من اللافت للنظر ، في تطور الحضارة الإسلامية ، أن المشكلة النظرية ذات الصلة بموقف الدين من العلم لم تؤثر كثيراً في المماراسات الفعلية للعلم بين المسلمين ؛ فقد كانت الآراء تتعدد ، وربما تتقاطع / تتعارض على المستوى التنظيري ، ما يعني أنه قد كان هناك احتمالٌ ما بعدم قبول العقيدة الدينية الإسلامية ، بحسب بعض التفسيرات لها ، للعلم ، إلا أن هذا لم يمنع العلمَ ، والعلماءَ ، من مواصلة العمل والاستمرار في رصد النتائج وإحراز التقدم إثر التقدم .
ولم تكن الحضارة الإسلامية بدعةً في ذلك ؛ فقد حدث نفس الأمر في الحضارة الـ مسيحية ، حيث نعلم " قدْر " معارضة الكنيسة للتيار العلمي ، ومع ذلك لم تمنع هذه المعارضةُ العلمَ أن يتقدم وينجز نجاحاتٍ لولاها لما تنعّمْنا بالمنجزات العلمية المعاصرة .
في صدر الإسلام قامت إشكالية فلسفية دينية في آن ، وهي العلم والإيمان ، وقد تعرض لها علماء الكلام بالبحث العقلي ، فانتهى المعتزلة إلى ضرورة الاعتراف بأن للطبيعة قوانينَ ثابتةً تخضع للحتمية الدقيقة التي تسيّر الأحداث الطبيعية … بل والاجتماعية ، وكان الطريف من العقل المعتزلي أنه ميّز بين علتين ليوفق بين مقتضيات الإيمان الديني والعلم ، وليقطع الطريق على من يرى في ذلك حداً للقدرة الإلهية : هناك علة أولى ، وهناك علة ثانية ، فالله ، تعالى ، هو العلة الأولى ( = العلة البعيدة ) للأشياء كلها ، والظواهر الطبيعية والاجتماعية علة ثانية ( = العلة القريبة ) وهي تدخل تحت الأطر العامة للخَلْق الإلهي ، وأعلن المعتزلة أن " البحث في الظواهر الطبيعية ، والاجتماعية ، بحسب مفردات العلم ، ومناهجه ، ليس خروجاً عن المقصد الإلهي ، بل هو تحقيقٌ له " .
وعلى الطرف الآخر ، وقفَ الأشاعرة ، وأهل السنة ، موقفَ النقيض من موقف المعتزلة ، فقد رفضوا القول بـ " طبائع ثابتة " للأشياء ، وأكدوا على ضرورة تبنّي مبدأ " التدخل الإلهي " ليس في الخلق الأول فقط ، بل ، أيضاً ، في المجرى التفصيلي لأحداث العالم الطبيعية والاجتماعية ، ما انعكس ، برأي البعض ، بالسلب على " استقلالية " العلم والعالِم .
وقد أثّرتْ هذه المواقفُ على البحث العلمي " الإسلامي " المعاصر .
يُتْبع …
و انا انتظر البقية
الشكر غير المحدود لمروركم الكريم ، وبإذن الله ، تعالى ، نكمل البقية بعون من الله ومنّةٍ .
|
(2) :
إشكالية العلاقة بين " الدين " و " العلم " لها جذورها الضاربة في تاريخنا القديم ، ما يعني أنها تمثل جزءاً من " تراثنا " شئنا أم أبينا ، لكن اللافت للنظر أن هذه العلاقة ، ذات التأثير والتأثر ، لم تكن تمثل ، بشكل كبير ، وفي حضارتنا القديمة ، عبئاً " مجتمعياً " على مفكرينا في تلك الفترة ، لكنها تظهر ، وبقوة ، في أيامنا هذه نظراً لوجود " مياه " جديدة جرَتْ في النهر المعرفي للمثقف العربي والمسلم :
• في العصر الإسلامي المتقدم ، لم يجد العالِم الإسلامي مشكلةً أن يأخذ بالوافد العلمي متمثلاً ذلك ، بالأساس ، في الحضارة اليوناينة . بينما في وقتنا الراهن تقوم غير إشكالية بوجه الأخذ بعلوم الغرب ، لعل من أبرز هذه الإشكاليات أن العلم اليوناني الذي وفد على الحضارة الإسلامية كان يمثل حضارة " ذاهبة " ، ما يعني أن المسلمين ، وقتها ، وجدوا أن هذا الوافد لا يمثل " تهديداً " بوجه من الوجوه !!! ، بينما الحضارة الوافدة على عالمنا الإسلامي المعاصر حضارة " حية " ذات إنجازات متغلغلة في حيوات المرء : مسلماً كان أم غير مسلم ، ما يعني وجود " خطر " ولو صغير ، يهدد " القيم " و " التصورات " ، إذ الحضارة لا يستطيع المرء الفصل فيها بين شقيها المادي والقيمي ، حتى لو قدر المستقبِل هذا الفصل ، لم ترضَ الحضارة الوافدة هذا الفصل ، وهي إذ تصر على ضرورة الأخذ بها " ككل " تقيم هذا الإصرار على مبدأ اجتماعي " المغلوب مغرم بتقليد الغالب " .
• لم تثر الحضارة اليونانية إشكالية تكنولوجية تعطي الإنسان السيادة ، بحسب المفهوم الميتافيزيقي ، على الكون بما فيه ومن فيه !!! بينما أقامت الحضارة المعاصرة هذه الإشكالية بشكل ضاغط ، وذلك باعتبار أن الحضارة اليونانية كانت ، في أساسها ، حضارة " استنباط " ، بينما الحضارة المعاصرة حضارة " استقراء " مهّدَتْ لأن تتحقق قالة رينيه ديكارت " الإنسان سيدُ الطبيعة ومالكُها " … ما يعين على استفزاز العقل المسلم ليقفَ بمواجهة أسئلة حول مقام الإنسان وعلاقته بالكون وبالله تعالى .
• كانت الحضارة اليونانية حضارة " وثنية " ، ما سهّلَ على العقل المسلم رفضَها ، أو جزءاً منها ، بكثير من الرضا ، بينما الحضارة المعاصرة لها أساس ، بشكل ما ، ديني ذي أصول لا تتقاطع ، بشكل كلي ، مع الأصول الإسلامية … وهذا أوجد أكثر من موقف متعارض بشأن القبول أو الرفض ، وقام الاعتراض ، في مبدأه الأول ، على أساس أن هذه الحضارة " مادية " ، مع أن اللفظ غير قاطع ؛ فهو قابل للنقاش ، ثم إن الحضارة المعاصرة أنتجت قيماً ، وسلوكياتٍ ، سلبية ذات تأثيرات ضارة بشكل لافت ، ما أهَّلَ العقلَ المسلم لأن يقيم رفضَه قبولَ هذه الحضارة بناء على ضرورة الحفاظ على " أصالة " الأخلاق الإسلامية بعيداً عن السعي وراء تقدم علمي يقوم متغاضياً عن الاعتبارت الإنسانية .
• لم " تحتل " الحضارة اليوناينة الأراضي الإسلامية ، بينما قام أهل الحضارة المعاصرة باحتلال العالم الإسلامي … وربما بدون استثناء ، ومن ثم عملوا على تأخر المسلمين ، فضلاً عن كثير من الجرائم التي واكبت هذا الاستعمار ، ما أوجد تياراً " وطنياً " ينادي بالنفور من " كل " هذه الحضارة ، ثم تأسيس علم إسلامي يتقاطع مع هذا العلم الذي أوجد هذه الحضارة.
يتبع
ويمكن لنا أن نبيّن العلاقة الأساس بين الديني والعلمي في الإسلام بحسب الآتي :
• الإسلام وحي الله تعالى إلى نبيه ، وخاتم رسله ، محمد صلى الله عليه وسلم . والقرآن الكريم هو كلمة الله تعالى الحرْفية التي لا تغييرَ ، ولا تبديلَ ، فيها بحال . وقد اعتمد هذا الوضعَ فريقٌ من المسلمين . وفي أوقات انحسار المد الحضاري الإسلامي ، لكن ليأخذوا موقف " المتعصب " ضد أي تطور يأتي به العلم ، حيث ستتم مواجهته لا بالنص الديني ، بل بتفسير مفسر لهذا النص ، لكن الظرف التاريخي السلبي يجعل المتلقي يقبل أن يسحب قداسةَ النص على المفسر !!! ما يعني أن يحل التفسير ، شيئاً فشيئاً ، محل النص ، وهذا مفصل معرفي جد خطير ؛ فالنص معصوم ، ومفسره ليس كذلك !!! ، والنص مطلق ، ومفسره ليس كذلك . ومن ثم تقوم خصومة بين العلمي والديني بسبب الخلط بين نص ديني ( = أولي ) ونص مفسر ( = ثانوي ) ويصبح للمفسر ما للنص نفسه تحليلاً وتحريماً ، وبمد الخط على استقامته ترتفع دعوى للفصل بين الديني والعلمي .
وما نأخذه على مفكرينا في كتيبة التنوير ، أنهم كثيراً ما يدعوننا إلى الاحتذاء بـ " الغرب " في علاقته بالدين ؛ فهناك دعوة لمماثلة قبول العقل الغربي أشكالاً مختلفة لعلاقة الله بالعالم : مثل صورة الإله الذي يحكم العالم بالرياضيات ( = مهندس العالَم عند رينيه ديكارت ) !!! ، ومثل صورة صانع الساعة ، الذي لا يخطيء ، لساعة كبيرة تظل تؤدي عملها بكفاءة وثبوت ( = الكون عند ليبنتس ) !!! ثم إن فريقاً منا ينادي أن كبار مفكري الغرب المتدينين يقبلون ، بسهولة ، الفكرة القائلة إن عناصر كثيرة من الأفكار الدينية ينبغي أن تتغير نتيجة للمعرفة الجديدة التي جاء بها العلم للعالم .
وقد فات هؤلاء أن الإسلام غير ملزَم أن يقفو أثر غيره إذ هو متبوع لا تابع تأسيساً على أنه لا نص لدى دين غير الإسلام فيه " أكملت لكم دينكم " … لذا ليس علينا بأس أن نرفض القول " إن كبار مفكري الغرب المتدينين يقبلون بسهولة الفكرة القائلة بأن عناصر كثيرة من الأفكار الدينية ينبغي أن تتغير نتيجة للمعرفة الجديدة التي جلبها العلم والتكنولوجيا ، لكن مثل هذه الأفكار مرفوضة ، من حيث المبدأ ، في معظم الأوساط الدينية الإسلامية " .
• في الحضارة الإسلامية لا يقوم فصل بين الديني والدنيوي . لكن البعض من مفكرينا يرى الكمال في الطريقة التي بها قَبِلَ الغربُ التوفيقَ بين العلم والدين ، حيث انتهت جهود الأوروبيين إلى الفصل بينهما ، فيصبح لكّلٍّ مجاله الذي لا يجوز تعديه بحال ، وقد رفعوا بوجهنا مقولة إسحاق نيوتن " لا يتدخل الوحي الديني في العلم ، ولا تتناول آراء العلم الدين " … ولعل هذه الصيغة أن تكون صالحة في مجتمع رضي بـ " الازدواجية " في كل شؤونه بدءاً من شؤون " الأسرة " وليس انتهاءً بشؤون " الدولة " ، لكن في مجتمعنا الإسلامي لا يقوم ، أوْ لا يجب أن يقوم ، تضاد بين " المعتقد " و " الممارسة " ، لكن ما نأخذه على كثير من فصائل العمل الإسلامي أنها لتقرر هذا " التوحد " لجوءَها إلى القول بأن العلم ، ونتائجه ، إنما هو متضمن في الدين … وليس عيباً أن ننقد من يقلل من قيمة العلم الغربي ، العملي تحديداً ، حيث يكون الواحد منهم رافضاً لهذا المنتج على المستوى النظري ، بينما هو غارق فيه على المستوى العملي استخداماً حياتياً لكل منجزات العلم الغربي .
• الإشكالية هي مدى مشروعية الدور السياسي للخطاب العقدي ، أو ما خطورة تشظي هذا الخطاب المهم بين الدين والسياسة ، أو بين القرآن والسلطان ؟ وفي هذه الجزئية فإن هناك من يشدد على مقارفة الديني للسياسي والسياسي للديني وتماهيهما معاً ، بحيث يكمن الخطر في القسمة بينهما على الدين نفسه ، تأسيساً على أن العقل الإسلامي ينفر ، بطبيعته ، من تلك القسمة المزعومة بين ما هو ديني وما هو سياسي ، لأن التلازم بين الديني والسياسي هو من الأمور المفروغ منها في العقلية الإسلامية ، استناداً على عمومية ، وشمولية ، التكاليف الشرعية في الإسلام لمناشط الحياة الإنسانية كلها ، لكن هناك من يرى أن إشكالية الخطاب الديني / السياسي بدأت تطل على المجتمع الإسلامي بداية من العهد الأموي ، وربما من أحداث الفتنة الكبرى ، ثم العهد العباسي . فهذا الفريق الأخير يرى أنه ببدايات العهد الأموي خدمت العقيدةُ السياسةَ ، فهناك طرفان يتحدثان عن العقيدة : معاوية يتحدث عنها باعتبارها أحد طرفي معادلة عصبية العقيدة / السياسة ، وأبو ذر الغفاري ، رضي الله عنه ، يتحدث عنها باعتبارها أحد طرفي معادلة إنسانية العقيدة / الوعي . ونفس المنحى يلاحظه الدارس لمقولة أبي جعفر المنصور " إني سلطان الله في أرضه وحارسه على ماله ، جعلني عليكم قفلاً ، إن شاء أن يفتحني لإعطائكم ، وإن شاء يقفلني " ما مهد لتحول كبير انتهى بخضوع الجميع للسلطة السياسية .
نقول هذا ونحن نعلم وجود " عبء " مجتمعي معرفي في آن على مفكرينا القدماء ، بدليل تصديرهم كل مؤلفاتهم لدراسة تبين علاقة الدين بالفلسفة تحت عنوان " التوفيق بيم الدين والفلسفة " .
انتهى .
ﻟﻄﺎﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺍﺿﻴﻌﻚ ﻣﺘﻤﻴﺰﺓ
ﻻ ﻋﺪﻣﻨﺎ ﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ﻭ ﺭﻭﻋﺔ ﺍﻻﺧﺘﻴﺎﺭ
ﺩﻣﺖ ﻟﻨﺎ ﻭﺩﺍﻡ ﺗﺎﻟﻘﻚ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ