تخطى إلى المحتوى

واقع البحث العلمي في العلوم الانسانية 2024.

يسود اعتقاد ساذج في أوساط مؤسسية وفي أوساط العامة على السواء بأن النقص في العلوم الأساسية أحد أهم أسباب تخلف العرب الراهن. وبأن العلوم الأساسية المنقذ لنا مما نحن عليه. وترتب على اعتقاد كهذا الاهتمام الزائد بهذه العلوم تدريساً في المدارس والجامعات، مع إهمال للعلوم الإنسانية.
وهذا بدوره أفقد العلوم الإنسانية هيبتها والمكانة اللائقة بها في المجتمع. ناهيك عن أن هناك سياسة غير معلنة في الوطن العربي للتضييق على البحث في واقع الإنسان ومصيره.
كيف لا وهذه العلوم تجعل من المجتمع والسلطة والأيديولوجيا والحرية والتاريخ والاعتقاد موضوعاً لها، وتمارس الشغب الضروري لفهم العالم وتغييره.
في واقع كهذا راح المجتمع يفتقر شيئاً فشيئاً إلى مهندسي الفكر وصانعي الثقافة . ببساطة لقد فقد المجتمع عقله أو كاد.

ما العلوم الإنسانية ؟ إنها ببساطة التي تجعل من الإنسان في كل أشكال وجوده الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتاريخية موضوعاً لها. إن الأمر وهو كذلك يجعل من واقع الإنسان ومستقبله في السابق هدف دراسة العلوم الإنسانية وأبحاثها.
وببساطة شديدة هناك سؤالان لا تنفك العلوم الإنسانية عن البحث عن إجابات عنهما : لماذا الواقع على هذا النحو ؟ وكيف يمكن تجاوز الواقع؟ ولهذا فالعلوم الإنسانية تسعى للفهم أساساً للتغيير.
ولما كانت فكرة التغيير توقع الفاجعة على من أدمنوا الاستنقاع في واقعهم، فإن أفضل وسيلة للخلاص من وقع هذه الفكرة هي خلق الشروط التي تحول دون البحث في الواقع وحرمان العلوم الإنسانية من وظيفتها. دعوني الآن أبدأ بالعام لأنتهي إلى الخاص.
البحث الآن – أي عملية البحث – هو عمل مؤسساتي لا يستطيع أن يقوم به أحد بمفرده إلا ببذل جهد فذ.
والمؤسسة البحثية – كما نعلم – تتكون من كادر، شروط عمل حر، رأسمال تقنية اتصالات حديثة، ثم فضلاً عن ذلك إقامة علاقة بين مؤسسات البحث ومراكز اتخاذ القرار، وأقصد بمراكز اتخاذ القرار كل هيئة معقود عليها حل مسائل ذات علاقة بمشكلات المجتمع ككل. وتحتاج إلى تدخل العلوم الإنسانية لحل هذه المسائل.
وكل المجتمعات البشرية الآن لا تستطيع أن تواجه مشكلاتها دون المعرفة والعلم. يفضي قولنا هذا إلى قضية على غاية كبيرة من الأهمية ألا وهي أن البحث العلمي والبحث العلمي في العلوم الإنسانية هو جزء لا يتجزأ من سياسة الدولة لمواجهة المشكلات التي تسعى لحلها. ودون هذه السياسة تظل نتائج البحث مجردة لا قيمة واقعية لها، لأنها تظل دون استخدام. والمؤسسة البحثية اليوم تتعين في ثلاثة مواقع أساسية : الجامعة، مراكز البحث المملوكة من الدولة وتابعة لها، ومراكز البحث المستقلة التي تمولها شركات رأسمالية خاصة، وغالباً ما تكون المراكز البحثية بأشكالها الثلاثة متخصصة بهذا الصعيد أو ذاك من صعد الحياة الإنسانية.
مراكز البحث المتخصصة بالعلاقات الدولية أو المتخصصة بمشكلات اجتماعية كالبطالة والفقر أو بمشكلات سياسية، إلخ إلخ..
هذا العرض العام والمجرد لمراكز البحث التي تنهض بها العلوم الإنسانية يفضي إلى تحديد الأهداف التي تنحصر كما قلنا في فهم الظاهرة وإيجاد الحلول الممكنة للمشكلات التي يعالجها. الآن ما هو واقع البحث في العلوم الإنسانية في الوطن العربي.
إن الصورة لواقع البحث هذا صورة كارثية جداً وما خلا الجهود الفردية التي يبذلها محبو المعرفة فإن الوطن يكاد يكون خلواً من البحث العلمي للعلوم الإنسانية.
فالجامعة التي من المفترض أن تكون المكان الأهم في ممارسة العلوم الإنسانية بحوثها غائبة غياباً شبه كلي. فليس في الجامعات أية مراكز بحوث عامة أو متخصصة في المشكلات الإنسانية وبالتالي فالمركز يقوم على جهود فردية ليس إلا. فهل يعقل أن لا تكون الجامعات مصدرا مهما من مصادر إنتاج المعرفة الإنسانية بالمشكلات الكثيرة التي يعج بها وطننا.
في الجامعات هناك ميزانية للبحث العلمي ولكنها شحيحة إلى الحد الذي لا تفي بما يسمى بمهام البحث العلمي في الخارج التي تحولت إلى وسيلة لتوفير الأساتذة لبعض المال وهم فئة تعاني من العوز المادي. إذن المؤسسة التي يجب أن تنهض بالبحث الاجتماعي الإنساني لا تمارس مهمتها الخاصة بها، وهذا ما يحرم الوطن من الاستفادة من الكادر الأكاديمي الذي لا شغل له بالأساس إلا بالبحث العلمي.
والوطن يكاد يخلو تماماً من مراكز الأبحاث المتعلقة بالمجتمع بكل صوره المعيشية والسياسية والثقافية. ثم إن دور النشر التي هي مؤسسات ربحية في الغالب ليست هي المكان الأنسب للبحث. هذا إذا عرفنا أن نشر الكتاب يخضع لمراقبة شديدة من وزارة الإعلام، والكتب ذات الصلة بمسائل سياسية والدين والمجتمع تخضع للمراقبة.
إن غياب البحث العلمي للعلوم الإنسانية له نتائج كارثية هائلة على الدولة والمجتمع على حد سواء سأبرز هذا الأمر من خلال مثالين ساطعين. يشهد الوطن العربي عموماً انتشار الظاهرة الأصولية وهي قد أخذت في بعض الأحيان طابعاً عنيفاً – إرهابياً داخل الوطن.
الأصولية ظاهرة سياسية اجتماعية ثقافية يجب أن تتضافر علوم إنسانية كثيرة لمعرفة أسبابها واتجاهاتها ومصيرها وسبل التعامل معها، كعلم النفس والسوسيولوجيا وعلم التاريخ وعم السياسة والفلسفة. لقد جرى التعامل مع ظاهر الظاهرة وليس مع الظاهرة في شروط انتاجها، والتعامل مع ظاهر الظاهرة – الواقعة – يعني القضاء على شكلها الخارجي والإبقاء على شروط انتاجها الداخلية. تماماً كالطبيب الذي يعالج ارتفاع درجة حرارة المريض دون النظر إلى أسباب ارتفاع حرارته. حين تتحول الظاهرة هذه إلى موضوع علم الاجتماع، فإنه يسأل ما الشروط الاجتماعية – المعيشية الطبقية التي أنتجت هذه الظاهرة. هل هي الفقر أم البطالة أم انسداد آفاق الفئات الوسطى إلخ…
لكن علم الاجتماع هنا يدرسها دراسة ميدانية إحصائية ليستخلص النتائج النظرية. وعلم السياسة يسأل: هل الأصولية ظاهرة سياسية صرفة؟ ما هي الشروط السياسية التي اتخذتها؟ ويسأل علم النفس : هل الأصولية ظاهرة ناشئة عن شعور بالإحباط والنكوص لفئات اجتماعية محددة؟
وبدوره يدرس علم التاريخ الظاهرة في تاريخها، وهنا تأتي الفلسفة لتستفيد من كل نتائج هذه العلوم لتقدم تحليلها النظري العام. كم ستساهم العلوم الإنسانية إذا جعلت من هذه الظاهرة موضوع بحث في فهم الظاهرة وتجاوزها. والحق أن نتائج البحوث في العلوم الإنسانية هي احتمالية لكنها ترصد الحزمة الأكبر من الاحتمالات لتزود مراكز القرار بالأنجح والأصلح. من ذا الذي يستطيع اليوم أن يتخذ قرارات تمس حياة المواطن دون معرفة نتائجها الاجتماعية، ودون قياس اتجاهات الرأي العام ؟ وهذا يقوم به علم الاجتماع وعلم السياسة. كيف يمكن تجاوز حالة الفساد دون معرفة أسبابه؟ وهذا يحتاج إلى تدخل العلوم الإنسانية. بالسؤال: ما عوائق البحث العلمي للعلوم الإنسانية في الوطن العربي عموماً؟
أولاً: اعتياد السلطة في الوطن العربي تاريخياً على عدم الاكتراث بأهمية العلوم الإنسانية ونتائج أبحاثها في تعاملها مع مشكلات المجتمع والأمة.
ثانياً: العائق الأيدلوجي الذي يقوم على تزييف الواقع، ففي حين تقوم العلوم الإنسانية بكشف حقيقة الواقع وتقديم سبل تجاوزه تقوم الأيدلوجية السلطوية بإخفاء حقيقة الواقع والتعويل على الإعلام الرسمي الذي يجمل القبح.
ثالثاً : غياب الديمقراطية مما حرم المجتمع من نخبه من مؤسساته التي من شأنها لو وجدت لأعطت البحث العلمي مناخاً للعمل.
رابعاً : هشاشة الطبقة الرأسمالية الجديدة وجهلها، والتي تحول صفاتها هذه دون توظيف أي جزء ضئيل من أرباحها للبحث العلمي أو للعمل الثقافي عموماً.
خامساً: العوز المادي الذي تعيشه الفئات العاملة في حقل العلوم الإنسانية، مما لا يسمح لها هذا العوز بالتفرغ للبحث العلمي بل يفرض عليها عوزها المادي الانهماك في توفير سبل استمرار الحياة اليومية.
وإذا أضفنا عوزها هذا إلى حرمانها من المؤسسات التي يمكن أن ننظم عملها، أدركنا حجم الكارثة.
أخيراً: أليس في وضعنا اليد على أسباب تخلف البحث العلمي للعلوم الإنسانية كافياً لأن نتصور سبل تجاوز هذا التخلف.

*رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق

بارك الله فيك على الموضوع
يعطيك الصحة اخي بارك الله فيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.