرفة الصفات بالمعاني ، أما معرفة الكنه والحقيقة فهذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل
فصار قول المؤلف رحمه الله في معرفة الله لا بد فيه من هذا التسديد .
أول واجب على العبيد معرفة الإله بالتسديد
فأول واجب على الإنسان أن يعرف الله ، والمراد أول واجب لذاته ، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله . فالعلماء رحمهم الله قالوا : أول ما يجب على الإنسان أن ينظر ، فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة ، فيكون النظر أول واجب لغيره ، والمعرفة أول واجب لذاته .
وقال بعض أهل العلم : إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته ؛ لان معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة والإنسان مجبول عليها ، ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين ، ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر ويفكر . قالوا ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( كل مولود يولد على الفطرة ) ، ولقول الله تعالى في الحديث القدسي : (( إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ) ، فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على فطرة سليمة .
فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة ، ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله ، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله ، وحينئذ تكون عبادته لله ، وإذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين هما الفطرة والبيئة ، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام : (( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) .
إذا معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل ، ولهذا نجد عوام المسلمين الآن ما فكروا ونظروا وقرءوا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله ، بل عرفوه بمقتضى الفطرة ، ولا شك أن للبيئة تأثيرا لكنهم ما نظروا ، بل إن بعض الناس – نسأل الله العافية – إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون ، هلك المتنطعون ) .
فالصحيح إذاً ما قاله المؤلف رحمه الله أن أول واجب معرفة الله ، وأما النظر فلا نقول أنه واجب ، لكن لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر ، مثل لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف ويحتاج إلى تقوية فحينئذ لابد أن ينظر ، ولهذا قال الله تعالى أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)(الأعراف: الآية 185) ، وقال (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ )(المؤمنون: الآية 68) ، وقال : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ )(صّ: الآية 29) .
فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفا حينئذ يجب أن ينظر ولكن لا ينظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات ؛ لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك ، ويورد عليه الشيطان من الإشكالات والإيرادات ما يقف معها حيران لكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة ، فمثلا إذا نظر إلى الشمس – هذا المخلوق العظيم الكبير الوهاج – فلا يقل : من الذي خلقه ؟ خلقه الله . فمن خلق الله ؟ فهذا لا ينبغي ، بل يقول : خلقه الله ويقف ؛ لان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله ؟ لنقطع التسلسل ، لأنك لو قلت من خلق الله ؟ وقلت مثلا : خلقه شيء ما ، سيقول لك الشيطان : فمن خلق هذا الشيء ؟ ثم تتسلسل إلى ما لا نهاية له ، وتضيع في البحر الذي لا ساحل له .
فالحاصل أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا عند الضرورة كالدواء ، فإذا ضعف إيمانه أو رأى من نفسه ضعفا فلينظر ، وإلا فمعرفة الله مركزة في الفطر .
قال المؤلف رحمه الله : ( معرفة الإله بالتسديد ) أي بالصواب ، لكن ما هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل ؟ الطريق : قلنا بالفطرة قبل كل شيء ، فالإنسان مفطور على معرفة ربه وأن له خالقا ، وإن كان لا يهتدي إلى معرفة صفات الخالق عل التفصيل ، لكن يعرف أن له خالقا كاملا من كل وجه .
ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله عز وجل الأمور العقلية ، فإن العقل يهتدي إلى معرفة الله إذا كان القلب سليما من الشبهات ، فينظر إلى ما في الناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم ، وعلى رحمة المنعم ، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم ، ولولا رحمته ما وجدت النعم .
وينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله ؛ لأن الله يقول : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ )(فاطر: الآية 45) وصدق الله لو أن الله واخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة لأن أكثر الناس على الكفر فلو أراد الله أن يؤاخذهم بأعمالهم ما ترك ما على ظهرها من دابة .
وننظر في السموات والأرض فنستدل به على عظمة الله وقدرته ؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق ، وهكذا.
ونستدل أيضاً إلى معرفة الله تعالى بإجابة الدعاء ، فالإنسان يدعو فيستجيب الله دعاءه ، فنعرف بهذا وجود الله ،وقدرة الله ، ورحمة الله ، وصدق الله عز وجل ، قال تعالى : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(غافر: الآية 60) إلى غير ذلك مما تستلزمه إجابة الدعاء .
ومن الطرق التي يستدل به الإنسان على معرفة الله الواقع ، فأخذ الله سبحانه وتعالى للكافرين بالنكبات والهزائم تدل على أن الله شديد العقاب وانه من المجرمين منتقم ، ونصر الله لأوليائه يدل على انه عز وجل ينصر من شاء من العباد ، وانه قادر على ذلك ولو كثر خصومهم .
ثم إن المراد بالمعرفة ما يترتب عليها من التصديق والقبول للأوامر والإذعان لها ، وأما مجرد المعرفة بدون أن يركن الإنسان إليها ويقول بمقتضاها فإنها لا فائدة منها ؛ لأنه حتى الكفار يعرفون الله.
ثم قال المؤلف رحمه الله : ( بأنه واحد ) بأنه : أي الله عز وجل واحد ، واحد في ذاته وصفاته وأحكامه الكونية والشرعية ، فهو واحد في ذاته لا نظير له ولا شبه ولا وزير ، وواحد أيضاً في ربوبيته فلا أحد يتصرف معه ، ولا أحد يملك معه ، ولا أحد يعينه ، بل لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه لكمال سلطانه.
وكذلك هو واحد في ألوهيته فلا يعبد إلا هو عز وجل ، ولا يتأله إلا إليه ، ويجب أن يصرف الإنسان حبه وتعظيمه كله لله عز وجل ، فلا يحب إلا ما يحبه الله ، ولا يرضى إلا بما يرضي الله ، ويكره ما كرهه الله ، ويبغض ما أبغضه الله، حتى يكون قلبه كله وإرادته لله عز وجل ، فيوحد الله في القصد والعبادة .
كذلك واحد واد في صفاته ، فليس له نظير في صفاته ، لا الصفات المعنوية لا الصفات الخبرية ، لا الذاتية اللازمة ولا الفعلية المتعلقة بمشيئته عز وجل .
قوله : ( بأنه واحد لا نظير له ولا شبه )النظير : يعني المماثل والمشابه ، وعليه فقوله : ( ولا شبه ) من باب عطف المتماثلين أو المترادفين ، كقول الشاعر :
فألفى قولها كذبا ومينا …………………..
فالكذب والمين معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ ، وكذلك النظير والشبه معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ ، وهذا من باب التوكيد اللفظي .
وقوله : ( ولا شبه ) سبق أن الأولى أن يعبر بقوله : ( لا مثل ) للوجوه الثلاثة السابقة . فالله تعالى لا نظير له في ذاته ولا شبه له في ذاته ، وكذلك لا شبيه ه في صفاته سبحانه وتعالى وفي أفعاله ، قال تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية 11) .
وقوله : ( ولا وزير ) الوزير: أي المعين ، ومنه قوله تعالى عن موسى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (طـه:29)) ، وهي مأخوذة من المؤازرة وهي المعاونة . فالله سبحانه وتعالى ليس له أحد يعينه لأنه قادر على كل شيء ، قال تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82) ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سـبأ:22)(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ )(طـه: الآية 109) ، فهم لا يملكون مثال ذرة في السموات ولا في الأرض على سبيل الاستقلال ، وما لهم فيهما من شرك على سبيل المشاركة ، والفرق بين الاستقلال والمشاركة واضح . فمثلا هذا لي أنا مستقل به ، وهذا بيني وبينك أنا شريك فيه . فهم لا يملكون شيئا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل المشاركة مع الله عز وجل ، و (وَمَا لَهُ) أي ما لله (مِنْهُمْ) من هؤلاء المدعوين (مِنْ ظَهِيرٍ) أي معين ، فهم لا يعاونون الله بشيء .
ثم مع ذلك لا تستطيع هذه الآلهة أن تشفع (لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ) ، وبنفي هذه الأمور الأربعة تنقطع الأسباب التي يتعلق بها المشركون ، لأن غاية ما يتعلقون به أنهم يقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، فقط الله كل سبب .
فإن قال قائل : أليس هناك ملائكة موكلون بحفظ أعمال بني آدم ، وملائكة موكلون بالقطر ، وملائكة موكلون بالنبات ، والملائكة موكلون بالحفظ العام لبني آدم ؟
فالجواب : بلى هذا موجود ، لكن لم يوكلهم الله تعالى استعانة بهم ، بل وكلهم الله بذلك ليبين عظمته وكمال سلطانه ، كما أن الملك في الدنيا – ولله المثل الأعلى -له من يتولى شئون ملكته ، لكن الملوك في الدنيا يفعلون ذلك لقصورهم وعدم إحاطتهم ، أما الله عز وجل فلا ، إنما فعل ذلك سبحانه وتعالى ليظهر عظمة ملكه وسلطانه ، وأنه المدبر سبحانه وتعالى ، وان له جنودا لا يستعين بهم ولكن يمتثلون بأمره ويكلفهم عز وجل بما شاء ، قال تعالى : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر: الآية 31) ، ولكن ليسوا جنودا يعينونه كجنود الملوك في الدنيا ، بل جنود تظهر بهم عظمته وكمال سلطانه.