تخطى إلى المحتوى

الموالاة حسب العقيدة السلفية 2024.

الموالاة: معناها ومظاهرها
الشيخ أبو مريم محمد الجريتلي
إنَّ الحمد لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدْي هدْيُ محمَّد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدْعة، وكل بدْعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فلقد رأيتُ لأهل العلْم كلامًا كثيرًا في باب الموَالاة بين مُقلٍّ ومكثرٍ، ومُجملٍ ومفصِّلٍ، وكلٌّ له الفضْل والسبق؛ فكتبتُ لنفسي كلمات في هذا الباب أشْبه بالملخَّص للدِّراسة، فأشار عليَّ مَن رآه من أهلِ العلم أن أرَتِّبه وأعرضه على طلَبة العلم في حلق الدراسة، فلقي قبولاً – ولله الحمد والمنَّة – فسطرته في هذه المقالة؛ راجيًا من الله أن تعمَّ الفائدةُ، فيعظم الأجر، والله المستعان، وعليه التكلان.

تعريف المُوَالاة:
يقول ابنُ تيميَّة – رحمه الله -: "‏(‏الولاية)‏ ضد العَداوة، وأصل الولاية المحبَّة والقُرب، وأصل العداوة البغض والبعد، وقد قيل‏:‏ إنَّ الولي سُمِّي وليًّا من موالاته للطاعات؛ أي: متابعته لها، والأول أصَحُّ، والولِيُّ: القريب، فيقال‏:‏ هذا يلي هذا؛ أي: يقرب منه‏،‏ ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم -:‏ ‏((ألحقوا الفرائض بأهلِها، فما أبقت الفرائض فَلأَوْلَى رجلٍ ذَكَر))[1]؛ أي: لأقرب رجل إلى الميت‏، فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه – كان المعادي لوليه مُعاديًا له؛ كما قال الله تعالى‏:‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}[2]، فمَن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومَن عاداه فقد حارَبَهُ، فلهذا قال‏:‏ ((ومَن عادى لي وليًّا، فقد بارَزَنِي بالمُحَاربة))[3]‏.‏

صوَر الموالاة ومظاهرها:
تدور الموالاة حول ثلاثة أصول:
1- الحب والمودَّة:
قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[4].

يقول ابن تيميَّة – رحمه الله -: "ونظائر هذا في غير موضعٍ من القرآن، يأمُر – سبحانه – بِمُوالاة المؤمنين حقًّا، الذين هم حِزْب الله وجُنده، ويُخبر أنَّ هؤلاء لا يُوالون الكفُّار، ولا يوادونهم"[5].

يقول ابن رجب – رحمه الله -: "فأولياءُ الله تجب مُوالاتهم، وتحرم معاداتهم، كما أنَّ أعداءه تجب مُعاداتهم، وتحرم موالاتهم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[6]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[7]، [8].

2- النصرة:
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[9]، وقال سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}[10].

وعن جبير بن مطعم – رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ليس منَّا مَن دعا إلى عصبيَّة، وليس منَّا مَن قاتَلَ على عصبيَّة، وليس منَّا مَن مات على عصبيَّة))[11].

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَن خَرَج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهليَّة، ومَن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبيَّة، أو يدعو إلى عصبيَّة، أو ينصر عصبية فقُتل، قُتل قتلة جاهلية))[12].

3- الاتِّباع:
قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [13]

والأحاديث في النهي عن مُتابعة أهل الكتاب مُتَواتِرة:
فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لتتبعُنَّ سنن مَن كان قبلكم، شبرًا بشِبْر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه))، قُلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَن؟))[14]، وفي الحديث: ((مَن تَشَبَّه بقوْمٍ فهو منهم))[15].

يقول ابن تيميَّة – رحمه الله -: "فالمشابَهة والمُشارَكة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة"[16].

ويقول – رحمه الله -: "إنَّ المُشَابَهة في الظاهر تورِّث نوعَ مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابَهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة"، فإذا كانت المشابَهة في أمور دنيويَّة تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإنَّ إفضاءَها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تُنافي الإيمان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}[17]، وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[18]، فبَيَّنَ – سبحانه وتعالى – أنَّ الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأنَّ عدم اللازم يقتَضِي عدم الملزوم.

وقال – سبحانه -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[19]، فأخبر – سبحانه – أنَّه لا يوجد مؤمن يوَادّ كافرًا، فمَن وادَّ الكفَّار فليس بمؤمن"[20].

وقال ابن حزم: "صحَّ أنَّ قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[21]، إنَّما هو على ظاهره بأنه كافر في جُملة الكفَّار، وهذا حقٌّ لا يختلف فيه اثنان من المسلمين"[22].

يقول ابن كثير: "وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [23]؛ أي: شك، وريب، ونفاق، {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ}؛ أي: يُبادرون إلى مُوالاتهم ومَودتهم في الباطن والظاهر[24].

ومِن مَظاهر المُوالاة الممنوعة:
مظاهرة الكافرين، وإعانتهم، والتجَسُّس على المسلمين، وإفشاء أخبارهم وأسرارهم، وكشْف عوراتهم لأعداء الدِّين، والفرَح لِمُصاب المسلمين، والحزن لنصرهم، وتمنِّي هزيمتهم، والسعي لذلك بالقلَم والمال والنفْس، والدعوة إلى خلْع رابطة الولاء الدِّيني، وجعل الولاء على أُسُس عرقيَّة؛ مثل: الوطنيَّة، والقوميَّة، والفرعونيَّة.

قال الشيخ الشِّنقيطي – رحمه الله -: "ومن هدْي القرآن للتي هي أقوم: هدْيه إلى أنَّ الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن يُنادى بالارتباط بها دون غيرها – إنما هي دينُ الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي، كأنه جسَد واحد، إذا اشتكى منه عُضو، تداعَى له سائرُ الجسَد بالسهَر والحُمَّى"[25].

ومن مظاهر الولاء:
الدعوة إلى زمالة الأديان، ورفْع شِعار: "الدِّين لله، والوَطَن للجميع"؛ ليذوب معنى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[26]، و((المسلم أخو المسلم))، ومن ذلك: التجمُّع تحت أحزاب وكيانات تشترط أن يكون الاجتماع لا على أساس الدين؛ كالماسونية، ونوادي الروتاري والليُونز، أو أحزاب سياسية تفصل الدِّين عن السياسة، كالعلمانية، وشعارهم: "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة".

ومن ذلك:
دعوى تقديم الواجب الوَطَني على الواجب الدِّيني، فإذا تعارَض عندهم الدِّين والوطنية، قدم ما فيه مصلحة للوطن – في ظنِّهم – حتى لو كان فيه مُحاداة لله ورسوله، ومُحاربة لدِينه وأوليائِه.

ومن ذلك:
"كسر حاجز الولاء والبَرَاء بين المسلم والكافر، وبين السُّنِّي والبِدعي، وهو ما يُسَمَّى في التركيب المولد باسم: (الحاجز النفسي)، فيُكسر تحت شعارات مضَلِّلة: (التسامُح)، و(تأليف القُلُوب)، (نبذ الشذُوذ والتَّطَرُّف)، و(التَّعَصُّب)، و(الإنسانيَّة)، ونحوها من الألفاظ ذات البَريق، والتي حقيقتها: (مؤامرات تخريبية)، تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتمَيِّز وعلى الإسلام"[27].

ومِن ذلك:
تَوْلِية الكُفَّار ما فيه سلطان على المسلمين، وتنصيبهم أمراء وقادة ومستشارين وبطانة من دون المؤمنين، واللهيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[28]، يقول ابن القَيِّم – رحمه الله -: "ولَمَّا كانت التوْلية شقيقةَ الولاية، كانت توليتهم نوعًا من تَوْليهم، وقد حكم الله – تعالى – بأن مَن تَوَلاَّهم فإنَّه منهم، ولا يتم الإيمانُ إلاَّ بالبَرَاءة منهم، والولاية تُنافِي البَرَاءة، فلا تجتمع البَرَاءة والولاية أبدًا، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكُفر أبدًا، والولاية صلة فلا تجامِع مُعاداة الكافرين أبدًا"[29].

ومن ذلك:
طرْح الاعتزاز بآداب الإسلام وأخلاقياته، والاعتزاز بكلِّ ما يُتلقى عن الغرب الصليبي – وإن خالَفَ الإسلام – باسم المدَنيَّة، والتقدُّم، أو الحضارة والرَّقي، أو باسم الموضة أو الفن أو تحت أيِّ مسمَّى، وازدراء من تَمَسك بآداب الإسلام وهدْيه، ورَمْيه بالتَّخَلُّف والرَّجْعِيَّة.

ومن ذلك:
الاحتفال بأعياد المُشركين وتسميتها أعيادًا؛ كعيد الحُب، وعيد شَمّ النسيم، وعيد رأس السَّنة الميلاديَّة، ومُشاركة المُشركين في ذلك، والفرَح بها أكثر منَ الفَرَح بأعياد المسلمين، وربما رفع بعضُهم شعارات عليها فينوس، ويقولون: (فينوس إله الحبِّ)، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.

وقال أبو العالية، وطاوس، وابن سيرين، والضَّحَّاك، والربيع بن أنس، وغيرهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}[30]، قالوا: هي أعياد المشركين"[31].

وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "لا تعَلَّمُوا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم"[32].

ومن ذلك:
حب الهجرة إليهم، والاعتزاز بالتجنس بجنسيتهم، والافتخار بذلك، وفي الحديث: ((لا تُساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم؛ فمن ساكنهم أو جامعهم، فليس منَّا))[33].

ومن ذلك:
السخرية من اللغة العربية لُغة القرآن، ومحبة لغة الأعاجم، والتحَدُّث بها، والافتخار بذلك، وتقديم مَن يجيدها وإن كان عدوًّا لله ورسوله.

دعاوى أهل النِّفاق في مُوالاة أعداء الدِّين:
1- يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة:
ما حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[34]، يقول ابن كثير – رحمه الله -: "قال ابن إسحاق: وحَدَّثَني أبي، عن عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، قال: لما حاربتْ بنو قينقاع رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – تشبث بأمرهم عبدالله بن أبي، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبدالله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفَّار وولايتهم.

قال: وفيه وفي عبدالله بن أبي نزلتِ الآيات من المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[35]؛ يعني: عبدالله بن أبي إلى قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[36]؛ يعني: عُبادة بن الصامت"[37].

2- يُسارعون فيهم يبتغون عندهم العزة:
كما قال الله عنهم في مُحكم التنزيل: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[38].

يقول الشيخ ناصر السعدي – رحمه الله -:
{بَشِّرِ المُنَافِقِينَ}؛ أي: الذين أظهَرُوا الإسلام، وأبطنوا الكُفرَ، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار، وموالاتهم، ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك؟

{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ}: وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين؛ ساء ظنُّهم بالله، وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عما وراء ذلك، فاتَّخذوا الكافرين أولياء، يتعزَّزون بهم ويستنصرون.

والحال أنَّ العزَّة لله جميعًا، فإنَّ نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم، وقد تكفَّل بنَصْر دينه وعباده المؤمنين، ولو تَخَلل ذلك بعض الامتحان لعبادِه المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستَمرَّة، فإنَّ العاقبة والاستقرار للمؤمنين.

وفي هذه الآية الترهيب العظيم من مُوَالاة الكافرين، وترْك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأنَّ الإيمان يقتَضي محبَّة المؤمنين وموالاتهم، وبُغْض الكافرين وعداوتهم"[39].

3- يريدون عرَض الحياة الدنيا:
كما قال الله تعالى عنهم: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[40].

يقول ابن كثير – رحمه الله -: "يُخبِر – تعالى – عنِ المنافقين أنهم يتَرَبَّصون بالمؤمنين دوائر السوء؛ بمعنى: ينتظرون زوال دولتهم، وظهور الكُفر عليهم، وذهاب ملتهم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ}؛ أي: نَصْر وتأييد وظفر وغنيمة، {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}؛ أي: يتودَّدُون إلى المؤمنين بهذه المقالة، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ}؛ أي: إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد، فإنَّ الرسُل تبتلى ثم يكون لها العاقبة"[41].

4- يحسدون أهل الإيمان على ما آتاهم الله من فضله:
كما قال – سبحانه -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[42].

يقول ابن كثير – رحمه الله -: "يقول – تبارك وتعالى – ناهيًا عباده المؤمنين عن اتِّخاذ المنافقين بطانة؛ أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً؛ أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكلِّ مُمكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم.

ثم قال تعالى: {قَدِ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر}؛ أي: قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.

قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}[43]، وذلك أشدُّ الغيظ والحنق، قال الله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[44]؛ أي: مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أنَّ الله متِمٌّ نعمته على عبادِه المؤمنين، ومكملٌ دينه، ومعلنٌ كلمته، ومظهرٌ دينه، فموتوا أنتم بغيظكم؛ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}؛ أي: هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنُّه سرائركم من البغضاء والحسد والغلّ للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تؤمِّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها"[45].

ونصيحة لكل مسلم يسير إلى الله يبتغي الحق ويسأل الله العون:
لا ترغب عن سبيل المؤمنين؛ كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[46]، وقال – سبحانه -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[47].

يقول ابن كثير – رحمه الله -: {نَوَلِّه مَا تَوَلَّى}؛ أي: إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره، ونزيّنها له؛ استدراجًا له، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}[48]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[49]، وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[50]، وجعل النار مصيره في الآخرة؛ لأنَّ مَن خرج عن الهدى لَم يَكُن له طريق إلاَّ إلى النار يوم القيامة"[51].

فلا ترغب عن سبيل المؤمنين، ولا تقتفِ سُبُل المجرمين من الكفَّار والمنافقين، واعلم أنه ما من سبيل منها إلا وعليه شيطان يدعو إليه ويزينه لأهله.

فإن وفقك الله لسبيل المؤمنين فإياك والتفرُّقَ فيه، واسمع لقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[52].

وعليك بالنُّصح لكل مسلم؛ فـ((الدين النصيحة))، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن جرير بن عبدالله البجلي قال: بايعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم –على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنُّصح لكل مسلم[53].

وفي رواية: ((أبايعك على أن تعبُد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين))[54].

فالنصيحةُ للمسلمين هو مُقتضى ترْك التفرُّق في السبيل، وهو هديُ أهل السنَّة وسَمْتهم.

يقول ابن تيميَّة – رحمه الله -: "ثُمَّ مِن طريقة أهْلِ السُّنَّة والجماعة اتِّباع آثار الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – باطنًا وظاهرًا…. إلى أن يقول – رحمه الله -: ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتَقِدون معنى قوله – صلى الله عليه وسلم –: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشُد بعضه بعضًا)). [55]

وقوله: ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهَر"[56]، [57].
جَعَلَنَا اللهُ وإياكم مِمَّن لا يُفارقون السبيل، ولا يَتَفَرَّقون فيه، اللهم آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.