ومعلوم أن الحاكم أو القاضي المسلم إذا خالف في قضية معينة فإن فعله يكون من الظلم المستوجب للذم والعقوبة، لكنه لا يكفر به ما لم يستحل ما فعل، وينكر حكم الله تعالى في تلك الواقعة المعينة. أهل السنة مجمعون على ذلك، ولم يخالف فيه إلا الخوارج .
وأما التشريع من دون الله تعالى وتبديل أحكامه والإلزام بالقوانين الوضعية فهو كفر لذاته، لا يشترط فيه الاستحلال، بل يكون الكفر به مترتباً على مجرد فعله عن علم وبينة بأن ذلك الفعل مخالف لحكم الله تعالى .
وذلك أن التشريع مما يختص به الله تعالى، فمن شرع من دونه، أو ألزم الناس بغير شرعه فقد نازع الله تعالى فيما يختص به، ومن رضي بذلك ولو لم يفعله فقد نقض توحيده وإيمانه بالله تعالى. فكما أن الله تعالى هو المتفرد بالربوبية والخلق فهو كذلك المتفرد بالأمر والتشريع كما قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف/54] والأمر إذا أطلـق فقد يراد به الأمر الكوني كما في قوله تعالى: {إِنَّمَاأَمْرُهُ إِذَاأَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس / 82]. وقد يراد به الأمر الشرعي كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا …} [السجدة / 24]. فيكون الأمر الشرعي مما يختص به الله تعالى كالأمر الكوني ولا فرق .
ولهذا عد الله المشرعين من دونه شركاء فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَالَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [ الشورى/ 21] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍمِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام / 137] .
وسمى الله الأحبار والرهبان أرباباً لما شرعوا من دون الله فأطاعهم الأتباع في ذلك، وعد ذلك عبادة لهم من دون الله فقال تعالى: {اتَّخَذُواْأَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَاأُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّإِلَـهَ إِلاَّهُوَسُبْحَانَهُ عَمَّايُشْرِكُونَ} [التوبة / 31] .
والكفر بالتشريع وتحكيم القوانين لا يقيد بمجرد اعتقاد كونها أفضل من الشريعة أو مساوية لها، أو اعتقاد جواز التحاكم إليها كما يقوله المرجئة، وإنما هو كفر لذاته ، للتعارض الضروري التام بين
تنحيه الأحكام الشرعية والالتزام بالقوانين الوضعية المخالفة لها فقد ناقض الأصل الذي لأجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب .
إن الحالة الأولى تعتبر رفضاً للشريعة ونقضها لمبدأ الالتزام بالدين وخروجاً من الملة .
وأما الحالة الثانية فلا تعدو أن تكون معصية كأي معصية، لا تنقض أصل الدين، ولا تكون كفراً لذاتها، لأن المعاصي مع أنه خالف الالتزام الواجب، لكنه مع ذلك ملتزم بالشريعة، مستسلم لحكم الله، معتقد أنه قد ارتكب ذنباً. وهذا مالا يمكن بحال أن يتحقق فيمن بدل دين الله، ورفض شريعته، وشرع من دون الله .
ويستمسك الذين لا يفرقون بين الحالتين، فلا يكفرون بالتشريع وتحكيم القوانين بأقوال للسلف، وردت في حكم من حكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة، وأن القاضي والحاكم الذي تحقق منه ذلك لا يكفر إلا بشرط الاستحلال .
وكلام السلف هنا صحيح، لكن فهم المرجئة المعاصرين قاصر عن إدراك حقيقته ومناطه .
ومن ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44] أنه قال (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه). وقال (كفر دون كفر).
لكن ابن عباس رضي الله عنه لم يكن يقصد بذلك من نحى الشريعة وتحاكم إلى القوانين الوضعية، لأنه لم يكن في عصره من فعل ذلك. وإنما يقصد الحاكم المسلم الملتزم بالحكم بشريعة الله، لكنه قد يجوز فيحكم بغير العدل في مسألة أو مسائل معينة، فهذا لا يكفر إلا إذا استحل ما فعل .
وما قاله ابن عباس رضي الله عنه حق، لكنه إنما ينطبق على الحكم بغير ما نأن
أنزل الله في قضايا معينة، دون أن يصل الأمر إلى حد التشريع من دون الله وتبديل أحكام الله تعالى .
وفي بيان مراد ابن عباس رضي الله عنه بذلك، ومتى يكون الحكم بغير الله ما أنزل الله من الكفر الأصغر يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قد شمل ذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: (كفر دون كفر) وقوله أيضاً: (ليس الكفر الذي تذهبون إليه). وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى .
يقول ابن ابراهيم في رسالة تحكيم القوانين
وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى، أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها كفراً) ([1]).
ومثله ما ورد عن أبي مجلز أنه جاءه أناس من الخوارج الإباضية فقالوا له: أرأيت قول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَاأَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة /44]، أحق هو ؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة /45]، أحق هو ؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة / 47]، أحق هو: قال: نعم. فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون. فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً. فقالوا: لا والله، ولكنك تعرف. قال: أنتم أولى بهذا مني، لا أرى وأنكم ترون هذا ولا تخروجون..) ([2]) .
وفي رواية أخرى لابن جرير أنه قال لهم: (أنتم أحق بذلك منا، أما نحن فلا نعرف ما تعرفون ولكنكم تعرفونه، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم) ([3])
وإذن فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام. ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالأحكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا الفعل إعراض عن حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة – على اختلافهم – في تكفير القائل به والداعي إليه .
بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زمانا، ولعلل وأسباب انقضت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز والنفر من الأباضية من بني عمرو بن سدوس) ([4]).
ويقول الشيخ أحمد شاكر في ذلك أيضاً: (إن كلام ابن عباس وأبي مجلز وغيره حق لا مراء فيه، وهو لا ينطبق على واقعنا .. وهما لم يردا أبداً فيمن رد الأمر إلى شريعة غير شريعة الله عند التنازع ..) ([5]) .
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (الذي قيل فيه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاده أنه عاص، وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، وأما الذي جعل قوانين
([1]) (تحكيم القوانين) ص(7)
بترتيب وتخضع فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل) ([1]) .
وبهذا يعلم أن من اشترط الاستحلال في كفر بدل أحكام الشريعة لا متمسك له بما ورد عن بعض السلف في تفسير الآيات من أن المراد بها كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق .
ومع أن قول أولئك السلف صحيح في ذاته على ما قالوه، لكنه على الصحيح ليس هو المعنى المقصود أصلاً بالآيات، بل سياقها يدل
على أن المراد بالكفر والظلم والفسق فيها الكفر الأكبر والظلم الأكبر والفسق الأكبر .
والذي يقطع في الدلالة على ذلك ما صح في سبب نزول الآيات. فقد ورى الإمام مسلم وغيره عن البراء بن عازب قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً، فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، لكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم. فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَيَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة / 41]، إلى قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} [المائدة / 41] يقول: ائتوا محمداً، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44]. الآيات كلها في الكفار ([2]) .
فاجتماع اليهود على تشريع حكم في حد الزنى، مخالفة حكم الله في ذلك، وجعله في مقام الإلزام، وتبديل دين الله، هو سبب كونهم من المسارعين في الكفر، وليس المراد في ذلك قطعاً الكفر الأصغر، كما أنه لا اشتراط للاستحلال هنا، بل مناط الكفر هو ما فعلوه من
التشريع وتبديل حكم الله.
وقد جاء الحكم عاماً بكفر اليهود وكفر من فعل فعلهم في قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44] الآيات. فالآيات وإن نزلت بسبب ما فعله اليهود من التشريع إلا أنها حكم عام ينطبق على كل من شرع من دون الله وبدل أحكامه ([3]).
وقد ورد في سبب نزول آيات المائدة روايات أخرى، ومن ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك كان سبب ما كان بين بني قريظة وبني النضير، حين اتفقوا على أنه إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قتل به، وفي روايات فديته مائة وسق، وإذا قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة ودي بمائة وسق من تمر، وفيرواية خمسون وسقاً. لأن بني النضير قد قهرت بني قريظة، فاصطلحوا على ذلك. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وذلت الطائفتين للنبي صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة، فطلبوه ليقتلوه، وفي روايـة أنهم طلبوا ديته مائة وسق. فأبت بنو النضير، وتحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآيات ([4]) .
وسواء كان سبب نزول الآيات هو ما ذكره البراء بن عازب رضي الله عنه، أو كان ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، أو كانت كلتاهما سبباً لنزول الآيات – كما يقول الإمام ابن كثير رحمه – فإن العلة التي هي مناط الكفر في الآيات هي التشريع من دون الله تعالى. إما بتشريع الجلد والتحميم مكان الرجم كما في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه، وإما بتشريع الدية بين الطائفتين بما يخالف حكم الله عندهم كما في رواية ابن عباس رضي الله عنهما. فكان ما فعلوه على كل حال والتزموا به، وجعلوه شريعة بينهم، وتركهم حكم الله الذي يعلمونه في كتبهم هو سبب حكم الله بكفرهم .
فمن فعل كما فعلوا، فبدل أحكام الله تعالى، وحكم القوانين الوضعية، وألزم الناس بها فحكمه حكمهم، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
فكيف يقال بعد كل هذا إن من فعل فعل اليهود من التشريع من دون الله لا يكفر بمجرد فعله حتى يظهر لنا أنه مستحل، ولا يكون ذلك إلا بنطقه بذلك ؟! .
والذي يبين فساد هذا القول أن الله قد جعل الحكم بغير الشريعة هو مناط الكفر، ولم يذكر الاستحلال والجحود، بل الجحود كفر ولو لم يكن معه تحكيم لغير الشريعة، فالجاحد المستحل كافر، شرع من دون الله أو لم يشرع .
فدل هذا على أن القول بأن المراد في معنى الآية في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة / 44] ومن لم يحكم جاحداً منكراً، تنزيل لحكم الله على غير مناطه الذي هو الأصل في معنى الآية، وهو مجرد التشريع والحكم بغير الشريعة التزاماً بغيرها .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في رد قول من اشترط الجحود والاستحلال في تكفير من شرع من دون الله: (ذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة، وهو أن من لم
يحكم بما أنزل الله منكراً له أو راغباً عنه لاعتقاده بأنه ظلم، مع علمه بأنه حكم الله، أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان. ولعمري إن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد، والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمناً مذعناً لدين الله، يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكماً، ثم هو يغيره باختياره ويستبدل به حكماً آخر بإرادته، إعراضاً عنه وتفضيلاً لغيره عليه، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه .
والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه مخالفاً لحكم الله. ولا يكتفوا بعدم مساندته عليه ومشايعته فيه. فإن لم يقدروا فالدار لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر ) ([5]).
ولزيادة البيان في حكم هذه المسألة، والنص على أن التشريع من دون الله كفر يخرج عن الملة، وأن التشريع والحكم بشريعة غير شريعة الله كفر، والفرق بين هذه المسألة ومسألة الحاكم المسلم الذي يحكم بخلاف الحق في مسألة معينة. ولأجل ذلك كله لابد من استعراض أقوال أئمة أهل السنة في هذه القضية، وخصوصاً الذين كانت كلماتهم وفتاويهم بياناً لحكم ما عاينوه وشهدوه من تحكيم لغير الشريعة في بلاد المسلمين .
ولم يكن ذلك إلا في حالتين. الأولى منهما: يوم غلب التتار على بعض بلاد المسلمين وحكموا فيها ما يسمى الياسق، وهو قانون ملفق من مجموع ديانات منها الإسلام، مع ما رآه جنكيز خان برأيه ووضعه في كتابه ذلك .
والحالة الثانية: هي ما حصل بعد سقوط الخلافة العثمانية من تشتت بلاد المسلمين وخضوعها للحكم العلماني الغربي، ثم نزوح الاستيلاء الغربي المباشر في الظاهر، مع البقاء على القوانين الوضعية المختلفة مصدراً للتحاكم والتقاضي في كثير من بلاد المسلمين .
وهذه هي الحالة التي تعيشها أغلب بلاد المسلمين اليوم، حيث أقصيت الشريعة وترك أمر التحاكم إليها، وإن حكم بها في بعض الشؤون والأحوال الشخصية فعلى أنها مصدر محكوم، لا نفاذ له لذاته ولا اعتبار له إلا بما تسمح به سلطة القانون الوضعي الذي هو الأصل .
ولا عبرة هنا بالالتزام ببعض الشريعة مع كون القوانين الوضعية هي الأصل المتحاكم إليه، لأن أخص خصائص الشريعة أن تكون حاكمة مهيمنة على غيرها، لأنها حكم الله وشرعه، فإذا كانت محكومة بغيرها فقدت خاصيتها التي هي الحكم على غيرها، فلم يكن لها اعتبار حينئذ .
ونعود إلى بيان هذه القضية وبعض كلام أئمة أهل السنة في ذلك زيادة على ما سبق .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة / 50] .
يقول: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، عدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق. وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية
والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
([1]) (مجموع فتاوى الشيخ) (12/280).
([2]) أخرجه مسلم في، كتاب الحدود، (1700). وأبو داود في، كتاب الحدود (4448) .
([3]) وأنظر (فتح الباري) (13/129)
([4]) أخرج إحدى الروايتين أبو داود. كتاب الديات (4494) وكتاب الأقضية (3591). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3772). والنسائي كتاب القسامة (8/18). وأخرج الأخرى أحمد (1/246). وقال أحمد شاكر في تخريجه للمسند رقم (2212) إسناده صحيح. وأخرجها النسائي. كتاب القسامة (8/19) .
([5]) (تفسير المنار) محمد رشيد رضا ص (6/417)
لقد آثرت أن يكون بحثا علميا موثقا
حتى يكون حجة على من يهرف بما لا يعرف
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أرجوا أن تبقى متابعا
فللموضوع بقية إن شاء الله
فلا عزة إلا بالإسلام
وتحكيم شرع الله في الأرض
نسأل الله أن يمكن لعباده المؤمنين الصادقين
ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هي كفر بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام – كائناً من كان – في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه ) ([2]).
وقد أفراد الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمة الله عليه هذه المسألة برسالة مستقلة، فصل فيها القول بما لا مزيد عليه .
وقد افتتح هذه الرسالة بقوله: (إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِذَلِكَ خَيْرٌوَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء / 59] .
ثم تكلم عن اشتراط التحاكم إلى الشريعة في تحقيق الإيمان، وأنه (لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد
أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر) ([3]).
ثم بين أنه: (من الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، وإما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد) ([4]) .
ثم ذكر خمسة أنواع للكفر الاعتقادي المخرج من الملة. أربعة منها تدور على الاستحلال والجحود والإنكار لشريعة الله .
ثم قال فيما يتعلق بالتقنين والتشريع الذي هو مجال الكلام هنا:
(الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع. ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريقاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك .
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم .
فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول
الله بعد هذه المناقضة ) ([5]) .
فهذا النوع الخامس، وهو تحكيم القوانين الوضعية كفر مخرج من الملة، ولو زعم من حصل منه ذلك أنه يعتقد صلاحية الشريعة للحكم، أو زعم أنه يعتقد بطلان القوانين مع حكمه بها، فإنه لا يقبل منه ذلك بل يكون كافراً بمجرد الفعل، إذا علم مخالفتها للإسلام ولم يكن له في ذلك شبهة، والذين أولوا مراد الشيخ بهذا النوع الخامس وزعموا أنه عنده مقيد بالجحود والاستحلال لم يفهموا مراده في أحسن أحوالهم، إذ كلامه هنا واضح في عدم التقييد بذلك، وقد بين رحمه الله في موضع آخر هذه القضية فقال: (لو قال من حكم القانون أنا أعتقد أنه باطل فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل ) ([6]) .
وفيه بيان الحكم في هذه المسألة يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: (إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم إنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم) ([7]) .
وفي نفس المعنى يقول أيضاً: (من هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أن كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية) ([8]) .
ويقول الشيخ عبد الرازق عفيفي رحمه الله في حكم هذه المسألة: (من كان منتسباً للإسلام، عالماً بأحكامه، ثم وضع أحكاماً، وهيأ لهم نظماً، ليعملوا بها، ويتحاكموا إليها، وهو يعلم أنه تخالف أحكام الإسلام فهو كافر خارج من ملة الإسلام .
وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك، ومن أمر الناس بالتحاكم إلى تلك النظم والقوانين، أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام .
وكذا من يتولى الحكم بها، وطبقها في القضايا، ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره ، مع علمه بمخالفتها للإسلام .
فجميع هؤلاء شركاء في الإعراض عن حكم الله، ولكن بعضهم يضع تشريعاً يضاهي به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبينه، وبعضهم بالأمر بتطبيقه أو حمل الأمة على العمل به. أو ولي الحكم به بين الناس، أو نقد الحكم بمقتضاه، وبعضهم بطاعة الولاة، والرضا بما شرعوا لهم ما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطاناً .
فكلهم قد اتبع هواه من الله، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وكانوا شركاء في الزيغ والإلحاد والكفر والطغيان ، ولا ينفعهم عملهم بشرع الله واعتقادهم ما فيه، مع إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه بتشريع من عند أنفسهم، وتطبيقه والتحاكم إليه، كما لم ينفع إبليس عمله بالحق واعتقاده إياه، مع إعراضه عنه وعدم الاستسلام والانقياد إليه) ([9]) .
وفي بيان حكم هذه المسألة يقول الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله: (ونرى فرقاً بين شخص يضع قانوناً يخالف الشريعة ليحكم الناس
به وشخص آخر يحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله، لأن من وضع قانوناً ليسير الناس عليه وهو يعلم مخالفته للشريعة، ولكنه أراد أن يكون الناس عليه فهذا كافر كفراً مخرجاً من الملة، ولكن من حكم في مسألة معينة، يعلم فيها حكم الله، ولكن لهوى في نفسه، فهذا ظالم أو فاسق، وكفره – إن وصف بالكفر – كفر دون كفر) ([10])
وفي ذلك يقول أيضاً: ( من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به أو احتقاراً مخرجاً من الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية، لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق. إذ إن من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه .
ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به ولم يحتقره ولم يعتقد أن غيره أصلح منه لنفسه أو نحو ذلك فهذا ظالم وليس بكافر، وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم .
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ولا احتقاراً، ولا اعتقاداً أن غيره أصلح وأنفع للخلق أو مثله، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوك له أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق وليس بكافر. وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم .
…. وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله، لأن المسائل التي
تعتبر تشريعاً عاماً لا يتأتى فيها التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط. لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام، وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه) ([11]) .
وفي بيان خطورة القول بأن تحكيم القوانين الوضعية ليس كفراً مخرجاً من الملة. وبيان ارتباط ذلك بشبهة المرجئة في هذا الباب يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (وهذا الإرجاء – تأخير العمل عن حقيقة الإيمان – أخطر باب لإكفار الأمة، وتهالكها في الذنوب والمعاصي والآثام، وما يترتب على ذلك من انحسار في مفهوم العبادة، وتمييع التوحيد العملي – توحيد الألوهية – وكان من أسوأ آثاره في عصرنا شرك التشريع ؛ بالخروج على شريعة رب الأرض والسماء بالقوانين الوضعية، فهذه على مقتضى هذا الإرجاء ليست كفراً، ومعلوم أن الحكم بغير ما أنزل الله معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله) ([12]) .
ويقول سيد قطب رحمه الله في نفس القضية: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) بهذا الحسم الصارم الجازم، وبهذا التعميم الذي تحمله (من) الشرطية وجملة الجواب، بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان، وينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله في أي جيل ومن أي قبيل .
والعلة التي أسلفنا، هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله يرفض ألوهية الله، فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية، ومن يحكم بغير ما أنزل الله يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر. وماذا يكون
ص238
الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك ؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان والعمل – وهو أقوى تعبيراً من الكلام – ينطق بالكفر أفصح من اللسان ؟! .
إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة، والتأويل والتـأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه، وليس لهذه المماحكة من قيمة أو أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد) ([13]) .
وبعد كل هذا وما سبق وما سيأتي، فإنه لا يمكن أن يقال إن التشريع من دون الله كفراً، وأن من تعمد أن يشرع ويبدل دين الله لا يكفر بمجرد فعله حتى يكون مستحلاً معتقداً جواز فعله .
([1]) (تفسير ابن كثير) (2/68)
([2]) (عمدة التفسير) الشيخ أحمد شاكر (4/174)
([3]) (تحكيم القوانين) (ص/2)
([4]) المرجع السابق (ص/4) .
([5]) المرجع لسابق (ص / 6)
([6]) ((مجموع فتاوى الشيخ) (6/189) .
([7]) (أضواء البيان) (4/83-84).
([8]) المرجع السابق ( 3/ 439) .
([9]) رسالة : الحكم بغير ما أنزل الله. ملحقة بكتاب : (شبهات حل السنة) للشيخ عبد الرازق عفيفي (ص / 64 – 65).
([10]) لقاء مفتوح رقم (26) ص (32-33) .
([11]) "شرح الأصول الثلاثة" (ص/158-159) .
([12]) "تحريف النصوص" بكر أبو زيد (ص/123) .
([13]) "الظلال" سيد قطب (2/898) .
الله أسأل أن يرزقني وإياك الثبات على التوحيد حتى الممات