منزلة الصحابة الكرام رضي الله عنهم عند علماء المغرب والأندلس
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإِنَّ عُلماء المغرب والأندلس عَبرَ مُختلفِ العُصُور تَشَبَّتُوا بالعقيدة السُّنِّيَّة السلفية الَّتِي تُؤَكِّدُ مكانة الصَّحابة الكرام وتعترف بعظيم منزلتهم في الإسلام، بل قَرَّرُوا ذلك في كتُبهم، وهذهِ بعضُ نُصوصهِم في ذلك:
يَقولُ الحافظ أبو عمر ابنُ عبد البَرِّ القُرطبيُّ (ت 463هـ): « وَمَا أَظُنُّ أَهلَ دِينٍ مِنَ الأَديانِ إِلَّا وعُلماؤُهُ مُعتَنُونَ بمَعرفةِ أَصحابِ أَنبيائهِم؛ لأَنَّهُم الواسطةُ بَينَ النَّبيِّ وبَينَ أُمَّتِهِ »[«الاِستيعاب» (1/8-9) بحاشية «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر].
وقال الإمام أبو عبد الله محمد ابن فتوح الحميدي (ت 488هـ) في كتابه «جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس» حينما ذكر فضائل الأندلس الَّتي تَمَيَّزت بها عَن سائر البُلدان، فقال: «ومِنْ فَضْلِهَا أَنَّهُ لم يُذْكَر قَطُّ على مَنَابِرِها أَحَدٌ مِن السَّلَفِ إِلَّا بخَيرٍ وإِلى الآنَ»[«جذوة المقتبس» (ص7)]؛ أي: إلى عَصرِهِ رحمهُ اللهُ تعالى.
وقال مسلمة بن القَاسِم القُرطبي (ت353هـ) في كتابِهِ «الرَّدّ على أهل البدع وتَبيِين أُصُول السُّنَّة»:
«ومِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ الصَّلاةُ عَلَى مَن مَاتَ مِن أَهلِ القِبلَةِ وإِنْ عَمِلَ الكَبَائِر، وذِكر فَضَائِلِ أَصحابِ النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وسَلَّم)، والسُّكُوتُ عَمَّا شَجَرَ بَينَهُم، وَالاِقتِدَاءُ بهِم. وخَيْرُ النَّاسِ بَعدَ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَبُو بكرٍ الصِّدِّيق، ثُمَّ عمرُ الفَارُوق، ثُمَّ عثمان ذُو النُّورَين بعدهُما، ثُمَّ عليٌّ الرِّضَى رابعهُم، ثُمَّ أَصحابُهُ البَاقُون خَيرُ الأَصحابِ، وأَنصارُهُ خَيرُ الأَنصَارِ، وأُمَّتُهُ خَيْرُ الأُمَمِ»
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي المعافري (رحمه الله) (ت543هـ) في «العواصِم من القواصِم»:
«مَا رَضِيَت النَّصَارَى واليَهُودُ في أَصحَابِ مُوسَى وعِيسَى مَا رَضِيَت الرَّوَافِضُ في أَصحَابِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ حَكَمُوا عَلَيهِم بأَنَّهُم قَد اتَّفَقُوا عَلَى الكُفْرِ والبَاطِلِ»
وقال مالكٌ الصَّغير الإمام أبو محمّد عبد الله بن أبي زيد القيرواني النَّفْزِي الأندلسي في رسالته (ت386هـ)، قال (رحمهُ الله): «وأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ المَهْدِيُّونَ: أَبُو بكرٍ وعُمرُ وعُثمانُ ثُمَّ عليٌّ (رضي الله عنهُم أجمعين)، وأَن لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِن صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَّا بأَحْسَنِ ذِكْرٍ، والإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَينَهُم، وأَنَّهُم أَحَقُّ النَّاسِ أَن يُلْتَمَسَ لهُم أَحْسَنُ المَخَارِجِ ويُظَنَّ بِهِم أَحْسَنُ الظَّنِّ»
وقال أبو عبد الله محمَّد بن أبي زَمَنَيْن (ت399هـ) قال: «ومِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَن يَعتَقِدَ المَرْءُ المَحَبَّةَ لأَصحَابِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وأَن يَنْشُرَ مَحَاسِنَهُم وفَضَائِلَهُم، ويُمْسِكَ عَنِ الخَوْضِ فِيمَا دَارَ بَينَهُم»[«أُصُولُ السُّنَّةِ» لابن أبي زَمَنَين (ص263)].
وقال الإمام أبو عمرو الداني (ت444هـ) في «الرِّسَالة الوَافِية»: «مِن قَولهِم- يَعنِي: أَهل السُّنَّة- أَن يُحسَنَ القَولُ في السَّادَاتِ الكِرام، أَصحَابِ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، وأَن تُذْكَرَ فَضَائِلُهُم، وتُنْشَرَ مَحَاسِنُهُم، ويُمْسَكَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا شَجَرَ بَينَهُم، لقَولِهِ (صلى الله عليه وسلم): «إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا»؛ يَعنِي: إِذَا ذُكِرُوا بغَيرِ الجَمِيلِ، ولقَولِهِ (صلى الله عليه وسلم): «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي»، ويَجِبُ أَن يُلْتَمَسَ لهُم أَحْسَن المَخَارِج، وأَجْمَلَ المَذَاهِبِ، لمَكَانِهِم مِن الإِسلامِ، ومَوضِعِهِم مِنَ الدِّينِ والإِيمَانِ، وأَنَّهُم أَهْلُ الرَّأيِ والاِجتِهَادِ، وأَنْصَحُ النَّاسِ لِلعِبَادِ، وهُم مَن قَالَ اللهُ تعالى فِيهِم: ï´؟وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلِّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَï´¾، وقَد شَهِدَ لهُم بِالجَنَّةِ في غَيرِِ مَوضِعٍ مِن كِتَابِهِ، فقالَ تعالى: ï´؟لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَموَالهِم وأَنفُسِهِمï´¾ إلى قوله: ï´؟العَظِيمï´¾ رَحمةُ اللهِ عليهِم أجمعين»
وقال الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حَزْمٍ الأندلسيّ (رحمهُ الله): «فإِنَّ الكلمةَ في أَوَّلِ الإِسلامِ والتَّمرةَ والصَّبرَ حِينئِذٍ، ورَكعةً في ذلِكَ الوَقت، تَعدِلُ اجتهادَ الأَزمانِ الطِّوَالِ وجِهَادَهَا وبَذْلَ الأَموالِ الجِسَامِ بَعدَ ذَلِكَ، ولذَلِكَ قالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): «دَعُوا لِي أَصْحَابِي، فَلَوْ كَانَ لأَحَدِكُم مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»، فكَانَ نِصْفُ مُدِّ شَعِيرٍ أو تَمْرٍ في ذَلِكَ الوَقتِ أَفْضَلُ مِن جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا نُنفِقُهُ نَحنُ في سَبِيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ بَعدَ ذَلِكَ، قَالَ اللهُ تعالى: ï´؟لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَىï´¾.
ثمَّ قال أبو محمّدٍ: هَذَا في الصَّحَابَةِ فِيمَا بَينَهُم، فَكَيْفَ بِمَن بَعدَهُم مَعَهُم (رضي اللهُ عنهُم أجمعين)»[«الفِصَل في المِلَل والأَهواءِ والنِّحَل» (5/185)].
وقال الإمام أبوبكر ابن العربي المَعَافِرِيّ (ت543هـ) في شَأنِ الأَخبارِ الَّتِي يَتَدَاوَلُها النَّاسُ عَن الصَّحابَةِ الكِرَامِ: «وخُذُوا لأَنفُسِكُم بِالأَرْجَحِ في طَلَبِ السَّلاَمَةِ، والخَلاَصِ مِن بَينِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِين. فَلاَ تَكُونُوا -ولم تُشَاهِدُوهُم، وقَد عَصَمَكُمُ اللهُ مِن فِتْنَتِهِم- مِمَّن دَخَلَ بلِسَانِهِ في دِمَائِهِم، فوَلَغَ فِيهَا وُلُوغَ الكَلْبِ في بَقِيَّةِ الدَّمِ على الأَرضِ بَعدَ رَفعِ الفَرِيسَةِ بلَحْمِها، لَم يَلحَقِ الكَلْبُ مِنهَا إِلاَّ بَقِيَّةُ دَمٍ سَقَطَ عَلَى الأَرضِ»[«العواصم» (ص227)].
وقال أيضًا: «ومَن نَظَرَ إلى أَفعَالِ الصَّحَابَةِ تَبَيَّنَ مِنهَا بُطْلاَنُ هذهِ الهُتُوك الَّتِي يَخْتَلِقُهَا أَهْلُ التَّوَارِيخِ، فيَدُسُّونَهَا في قُلُوبِ الضُّعفاءِ»[نفسه(ص248)].
وقال العلاَّمة أحمد بن محمد البُرْنُسِيّ التَّازِيّ الفَاسِيّ المعروف بِـ(زَرُّوق) (ت899هـ) – شارح متن «الرِّسالة لابن أبي زيد القَيرواني»-: «فقد نُقِلَ عن أبي القاسم الحكيم أنَّهُ قال: «اليَهُودُ والنَّصارَى أَحسنُ حَالاً مِن الرَّوافِضِ وإن كانُوا مُسلمِين؛ لأَنَّهُ لو قِيلَ ليَهوديٍّ: مَن أَفضلُ النَّاسِ؟ قال: مُوسَى، فإذا قِيلَ: مَن أَفضلُ النَّاسِ بَعدَهُ؟ قالَ: نُقَبَاؤُهُ. ولو قِيلَ للنَّصرانيِّ: مَن أَفضلُ النَّاسِ؟ قالَ: عِيسَى. فإذا قِيلَ لَهُ: مَن بَعدَهُ في الفَضلِ؟ قالَ: حَوَارِيُّوهُ. ولو قِيلَ لرَافِضِيٍّ: مَن أَفضلُ النَّاسِ؟ قالَ: محمّدٌ ، فإِذَا قِيلَ لهُ: مَن شَرُّ النَّاسِ بَعدَ مَوتِهِ؟ قالَ: أَصحَابُهُ. فقَبَّحَ اللهُ رَأيَهُم فِيمَا أَتَوا مِن ذَلِكَ». فالوَاجِبُ ذِكرُهُم بكُلِّ جَمِيلٍ، والإِمساكُ عَن كُلِّ مَا يُؤَدِّي لخِلاَفِهِ، ومَا وَقَعَ بَينَ عليٍّ ومُعاويةَ فعَن اجتِهَادٍ، ولِكُلٍّ أَجرٌ بِمَا وَقَعَ مِنهُ، ومَذهبُ أَهلِ السُّنَّةِ أَنَّ الصَّحابَةَ كُلُّهُم عُدُولٌ»[«شَرح زَرُّوق على الرِّسالة» (1/85-86)].
فهذه جملة من أقوال علماء المغرب والأندلس، تبيّن مدى اهتمامهم بقدر الصحابة الكرام، ونشرهم لفضائلهم، وتقرير هذه العقيدة ـ عقيدة موالاة الصحابة ـ في كتبهم، ولمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب " الصحابة الكرام في تراث المغاربة والأندلسيين " وهو عبارة عن مجموعة بحوث النَّدوة العِلمية الدَّوليَّة الَّتي نظَّمها مركز الدِّراسات والأبحاث وإِحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء بمدينة طنجة ـ 26 صفر 1445 هـ .
بارك الله فيك أخي على الموضوع المتميز والرائع
جزاك الله خيرا على الجهد الطيب وأحسن إليك وجعله في ميزان حسناتك