وصف الأثاث في رواية "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ
من المعلوم أن الوصف ينصب على أربعة مكونات أساسية، وهي: الأشخاص والأمكنة والأشياء والوسائل. وللوصف وظائف جمالية وسردية وتوضيحية وتفسيرية. ويقوم بتمثيل الموجود مسبقا ومحاكاته من أجل الإيهام بوجوده الحقيقي والمرجعي ( الإيهام بالواقعية). ويهتم الوصف في الرواية الواقعية بتحديد المجال العام الذي تتحرك فيه الشخصيات. وقد قال آلان روب گرييه” لقد كان الوصف يستخدم في تحديد الخطوط العريضة لديكور الرواية، ثم لإيضاح بعض العناصر التي تتميز بشيء من الأهمية وتعبر عن شيء ما ، أما الآن فلا نتحدث إلا عن جمادات وأشياء لاتكشف عن شيء ولا تعبر عن معنى” ، ولا يبقى بعد هذا سوى الطابع الجمالي التزييني.
لقد ركز نجيب محفوظ في روايته بداية ونهاية التي كتبها سنة 1942م على تقنية الوصف الواقعي المتقابل في منظوراته الجدلية والتعبيرية والسردية. فوصف مجموعة من الشخصيات، منها: فريد أفندي محمد(ص11)، وحسين وحسنين(ص5 وص6)، وحسن(ص9)، وأحمد بك يسري (ص12)، والأم (ص12)، ونفيسة(ص14). وكانت ريشة نجيب محفوظ الوصفية تنصب على المعطى الخارجي/الفسيولوجي والبواعث السيكولوجية حيث يختلط الوصف بالسرد في جدلية فنية رائعة.
و إلى جانب هذا ، لم ينس نجيب نحفوظ وصف الوسائل (السيارة ص12)، والأشياء ( الكرسي ص12)، و الأمكنة( المدينة الكبيرة ص14). كما اهتم نجيب محفوظ في روايته الانتقادية للمجتمع المصري إبان ثلاثينيات القرن الماضي بوصف الأشياء على غرار الروائيين الواقعيين أمثال: بلزاك وفلوبير وستندال وإميل زولا…
ففي نهاية رواية (بداية ونهاية) تلتجئ الأم إلى بيع الأثاث الموجود في المنزل بعد وفاة رب الأسرة(علي كامل) لتعيل أولادها وتتكيف مع الأوضاع السوسيواقتصادية المعقدة، لأن الأب- كان- العمود الفقري بالنسبة للطبقات المتوسطة في المجتمع المصري أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر. فبدونه تؤول الأسرة إلى الضياع والفقر والجوع المحتوم. وهكذا قررت الأم بعد دفن الفقيد بيع ممتلكات المنزل من دولاب وملابس المرحوم والمرآة الكبيرة التي توجد في وسط الدار لتوفير نفقات الأسرة ؛لأن معاش زوجها لم يعد يكفي لسد حاجيات أبنائها: حسن وحسين وحسنين ونفيسة.
وللأثاث في الرواية دلالات اجتماعية وطبقية وأبعاد إيديولوجية مفتوحة لأنها تعبير عن فقر الأسرة واضمحلالها الطبقي ونزول من درجة اجتماعية إلى أخرى أدنى منها؛ مما سينعكس على تصرفات الشخصيات الثلاث المحورية في الرواية ألا وهي: حسن وحسنين ونفيسة التي التجأت إلى الثورة والرفض والتمرد عن الأشياء وعجزها عن تحقيق التوازن الطبقي، بينما اختار حسن الصعلكة لتحقيق ذاته بطريقة عبثية وجودية. بيد أن هذه الشخصيات الثلاث كانت مصائرها ذات طابع إشكالي انتهى بها الواقع إلى القلق النفسي والاجتماعي والانتحار و الموت.
ويقارن نجيب محفوظ في هذه الرواية بين نوعين من الطبقات الاجتماعية : الطبقة الدنيا من خلال افتقارها للأشياء والأثاث اللازم والضروري، والطبقة الارستقراطية التي تنعم في الثراء المادي وامتلاك التحف الأثرية والأثاث الذي يتغير من ظرف زمني لآخر حسب الموضات والتطورات التقنية. فأحمد بك يسري يملك عالما فضائيا مؤثثا بالأشياء الثمينة التي تعبر عن التطلعات البورجوازية لهذه الشخصية المتخمة، بينما أسرة المرحوم علي كامل تفتقر إلى أدنى الحاجيات التي بها تتوازن الحياة وتعتدل القيم.
فمن خلال هذا التعارض بين الكماليات التحسينية والحاجيات الضرورية يجب موضعة فلسفة الأثاث في رواية ” بداية ونهاية”.
إليكم المقاطع النصية من الرواية لمعرفة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرتين معا:” لا أدفع مليما واحدا أكثر من الثلاثة الجنيهات” قالها تاجر الأثاث وهو يلقي نظرة على فراش المرحوم، ولم تعد تجدي مساومة الأم. وكانت قد أجمعت على بيع الفراش ولوازمه لما يثير وجوده من الأحزان، ولأنها باتت في مسيس الحاجة إلى نقود، وكانت ترجو له ثمنا أكثر من هذا لعله يسد بعض عوزها الملح إلى النقود؛ ولكنها لم تجد بدا من الإذعان فقالت للتاجر” غلبتنا سامحك الله ولكنني مضطرة للقبول”.
ودفع الرجل إليها بالجنيهات الثلاثة وهو يشهد الله أنه المغلوب، ثم أمر تابعين بحمل الفراش، واجتمعت الأسرة في الصالة تلقي نظرة الوداع على فراش فقيدها المحبوب.”
يصور لنا هذا المقطع على الرغم من مأساويته الفظيعة وبعده الدرامي الاجتماعي فلسفة الأثاث تصويرا عميقا قائما على الرؤية الإنسانية والمشاعر المرهفة التي قوامها الحزن واليأس والضياع الوجودي والواقعي. ويحدد لنا النص أيضا أبعاد الأثاث الذي له بعدان متقاطعان: البعد الاقتصادي يتمثل في حاجة الأم إلى النقود لإعالة الأسرة والتكيف مع مصاعب الحياة ومشاكلها ومشاغلها، وهذا يؤكد مدى الفقر المدقع الذي تعيشه الأسرة وحاجتها الماسة إلى الجنيهات لتدبر أحوالها والظهور بالمظهر اللائق أمام الآخرين، كما نلاحظ أن الأثاث لم يعط فيه التاجر إلا ثمنا زهيدا مما يترتب عنه عدم قيمة وبهوت وظيفته التزيينية ونقص دوره الديكوري والجمالي.
أما البعد الثاني، فهو سيكولوجي حيث يذكر الفراش أفراد الأسرة بالمرحوم، فوجود متاعه- هو بطبيعة الحال- يمثل وجود الأب في شكل ذكريات يذكر الأم ويؤرقها ويشعل فيها نار الحزن والألم. لذا، فبيع الفراش تأشير على النهاية والضياع الأبدي وتأكيد النهاية الميتافيزيقية لوجود الإنسان.
هذا، وإن نجيب محفوظ لما يصور البيت وأثاثه بسبغ عليه مشاعر إنسانية في شكل صور روائية متوترة يتداخل فيها الشيء والإحساس الإنساني عبر علاقات شعورية ولاشعورية ملؤها الصدق والمعاناة البشرية الذاتية والانفعالية الصادقة . وقال السارد يصور أمتعة البيت لما دخل حسين وحسنين إلى بيت المرحوم بعد وفاته بساعات قليلة ليلقيا نظرة أخيرة:
” فتراجعا خطوتين، وتولى حسنين عناد طارئ فتوقف. وشجع به حسين فتوقف كذلك وحال بصرهما بالحجرة فيما يشبه الذهول. وكأنهما كانا يتوقعان تغيرا شاملا لا يدريانه، ولكنهما وجداها كالعهد بها لم تتغير منها شيء، هذا الفراش على يمين الداخل، والصوان في الصدر يليه المشجب، وإلى اليسار الكنبة التي ارتمت عليها الأخت وقد أسند إلى حافتها عود انغرست ريشته بين أوتاره، وثبتت عيناهما على العود في دهشة ممزوجة بالحزن طالما لعبت أنامل الراحل بهذه الأوتار وطالما التف حولها الأصدقاء مطربين يستعيدون ويعيد، فما أعجب مابين الطرب والحزن من خيط رقيق، أرق من هذا الوتر. ثم مر بصرهما الحائر بساعة الراحل على خوان غير بعيد من الفراش، لا تزال تدور باعثة دقاتها الهامسة، ولعل الراحل قرأ فيها آخر تاريخ له في الدنيا وأول عهدهما باليتم. وهذا قميصه على المشجب وقد لاحت آثار عرقه ببنيقته، فرنوا إليها بحنان عميق، وقد بدا لهما في تلك اللحظة أن عرق الإنسان أشد نباتا من حياته العظيمة”
يركز السارد في هذا النص على أثاث الحجرة بطريقة تجمع بين المنحى التشييئي المادي والمنحى النفسي الإنساني، وقد استند إلى الوصف لتشخيص الأمتعة وأنسنتها. ولقد استعمل الكاتب قاموسا يتكون من الأمتعة التالية:
الفراش- الصوان- المشجب- الكنبة- العود- الريشة- الأوتار- الخوان- القميص- البنيقة.
وتجمع هذه الأمتعة بين الألبسة والأدوات المادية للتأثيث داخل حجرة النوم حيث يتداخل البعد الجمالي ( الموسيقى) والإطار المادي للفضاء الحميمي (حجرة النوم). بيد أن هذه الأمتعة سرعان ما تبيعها الأم تحت إكراهات وضغوطات اقتصادية وآثار نفسية اجتماعية:
” وانقضى عام آخر، وواصلت الحياة سيرها لاتلوي على شيء، ومضى كل أفراد من أفراد الأسرة في سبيله لما يلقى من خير وشر. ولو أتيح للأب أن يعود إلى الحياة لأزعجته الدهشة لما طرأ من تغيير على أسرته شمل الرواح والأجساد والصحة ونظرات الأعين، ولكن كان حتما سيعرفهم، سيعرف أن المرأة هي زوجه وأن الأبناء أبناؤه، أما الذي كان ينكره، ولا يعرفه مهما أجد ذاكرته فهو البيت اختفى الأثاث أو كاد، فلم يبق بحجرة الاستقبال بعد بيع سجادتها، واقتصرت غرفة الأم على كنبتين يستعملان نهارا للجلوس وليلا للنوم وخلت الصالة، حجرة السفرة قديما- فبيع البوفيه والمائدة والكراسي، وانتهى بهم الحال إلى تناول طعامهم على صينية مقتعدين الأرض، بل بيع فراش حسن. ولولا الضرورة القصوى لبيع الفراشان الباقيان”.
ونستشف من خلال هذا المقطع السردي والوصفي، أن الأسرة أصابها تغير كبير ليس على مستوى الشخوص فقط ، بل على مستوى الأمتعة والتأثيث. إذ باعت الأسرة معظم الأثاث وغيرت ديكور المنزل، وأصبح التأثيث لا يعبر إلا عن حالة الفقر المدقع والمعاناة الإنسانية القاسية التي يعاني منها أفراد الأسرة.
وإذا انتقلنا في المقابل إلى فيلا أحمد بك يسري سنجد الطابع الكمالي التزييني والثراء الفاحش المبالغ فيه من خلال تأثيث المكان بأمتعة ثمينة جدا ونادرة الوجود. وتعبر فلسفة امتلاك الأشياء كذلك عن التطلعات البورجوازية والرؤية الأرستقراطية لأفراد الأسرة.
دونكم هذا المقطع الذي يصور ذهاب حسين وحسنين إلى فيلا أحمد بك يسري طلبا وساطته قصد البحث عن وظيفة لحسين بعد حصوله على البكالوريا:
“وذهب الشقيقان عصرا إلى شارع طاهر وقصدا مقابلته كما أوصتهما أمهما فغاب البواب دقائق ثم جاء ليدعوهما إلى حجرة الاستقبال. ودخلا يسيران في ممشى الحديقة الوسط وهما ينظران إلى شتى الأزهار التي كست الأرض بألوان بهيجة بدهشة، ثم صعدا إلى السلاملك، ثم إلى بهو الاستقبال الكبير، واتخذا مجلسهما بارتباك على كثب من الباب بالموضع الذي اختارته أمهما قبل ذلك بعامين. وجرى بصرهما سريعا على البساط الغزير الذي يغطي أرض الحجرة الواسعة، والمقاعد الكثيرة الأنيقة، والطنافس والوسائد والستائر التي تنهض على الجدران كالعمالقة، والنجفة المتدلية في هالة لألأة من سقف عال انتشرت بجوانبه المصابيح الكهربائية وأشار حسنين إلى النجفة وقال بسذاجة:
– مثل نجفة سيدنا الحسين؟”.
يصور لنا هذا المقطع الوصفي نموذجا آخر من الأثاث الذي يتسم بالفخامة والطول والجمال وتناسق الألوان وعلو فضائه وديكوره الرائع فضلا عن نفاسة مواده وغلاء ثمنه. إن هذا الأثاث – إذاً- يصور مكانا فاخرا لطبقة اجتماعية بعيدة عن طبقة حسن وحسين بعد الشمس عن الأرض. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى التفاوت الطبقي والاجتماعي في مصر إبان الثلاثينيات.
وخلاصة الأمر: إن وصف الأمكنة لايمكن أن يتم بدقة ولايمكن بالتالي أن نحيط به من كل جوانبه إلا إذا ربطنا المكان بأمتعته وفضائه المؤثث. إن فراغ المكان يعبر عن الفقر المدقع والجدب الفضائي وكثرة الأحزان ومأساوية الرؤية التي من سماتها القلق والرفض والقنوط والتمرد عن الواقع الطبقي. أما المكان المؤثث بأروع الأمتعة وأفخمها ديكورا وقيمة فإنه يعبر عن بداية الحياة وانتعاش السعادة و الاهتمام بالثراء الدنيوي التجميلي ناهيك عن طموحات أرستقراطية قوامها حب التملك و”التسلطن” واستغلال النفوذ.
وعليه، فالأثاث وأمتعة المكان عبارة عن علامات أيقونية ودوال سيميولوجية، تعبر عن أوضاع اجتماعية واقتصادية وحالات سيكولوجية ورؤى فلسفية وواقعية. لذا ، على الروائي أو القاص أن يشتغل على الأثاث وأن يوظفه قدر المستطاع، وأن يكثر من وصفه بدقة وإسهاب حسب السياق النصي والذهني والجنسي وأن تكون له رؤية للعالم من خلال تأثيثه للأمكنة بطريقة فلسفية عميقة وخاصة به.
الهوامش:
– آلان روب گرييه: نحو رواية جديدة، ترجمة: مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف، مصر، دون سنة للطبع، ص:130؛- نجيب محفوظ: بداية ونهاية، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون تاريخ للطبعة، ص:32؛
– نجيب محفوظ: بداية ونهاية، ص:8؛
– المصدر السابق، ص: 117؛
– نفس الرواية، ص:122؛