إن القرآن العظيم بمثابة البحر الزخار الغني بالأسرار التي لا يكشف عنها إلا من سبر الأغوار وغاص في القرار وما أروع ذلك الوصف الذي جاء في الأثر الذي رواه الدارمي عن الحارث الأعور قال( إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستكون فتن قلت وما المخرج منها قال كتاب الله كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل هو الذي من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا هو الذي من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ) بيد أننا لم نتخلص من القراءة السطحية والنظرة الروحانية المجردة للقرآن التي لن تمضي بنا بعيدا في مواجهة تحديات العصر فضلا على أن تصف لنا الأدوية الفعالة لعلاج الأدواء الإجتماعية والحضارية المستفحلة في جسد الأمة المنهك حتى صار حالنا أشبه ما يكون بحال المريض الزمن الذي راح يتسول الأدوية عند أعدائه -تحت ضغط الآلام والأوجاع -فانبعثوا يجودون عليه بالسموم القاتلة والأدوية الفاسدة طمعا في موته وفنائه والعيب هنا ليس في تصرف العدو ولا في المرض الذي جثم على هذا الإنسان بل العيب كل العيب في جهل الرجل وقصوره العلمي إنني كلما تلوت القرآن أقف كثيرا عند تكرار الله عز وجل في العديد من المواضع -بمعرض الحديث عن الجزاء والفضل الذي ادخره الله يوم القيامة لعباده المؤمنين -لعبارة قصيرة في ميناها لكنها عميقة في معانيها وهي قوله تعالى(الذين آمنوا وعملوا الصالحات) لاحظ هنا كيف علق سبيل النجاة لا بالإيمان الصادق الجازم فحسب بل اشترط معه العمل الصالح وهنا نسلط الضوء على الشرط الثاني الذي هو لفظ عام لا يشمل العبادات والقربات فحسب -مثلما يعتقد معظم البسطاء من المسلمين -بل يتعداه إلى كل عمل نافع أو أثر إيجابي في الكون سواء عاد نفعه في الأخير على الإنسان أو الحيوان أو النبات أو البيئة أو الطبيعة ككل ومنذ الصغر حفظنا أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ونذكر ذلك الرجل الذي سقى لكلب يلهث من العطش فدخل بسببه إلى الجنة ولكننا لم نستفد شيأ من ذلك التوجيه النبوي الرباني الذي يهدف إلى الحفاظ على دورة الحياة والتي يقوم فيها كل عنصر (الإنسان الحيوان النبات البيئة) بدور ذلك الترس الذي بدونه تتعطل حركة الكون ويفقد توازنه قال تعالى في سورة الرحمن (والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ) هذا التوازن الطبيعي لا يقوم على الإنسان فقط – وإن كان يلعب فيه دور المحرك أو المنشط – ولا يستقل بمفرده عن باقي العناصر الأخرى التي لها دور الشريك في البناء الحضاري ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) (و الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون سخرناها لكم لعلكم تشكرون) ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وفي الآية الأخيرة -على سبيل المثال توجيه حضاري ممتد في الزمان والمكان لكيفية تعامل الإنسان مع النبات بشكل العام وبترتيب منظم يبدأ بتحقيق الحاجة البيولوجية الملحة للإنسان المتمثلة في الأكل والتعايش مع ضرورة تنويع الطعام في قوله (مختلفا أكله )الذي لمحت إليه الآية والذي لا يخلو من فوائد متعددة لصحة الجسم وقوته فضلا عن فوائد كل ثمرة في علاج بعض الأمراض التي تصيب الجسم وكل ثمرة لا تغني على الأخرى ثم تنتقل الآية إلى الحديث عن زكاة النعم والتي تمثل قمة التضامن الإجتماعي والتكافل الإنساني والتعاون الإقتصادي بين أفراد المجتمع الواحد وتدفع عنهم الأمراض الإجتماعية والإقتصادية كالفقر والتسول والسرقة والغصب بما تحققه من إكتفاء ذاتي في عمق المجتمع وتوفر على الدولة الكثير من الأموال التي يمكن الإستفادة منها في ميادين أخرى تعود بالنفع على الشعب كتطوير البحث العلمي وجلب التكنولوجيا وغيرها ثم ختمت الأية بتوجيه أخلاقي رفيع يرجع أثره حتى على الأجيال القادمة ويتمثل في عدم التبذير والإسراف لأن الإنتاج أو الثروات بشكل عام منها المتجددة كالزروع والثمار ومنها غير المتجدد ة كالبترول والغاز والفحم الحجري واما الإنتاج الزراعي فإنه قد يتذبذب من سنة لأخرى لعوامل مناخية وطبيعية مختلفة وهنا تكلم القرآن على استراتيجية تخزين الفائض من المنتوجات الزراعية لمواجهة الأزمات الغذائية والطارئة والتي تنقرض فيها المواد الأساسية من الأسواق وتلتهب فيها الأسعار والتي قد تقضي على الإنسان والحيوان وحتى النبات في مدة وجيزة وهذا الحل السالف الذكر هو المدار الذي تدور عليه قصة سورة يوسف لمن أمعن فيها النظر وأعمل فيها الفكر