تخطى إلى المحتوى

عندما يكون السؤال بدعة 2024.

من صيد الفوائد
عندما تمنع عقولنا من الولوج في تناول بعض القضايا الغيبية كمحاولة إدراك صفات الإله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن ذلك بسبب إن العقل يستحيل عليه إدراك حقيقة تلك الصفات الإلهية، فكان خوض العقل في هذا الباب خوض في الباطل ولن تكون هناك نتائج صحيحة دقيقة. وهذا ينسحب على كثير من القضايا التي تناولها الشارع ولم يدرك العقل الحكمة من تلك العبادة، فالعقل قد لا يدرك لماذا صلاة الظهر أربع ركعات ولم تكن اثنتين مثلاً. فلمحدودية عقل الإنسان وصيانة للشرع من التخرص والقول بلا علم يمنع العقل من الخوض في مسائل الغيبيات التي لم يرد فيها نص من الشارع.

وإن كانت إدراكات العقل لاتصل على ما دل عليه النقل إلا إن المؤمن مطالب بالإيمان والتصديق والتسليم بما دل عليه الدليل الصحيح؛ وإن لم يدرك كنهه وحقيقته، فإذا صح الخبر وسلم من المعارض فالعقل يسلم بذلك؛ لأنه يعرف أن هناك حدوداً وقدرات لا يمكن للعقل تجاوزها، فهناك وجوداً آخراً لم يره ولا يمكن تصوره لأنه ليس هناك مثيل له يمكن من خلاله عمل مقارنة.

ولهذا كان السلف ينهون عن السؤال عن كيفية صفات الله تعالى روى الخلال بإسناده عن سفيان بن عيينة . قال : سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" كيف استوى . قال : "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق".
وهذا الكلام مروي عن " مالك بن أنس " تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه .فقد جاء عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حين سُئل عن قوله تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " [طه: 5]. فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ، ثم رفع رأسه وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"

وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :" رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى " فهذا سؤال عن الكيفية. والحقيقة أنه لا تصادم بين الآية وبين ما قرره السلف. فمقصود السلف هو عن كيفية صفات الله تعالى، وإبراهيم عليه السلام سأل عن فعل الله تعالى في إحياء الموتى أولاً. ثانياً هو سأل الله تعالى بذلك ولم يسأل مخلوقاً مثله. فالله تعالى يعلم كيفية صفاته وأفعاله، وأما المخلوقين فلا يعلمون حقيقة كيفية صفات الله تعالى فهيئتهم البشرية وقدراتهم العقلية لا تمكنهم الإحاطة ذلك. فنهي السلف أن يسأل مخلوق مخلوقاً مثله. إذ يتعذر على السائل والمسؤول الإحاطة بذلك فهنا جاء النهي لأن الخوض في ذلك لا فائدة منه؛ فلن يصل إلى نتيجة صحيحة وإنما إلى تخرصات وأوهام لا حقيقة لها.

والتفكير ليس مقيداً ولا يمكن تقييد التفكير بأي حال فالإنسان بطبيعته يتأمل ويفكر ويسأل؛ ولكن المحظور هو التعمق في قضايا يستحيل على العقل أن يخرج فيها بجواب صحيح. فلو سأل سائل مثلاً عن يد الله تعالى كيف هي؟ ويمكن أن يخطر على العقل هذا السؤال وقد يسبب له نوعاً من القلق والاضطراب، فهل يمكن أن يحصل على جواب لهذا السؤال يبين له كيفية يد الله تعالى؟ الجواب: لا. ولا يمكن أبداً كما قرره الله تعالى ذلك في خطابه لموسى عليه السلام بقوله تعالى :" قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي" فهنا نقول لن تعلم حقيقة صفات الله تعالى ومنها اليد. لأن ما يكون في ذهنك من تصور ليد الله تعالى فهو قطعاً خلاف ذلك. إذن الحل: أن نقف عن هذا التساؤل لأن ليس له جواباً في الدنيا. ونسلم الأمر لله تعالى ونؤمن بأن لله تعالى صفات تليق بذاته يعجز العقل عن إدراكها. فالسؤال ينهى عنه لأنه ليس هناك نقل يبين لك كيفية ذلك، وهؤلاء الذين تسألهم لم يروا الله فيخبروك بما روا؛ بل هم بشر مثلك لا يمكنهم الإحاطة بذلك. لذلك لا يسأل هذا السؤال وما شابهه ويكون السؤال في هذه الحالة بدعة.

وجعل السؤال بدعة لأنه لم يرد عن السلف أنهم كانوا يسألون هذه الأسئلة، على أن الدواعي موجودة فالعقل موجود والإنسان بطبعه يتأمل ويفكر ويسأل، فكون الصحابة لم يسألوا ولم يخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام ابتداءً مع وجود الدواعي على ذلك كان ترك السؤال هو السنة والسؤال بدعة. وترك السؤال في هذا الباب يدل على رجاحة العقل وحسن التصور فالله يتعالى عن الإدراك :" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" [الأنعام : 103] ويتعالى عن الإحاطة :" وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً" [طه : 110] فصار السؤال عن الكيفية هو من العبث وعدم التعظيم لله تعالى ومن تخبط الشيطان ببني آدم. وترك السؤال هو من باب تعظيم الله تعالى.

رحم الله الإمام مالك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.