كيف يعرف المتصدر بالعلم الشرعي من غيره ؟؟؟
بسم الله الرحمن الرحيم .الحمد لله رب العالمين على آلائه وهو أهل الحمد والنعم ، ذي الملك والملكوت الواحد الصمد، البر المهمين مبدي الخلق من عدم ، من علم الناس ما لا يعلمون وبالبيان أنطقهم والخط بالقلم ، ثم الصلاة على المختار أكرم مبعوث بخير هدى في أفضل الأمم ، والآل والأصحاب قاطبة والتابعين بإحسان لنهجهم ، ما لاح نجم وما شمس الضحى طلعت ، وعد أنفاس ما في الكون من نسم .وبعد من يرد الله العظيم به خيرا يفقه في دين القيم ، وحث ربي وحض المؤمنين على تفقه الدين مع إنذار قومهم . من مقدمة حافظ الحكمي رحمه الله في منظومته الميمية .
أما بعد :
إن الكلام عن التصدر والتقدم في العلم الشرعي والفتوى موضوع مهم كثر فيه الكلام في الآونة الأخيرة واللغط من بعض الناس دون إنصاف ولا عدل ، بل أصبح يتكلم فيه بعض العوام ممن لا يحسن حتى تركيب جملة من حدادية ومميعة فهناك من أفرط في منعه ، وهناك من فرّط وقصر في جوازه ، والحق الوسط الذي عليه أهل العلم من محدثين وفقهاء من جوازه لمن علم من نفسه العلم ، ومنعه ممن ليس كذلك ، ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه ..
وقبل أن أدخل في الموضوع أحببت أن أعرف معنى التصدر في اللغة وفي الشرع ثم أذكر أنواعه ثم علامات وبعض أوصاف المتصدرين ..
التَّصدر والتصدير : جذره ( ص د ر) : قَالَ ابْن المظفّر: الصَّدْرُ: أعْلى مقدَّم كلّ شَيْء ، قَالَ: وصَدْرُ القَناة: أعْلاها. وصَدْرُ الْأَمر أوّله. قَالَ: والصُّدْرةُ من الْإِنْسَان: مَا أشرَفَ من أَعْلى صَدْرِه.والتّصدر أخذ الصدارة في المجلس والمقدمة في كل شيء.وَرَد في القاموس: «وصدور الوادي أعاليه ومقادمه .. جمع صَدَارة» وفي التاج: «الصَّدَارة بالفتح: التقدم» وقد استعملها النحاة في كتبهم كالصبان ومحمد الأمير وغيرهما خاصة في الحروف التي لها «الصدارة».
ودونتها المعاجم الحديثة، مما يدل على فصاحتها. معجم الصواب اللغوي دليل المثقف العربي (1/485) الدكتور أحمد مختار عمر بمساعدة فريق عمل.
وفي المعجم الوسيط(1/509)(الصدارة) التَّقَدُّم يُقَال فلَان لَهُ الصدارة فِي الْقَوْم و (عِنْد النُّحَاة) اخْتِصَاص الْكَلِمَة بوقوعها أول الْكَلَام كأسماء الِاسْتِفْهَام.
(الصَّدْر) مقدم كل شَيء يُقَال صدر الْكتاب وَصدر النَّهَار وَصدر الْأَمر والطائفة من الشَّيء وَصدر الْقَوْم رئيسهم وَصدر الْإِنْسَان الْجُزْء الممتد من أَسْفَل الْعُنُق إِلَى فضاء الْجوف وَسمي الْقلب صَدرا لحلوله بِهِ وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {قل إِن تخفوا مَا فِي صدوركم أَو تبدوه يُعلمهُ الله} وَذَات الصَّدْر عِلّة تحدث فِيهِ وَذَات الصُّدُور أسرار النُّفُوس وخباياها وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وَالله عليم بِذَات الصُّدُور}.
والفِعْل التصدير. والتَصَدُّر : نَصْبُ الصَّدْر في الجلوس. العين (7/95)وفي لسان العرب(4/448) والتَّصْدِيرُ؛ حِزَامُ الرَّحْل والهَوْدَجِ.
وقال اللَّيْثُ: التَّصْدِيرُ حَبْلٌ يُصَدَّرُ بِهِ الْبَعِيرُ إِذا جرَّ حِمْله إِلى خلْف. قَالَ الأَزهري: الَّذِي قَالَهُ اللَّيْثُ أَنَّ التَّصدْيِر حَبْلٌ يُصَدَّر بِهِ الْبَعِيرُ إِذا جرَّ حِمْله خَطَأٌ.
هذا في اللغة ، أما في الشرع فالتّصدر والتصدير هو التقدم وأخذ الصدارة في المجلس أو التدريس أو الفتوى أو غير ذلك ، وهو على نوعين أو مرتبتين ، نوع مباح ومأذون فيه شرعا ، ونوع مذموم ومنهي عنه ..
أما المباح المأذون فيه بل ربما يستحب وربما يجب في حقه هو ما كان بحق وكان صاحبه مؤهل لذلك ، سواء في رئاسة الدين أو الدنيا بشهادة أهل الاختصاص له فيما تقدم فيه تصدر ..وسواء كان عالما أو طالب علم ، فالنّاس لابد لهم من يعلمهم ويرشدهم ويفتيهم ، وإلا اختل ميزان الحكمة والعدل ، فطالب العلم الذي درس العلم وأخذ بحظ منه ينبغي أن يكون كالغيث أينما وقع نفع في حدود علمه ، وزكاة العلم نفقته والعمل به ثمرته .
وإن منع طلاب العلم المتأهلين الذين عرفوا بأخذ بعض العلم عن أهله وتمكنوا فيه مع صحة العقيدة وسلامة المنهج بحجة التصدر والتقدم ، وبحجة أنه يوجد بيننا العلماء الكبار فيحصرون العلم في قلة منهم لا يسدون حاجة الأمة في مشرقها ومغربها ، فهذا يهدم صرحا كبيرا من الخير ويضيع العلم الذي تعلموه ، ويصد عن سبيل الله ويغلق باب الاجتهاد والتدرج فيه حتى يكون خلف للعلماء ، وهذا المسلك (منع التصدر مطلقا) مدعاة لإسقاط العلماء الكبار ، فإن المانع للتصدر ينبغي أن يكون من كبراء القوم وإلا فهو متصدر يسقط قوله كما أسقط طلاب العلم المعروفين والذين اشتهروا بعلمهم ودروسهم على منهاج النبوة والدفاع عن السنة وعن علمائها الربانيين .
وقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – في شروط الفتوى عن بعض أهل العلم ورجحه أنه أجاز لمن حفظ خمس مسائل عن الإمام أحمد واستند إلى سارية في المسجد يفتي بها .. وسيأتي .
فكيف بمن تضلع في العلم وأخذ مبادئه وأصوله ، وعلوم آلاته وهو يرجع إلى العلماء وكتبهم في المعضلات والمشكلات ، فإذا أغلقنا هذا الباب فمتى ينفق الطالب علمه ويزكيه ،ويتدرب فيه على تحرير المسائل وعرضها على العلماء حتى يمكن أن يتكون العلماء ويخلفون الذين يموتون ممن قبضهم الله وقبض ما معهم من العلم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
وقد ذكر بعض العلماء أنه متى ما علم الطالب من نفسه أن لديه علما واحتاج الناس له فله أن يرويه وأن يدرسه .
قال السخاوي في فتح المغيث شرح ألفية الحديث (3/227-228): (ثُمَّ) بَعْدَ تَحَرِّيكَ فِي تَصْحِيحِ النِّيَّةِ وَاسْتِحْضَارِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ التَّقَيُّدِ فِي الطَّلَبِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْفَهْمُ، فَلَا تَقَيُّدَ فِي الْأَدَاءِ أَيْضًا بِسِنٍّ، بَلْ (حَيْثُ احْتِيجَ لَكَ فِي شَيْءٍ) وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَلَعَلَّكَ تَكُونُ فِي بِلَادٍ مَشْهُورَةٍ كَثِيرَةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهَا إِلَى مَا عِنْدَكَ، وَلَوْ كُنْتَ فِي بِلَادٍ مَهْجُورَةٍ احْتِيجَ إِلَيْكَ فِيهِ ; فَحِينَئِذٍ (ارْوِهْ) وُجُوبًا حَسْبَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) فَقَالَ: فَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ يَعْلُوَ سِنُّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَدِّثَ وَلَا يَمْتَنِعَ ; لِأَنَّ نَشْرَ الْعِلْمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لَازِمٌ، وَالْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ عَاصٍ آثِمٌ.
وَسَاقَ حَدِيثَ: ( «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ نَافِعٍ فَكَتَمَهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ) .وَحَدِيثَ: ( «مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِلْمًا ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ» ) . وَقَدْ مَضَى قَرِيبًا، وَقَوْلَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37] .قَالَ: هَذَا فِي الْعِلْمِ، لَيْسَ لِلدُّنْيَا مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَوْلَ ابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنْ بَخِلَ بِالْعِلْمِ ابْتُلِيَ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ، إِمَّا أَنْ يَمُوتَ فَيَذْهَبَ عِلْمُهُ، أَوْ يَنْسَاهُ، أَوْ يَتَّبِعَ سُلْطَانًا.
إذا متى ينفق طالب العلم الذي حفظ المتون ودرس بعضها على مشايخ واستمع لشرحها وغيرها من السلاسل العلمية في الأشرطة والأقراص والمحاضرات وما فيها من إرشادات وتوجيهات من العلم الكبار وقرأ ما تيسر له من كتب العلم ، وعُرف بالبحث كما عُرف بذكائه وفطنته ورجاحة عقله ورجوعه للعلماء ، فإن منع مثل هذا يفتح بابا كبيرا من الفساد والله المستعان .
وَهذا ربيعة شيخ مالك يقَوْلَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَهُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: إِنَّمَا حَمَلَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَلَى التَّحْدِيثِ أَنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَفِيهَا كَرَاسِيُّ مَوْضُوعَةٌ، عَلَى كُرْسِيٍّ مِنْهَا زَائِدَةُ، وَعَلَى آخَرَ فُضَيْلٌ، وَذَكَرَ رِجَالًا، وَكُرْسِيٌّ مِنْهَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ: فَأَهَوَيْتُ نَحْوَهُ فَمُنِعْتُ، فَقُلْتُ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابِي أَجْلِسُ إِلَيْهِمْ. فَقِيلَ لِي: إِنَّ هَؤُلَاءِ بَذَلُوا مَا اسْتُودِعُوا، وَإِنَّكَ مَنَعْتَهُ. فَأَصْبَحَ يُحَدِّثُ.
وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّ الَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّهُ مَتَى احْتِيجَ إِلَى مَا عِنْدَهُ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدِّي لِرِوَايَتِهِ وَنَشْرِهِ فِي أَيِّ سِنٍّ كَانَ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونُ يُخَالِفُ الْخَطِيبَ فِي الْوُجُوبِ، أَوْ يَكُونَ الِاسْتِحْبَابُ فِي التَّصَدِّي بِخُصُوصِهِ.انتهى كلامه .
وسئل الشيخ العباد هذا السؤال : جاء كثير من العبارات عن السلف في النهي عن أخذ العلم عن حدثاء الأسنان، مع أننا نرى أن كثيراً من الأئمة تصدر للفتوى في سن مبكرة، فما هو معنى حدثاء الأسنان؟
الجواب : لعل المقصود من ذلك الناس الذين يستعجلون في الفتوى قبل أن يتمكنوا من العلم الشرعي، أما من تمكن وصار يستفاد منه ولو كان في سن مبكرة فلا بأس بذلك، وإنما المقصود من ذلك الذين يستعجلون أن يبرزوا وأن يظهروا، فهؤلاء هم الذين يذمون، وأما من يوفقه الله عز وجل وكان في صغره أو في سن مبكرة ممن يستفاد منه فلا بأس بذلك، ولاسيما إذا كان لا يوجد غيره في البلد والناس يحتاجون إليه، فمثل هذا لا بأس به. شرح سنن أبي داود للشيخ العباد (14/64).
وقد ذكرت في مقالي الإحسان إلى كلمة ابن رمزان في قوله أن الإمام مالك لم يدرس حتى شهد له سبعين من شيوخه أنها ليست قاعدة مضطردة ؛ فهذا مالك ابن الحويرث وجماعة من الشباب معه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلسوا عنده ما يقرب من شهر فلما رأى أنهم اشتاقوا إلى أهليهم أمرهم بالعودة وتبليغ ما تعلموه من العلم ، فماذا تعلم هؤلاء الشباب من العلم الكثير حتى أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف شهر ؟؟ والجواب إليكم .ومن أراد زيادة بيان فليرجع إلى المقال المذكور وهو منتشر في المنتديات السلفية .
أما التصدر المذموم فهو التصدر والتقدم بغير أهلية فيما تصدر وتقدم فيه ،فيحرف الأدلة ويتأولها على هواه ويفسرها بخلاف العلماء ، ولا يعرف لا ناسخ ولا منسوخ ، ولا يعرف الخلاف بين العلماء في المسائل ، وربما عرف شيئا من ذلك فتصرف فيه حسب جهله وهواه ، ينصر بدعته وهواه وحزبه ، ويعاند ويساند من على شاكلته دون خوف ولا ورع بجرأة عجيبة كالخوارج والروافض وممن ينتسب للسنة من الإخوان المسلمين والحدادية ..بين إفراط وتفريط .
فهذا هو المتفيهق صاحب الهوى والمبتدع المُضل ، والجاهل جهلا مركبا يتسرع ذلك المنصب في الصدارة لأغراض دنيوية دنيئة يعلو بها على الأقران وأهل زمانه ويبرز كبروز الصدر ولو كانوا فوقه شرفا وعلما وفضلا .أخرج البيهقي في شعب الإيمان (7894)قال أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَمَةَ الْمُؤَدِّبَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُيَيْنَةَ الْمُهَلَّبِيَّ، وَكَانَ مُؤَدِّبَ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ طَاهِرٍ وَيُكْنَى أَبَا الْمِنْهَالِ، كَانَ يَقُولُ: (( لَا يَتَصَدَّرُ إِلَّا فَائِقٌ أَوْ مَائِقٌ )).(1). والفائق: هو المتفوق، فيكون له صدر في الأمة، وصدر في الناس، وعلم يشار إليه؛ لأنه طول عمره وهو رجل فاضل ومحترم، يحافظ على وقته، ويذاكر ويحفظ، ويستمع كلام أهل العلم، ويحاول أن يحصل العلم من مصادره؛ حتى يكتب له التفوق والتصدر في الناس، وإن لم يبغ هو التصدر لكن الناس يقدرونه.وهذا يلحق بالنوع الأول .
والمائق : هو من كانت فيه الأوصاف الآتية وهي تنطبق تماما على المتصدر بغير أهلية ويغلب عليه الأوصاف القبيحة ..كما سترى .
قال أبو بكر الأنباري : وقولهم: فلانٌ مائِقٌ : فيه ثلاثة أقوال.
قال قوم: المائق : السيئ الخلق..
وقال قوم: المائق هو الأحمق، ليس له معنى غيره.
وقال قوم: المائق: السريع البكاء، القليل الحزم والثبات.الزاهر في معاني كلمات الناس (1/133) أبو بكر الأنباري تحقيق: حاتم صالح الضامن .
وفي لسان العرب (10/350) المائقُ: الْهَالِكُ حُمْقاً وغَباوةً. وهو الرجل الهرش أي مائقٌ جافٍ .
وتجتمع هذه الأوصاف في المتصدر بغير أهلية ، لحمقه وغباوته وسيء خلقه بتهارشه للعلماء وطلاب العلم الكبار ، لذلك يتسرع الأمور قبل أوانها ويتصدر المجالس مع جهله وصفاقة وجهه ، وباختصار هو من كان على قاعدة : خالف لِتُذْكر، وقيل الخوض باللجج والماء العَكِر .
والجاهل جهلا مركبا هو المائق الذي ينبغي أن يحذر ..
قال البيهقي في المدخل للسنن الكبرى (1/441) (828) أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، قَالَ: قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ فِي جَامِعِ الْمَدِينَةِ وأنا أَسْمَعُ، ثنا الْعَبَّاسُ بْنُ أَحْمَدَ، ثنا الزُّبَيْرُ، ثنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ، يَقُولُ: " الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَاكَ غَافِلٌ فَنَبِّهُوَهُ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَذَاكَ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ، وَرَجُلُ يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَاكَ عَاقِلٌ فَاتَّبِعُوهُ، وَرَجُلٌ لَا يَدْرِي وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي فَذَاكَ مَائِقٌ فَاحْذَرُوهُ " فهذا الرابع هو المائق الجاهل الأحمق ..
والذي يهمنا في هذا الكلام هو أن التصدر من هذا النوع وعلى وجه الخصوص التصدر في العلم الشرعي من غير أهلية منهي عنه مذموم شرعا وعقلا وعرفا .
قال ابن رجب -رحمه الله- في قواعد الفقه يقول: "من تعجَّل شيئاً قبل أوانه عُوقب بحرمانه". (القواعد لابن رجب : (ص262).
قال الشيخ العلامة السعدي – رحمه الله – في منظومة القواعد الفقهية.معاجل المحظور قبل آنه – – قد باء بالحرمان مع خسرانه .وقديما قيل : من تصدر قبل أوانه ، فقد تصدى لهوانه .
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- معلقاً:ذلك في شرحه لحلية طالب العلم ( ص294-295)." مما ينبغي الحذر منه: أن يتصدَّر الإنسان قبل أن يكون أهلًا للتصَّدُّر؛ لأنه إذا فعل ذلك كان هذا دليلًا على أمور:
الأمر الأول : إعجابه بنفسه، فيرى نفسه عَلَمَ الأعلام.الأمر الثاني:عدم فقهه ومعرفته للأمور، لأنه إذا تصدَّر، ربَّما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، فتَرِدُ عليه من المسائل ما يُبيِّن عواره.
الأمر الثالث: التقوُّلُ على الله ما لا يعلم، لأن الغالب أن من كان قصده التصدُّر لا يُبالي، فيُجيب عن كل ما سُئل، ويخاطر بدينه وبقوله على الله عز وجل.
الأمر الرابع: أنه لا يَقبلُ الحقَّ في الغالب، فيظنُّ -بسفهه- أنه إذا خضع لغيره لو كان معه الحق كان دليلًا على أنه ليس بعالم.وأنظر مجموع ورسائل وفتاوى الشيخ (26/241)
فالتصدُّر فيه آفات عظيمة؛ ولهذا يُروى عن عمر -رضي الله عنه – أنه قال:" تفقَّهوا قبل أن تَسُودوا"،" أوت ُسَوَّدوا". وكلاهما صحيح.[والأثر أخرجه البخاري معلقا:كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة .
قال فضيلة الشيخ عبد السلام بن برجس العبد الكريم : إن الخوف على الأمة من أولئك الذين لبسوا العلم الشرعي – وما هم من العلم الشرعي في شيء – لهو الخوف الصادق على الأمة من الفساد والانحراف (2)؛ ذلك بأن تصدر الجهال – في حين فقد العلماء الصادقين والمتمكنين – باب واسع للضلال والإضلال .وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – :<< إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العلماء ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا >> أخرجه البخاري ومسلم .
ولقد تنبه أهل العلم المخلصون لخطورة هذا الصنف من الناس على دين الأمة وعقيدتها ومصيرها فقضوا بوجوب الحذر والتحذير منهم ، وعدم الأخذ عنهم.انتهى كلامه .
وإن من نظر في سير أئمة وعلماء السلف الصالح ، وطلاب العلم على نهجهم من أهل السنة ممن بعدهم، ليعلم أنهم كانوا أبعد الناس عن حب التصدر والزعامة، وعن الحسد والتنافس، وغيرها من الصفات الرذيلة والقبيحة ، فقد كانت الفتوى تدور في المجلس الواحد عليهم ولا يجد المستفتي من يفتيه كلهم يود لو أن أخاه كفاه ذلك ، على خلاف اليوم فأنهم يتدافعون عليها تدافع الأكلة على قصعتهم حاشا العلماء الراسخين ليس أحد منهم من أهل الدنيا، أو صاحب هوى وتعصب ، أو صاحب طموح إلى منصب بل همهم وقصدهم مرضاة الرب تعالى . على خلاف هؤلاء المائقين أئمة الضلالة والجهلة المتصدرين الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، ويبتغون بذلك عرضا من الدنيا قليل .
قال الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير(1/577) وَقَوْلُهُ تعالى :{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا} هُوَ كَقَوْلِهِ:{ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا} [الْبَقَرَة: 41].وَالثَّمَنُ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ إِرْضَاءُ الْعَامَّةِ بِأَنْ غَيَّرُوا لَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ عَلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ أَوِ انْتِحَالُ الْعِلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ فَوَضَعُوا كُتُبًا تَافِهَةً مِنَ الْقَصَصِ والمعلومات الْبَسِيطَةِ لِيَتَفَيْهَقُوا بِهَا فِي الْمَجَامِعِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَصِلْ عُقُولُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَكَانُوا قَدْ طَمِعُوا فِي التَّصَدُّرِ وَالرِّئَاسَةِ الْكَاذِبَةِ لَفَّقُوا نُتَفًا سَطْحِيَّةً وَجَمَعُوا مَوْضُوعَاتٍ وَفَرَاغَاتٍ لَا تَثْبُتُ عَلَى مَحَكِّ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ ثُمَّ أَشَاعُوهَا وَنَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ وَدِينِهِ وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ الْجَهَلَةِ الْمُتَطَلِّعِينَ إِلَى الرِّئَاسَة عَن غَيْرِ أَهْلِيَّةٍ لِيَظْهَرُوا فِي صُوَرِ الْعُلَمَاءِ لَدَى أَنْظَارِ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّحْمِ وَالْوَرَمِ.
قال الراغب الأصبهاني رحمه الله : لا شيء أوجب على السلطان من رعاية أحوال المتصدين (( المتصدرين )) للرياسة بالعلم ، فمن الإخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار ، ويقع بين الناس التباغض والتنافر ..
وقال : ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق ، وأحدثوا بجهلهم بدعا استغنوا بها عامة ، واستجلبوا بها منفعة ورياسة ، فوجدوا من العامة مساعدة بمشاركتهم لهم ، وقرب جوهرهم منهم ، وفتحوا بذلك طرقا مُنْسدّة ، ورفعوا به ستورا مسبلة ، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا بالوقاحة ، وبما فيهم من الشّرة ، فبدعوا العلماء وجهلوهم اغتصابا لسلطانهم ، ومنازعة لمكانهم فأغروا بهم أتباعهم حتى وطئوهم بأظلافهم وأخفافهم ، فتولد بذلك البوار ، والجور العام والعار .(3).
وقد عقب على هذا الكلام الشيخ الفاضل عبد السلام البرجس قائل : هل حل بالناس ما حل من انحراف بعض الشباب في معتقده وظهور بوادر الفتن ، وتجرؤ الصغار على كبار الأئمة ، و((علماء الدعوة )) وخروجهم عن طريقتهم – المستقاة من الكتاب والسنة والأثر مع معرفة تامة بمقاصد الشريعة ومواقع المصلحة – إلا لاختلال الميزان الذي يزو نبه العلماء ، وارتقاء من لا علم له إلى مصاف الكبار؟لقد صدق الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود وهو صادق عندما قال : إنكم في زمان كثير فقهاؤه ، قليل خطباؤه ، قليل سؤاله ، كثير معطوه ، العمل فيه قائد للهوى ، وسيأتي من بعدكم زمان قليل فقهاؤه ، كثير خطباؤه ، كثير سؤاله قليل معطوه ، الهوى فيه قائد للعمل ، اعلموا أن حسن الهدى في آخر الزمان خير من بعض العمل . أخرجه البخاري في الأدب المفرد .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في الفتح (10/510): سنده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي .اهـ
وقال ابن عبد البر – رحمه الله – في الاستذكار (6/345) هذا الحديث قد روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة .ثم قال : والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان .(4).
وقد وضع علماء الحديث بعض الضوابط للرواية والسنة الذي يستحب التصدر فيها للأداء والعطاء والتدريس ففي فتح المغيث شرح ألفية الحديث (3/227-228)[السِّنُّ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّصَدُّرِ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ] :
قَوْلُ الرَّامَهُرْمُزِيِّ فِي تَحْدِيدِ السِّنِّ وَالرَّدِّ عَلَيْهِ :(وَ) عَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَبُو مُحَمَّدِ (ابْنُ خَلَّادٍ) الرَّامَهُرْمُزِيُّ قَدْ (سَلَكْ) فِي كِتِابِهِ (الْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ) التَّحْدِيدَ، حَيْثُ صَرَّحَ (بِأَنَّهُ يَحْسُنُ) أَنْ يُحَدِّثَ (لِلْخَمْسِينَا عَامًا) أَيْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهَا. وَقَالَ: إِنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ ; لِأَنَّهَا انْتِهَاءُ الْكُهُولَةِ، وَفِيهَا مُجْتَمَعُ الْأَشُدِّ، قَالَ سُحَيْمُ بْنُ وَثِيلٍ الرِّيَاحِيُّ:أَخُو خَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أَشُدِّي … وَنَجَّذَنِي مُدَاوَرَةٌ الشُّئُونِيَعْنِي: أَحَنَكَتْنِي مُعَالَجَةُ الْأُمُورِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) بِهِ (لِأَرْبَعِينَا) عَامًا، أَيْ بَعْدَهَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَنْكَرٍ ; لِأَنَّهَا حَدُّ الِاسْتِوَاءِ، وَمُنْتَهَى الْكَمَالِ، نُبِّئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ، وَفِي الْأَرْبَعِينَ تَتَنَاهَى عَزِيمَةُ الْإِنْسَانِ وَقُوَّتُهُ، وَيَتَوَفَّرُ عَقْلُهُ وَيَجُودُ رَأْيُهُ. انْتَهَى.وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] . قَالَ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ، وَاسْتَوَى. قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ فِي الْأَشُدِّ غَيْرُ ذَلِكَ، (وَ) قَدْ (رُدَّ) هَذَا عَلَى ابْنِ خَلَّادٍ حَيْثُ لَمْ يَعْكِسْ صَنِيعَهُ، وَيَجْعَلِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي وَصَفَهَا مِمَّا ذُكِرَ حَدًّا لِمَا يُسْتَحْسَنُ، وَالْخَمْسِينَ الَّتِي يَأْخُذُ صَاحِبُهَا غَالِبًا فِي الِانْحِطَاطِ وَضَعْفِ الْقُوَى حَدًّا لِمَا لَا يُسْتَنْكَرُ، أَوْ يَجْعَلَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي لِلْجَوَازِ أَوَّلًا، ثُمَّ يُرْدِفَ بِالْخَمْسِينَ الَّتِي لِلِاسْتِحْسَانِ.وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَهْلٌ، بَلْ رُدَّ عَلَيْهِ مُطْلَقُ التَّحْدِيدِ، فَقَالَ عِيَاضٌ فِي (إِلْمَاعِهِ) وَاسْتِحْسَانِهِ: هَذَا لَا يَقُومُ لَهُ حُجَّةٌ بِمَا قَالَ. قَالَ: وَكَمْ مِنَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا السِّنِّ وَلَا اسْتَوْفَى فِي هَذَا الْعُمْرِ، وَمَاتَ قَبْلَهُ.وَقَدْ نَشَرَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ مَا لَا يُحْصَى، هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تُوُفِّيَ وَلَمْ يُكْمِلِ الْأَرْبَعِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَمْ يَبْلُغِ الْخَمْسِينَ، وَكَذَا إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَهَذَا مَالِكٌ قَدْ جَلَسَ لِلنَّاسِ ابْنَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ، وَشُيُوخُهُ رَبِيعَةُ وَابْنُ شِهَابٍ وَابْنُ هُرْمُزَ وَنَافِعٌ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَغَيْرُهُمْ أَحْيَاءٌ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ شِهَابٍ حَدِيثَ الْفُرَيْعَةِ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ قَدْ أُخِذَ عَنْهُ الْعِلْمُ فِي سِنِّ الْحَدَاثَةِ، وَانْتَصَبَ لِذَلِكَ فِي آخَرِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ. انْتَهَى.وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي (جَامِعِهِ) مِنْ طَرِيقِ بُنْدَارٍ قَالَ: كَتَبَ عَنِّي خَمْسَةُ قُرُونٍ، وَسَأَلُونِي التَّحْدِيثَ وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أُحَدِّثَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجْتُهُمْ إِلَى الْبُسْتَانِ فَأَطْعَمْتُهُمُ الرُّطَبَ وَحَدَّثْتُهُمْ.وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْيَنِ قَالَ: كَتَبْنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ عَلَى بَابِ الْفِرْيَابِيِّ وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ. فَقُلْتُ: ابْنُ كَمْ كَانَ؟ قَالَ: ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ حَدَّثْتُ أَنَا وَلِي عِشْرُونَ سَنَةً حِينَ قَدِمْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ، كَتَبَ عَنِّي شَيْخُنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ أَشْيَاءَ أَدْخَلَهَا فِي تَصَانِيفِهِ، وَسَأَلَنِي فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (412 هـ) .قُلْتُ: وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ اسْتَوْفَى عَشَرَ سِنِينَ مِنْ حِينَ طَلَبَهُ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلَ مَا سَمِعْتُ الْحَدِيثَ وَلِي إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً ; لِأَنِّي وُلِدْتُ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (392) ، وَأَوَّلُ مَا سَمِعْتُ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ (403) .وَكَذَا حَدَّثَ الْحَافِظُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُظَفَّرٍ وَسِنُّهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ، سَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي السَّنَةِ الَّتِي ابْتَدَأَ الطَّلَبَ فِيهَا، وَهِيَ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ (693 هـ) ، وَحَدَّثَ عَنْهُ فِي (مُعْجَمِهِ) بِحَدِيثٍ مِنَ (الْأَفْرَادِ) لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَقَالَ عَقِبَهُ: أَمْلَاهُ عَلَيَّ ابْنُ مُظَفَّرٍ وَهُوَ أَمْرَدُ.وَحَدَّثَ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ خَلِيفَةَ الْمَنْبَجِيُّ وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، سَمِعَ مِنْهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ أَحَادِيثَ مِنْ (فَضَائِلِ الْقُرْآنِ) لِأَبِي عُبَيْدٍ، وَحَدَّثَ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (745) وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً، سَمِعَ مِنْهُ الشِّهَابُ أَبُو مَحْمُودٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ، وَكَذَا سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ شَيْخُهُ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي آخَرِينَ كَالْمُحِبِّ بْنِ الْهَائِمِ، حَيْثُ حَدَّثَ وَدَرَّسَ وَقَرَّظَ لِشَيْخِنَا بَعْضَ تَصَانِيفِهِ وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ.وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ: الْجَاهِلُ صَغِيرٌ وَإِنْ كَانَ شَيْخًا، وَالْعَالِمُ كَبِيرٌ وَإِنْ كَانَ حَدَثًا.
[تَأْوِيلُ كَلَامِ الرَّامَهُرْمُزِيِّ مِنَ ابْنِ الصَّلَاحِ] :(وَ) لَكِنِ (الشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ قَدْ حَمَلَ كَلَامَ ابْنِ خَلَّادٍ عَلَى مَحْمَلٍ صَحِيحٍ، حَيْثُ (بِغَيْرِ الْبَارِعِ) فِي الْعِلْمِ (خَصَّصَ) تَحْدِيدَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلَّادٍ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ فِيمَنْ يَتَصَدَّى لِلتَّحْدِيثِ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ بَرَاعَةٍ فِي الْعِلْمِ تَعَجَّلَتْ لَهُ قَبْلَ السِّنِّ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَهَذَا إِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ السِّنِّ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلِاحْتِيَاجِ إِلَى مَا عِنْدَهُ، (لَا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِي) وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَهُمْ عِيَاضٌ مِمَّنْ حَدَّثَ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ لِبَرَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ تَقَدَّمَتْ ظَهَرَ لَهُمْ مَعَهَا الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِمْ، فَحَدَّثُوا قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ سُئِلُوا ذَلِكَ، إِمَّا بِصَرِيحِ السُّؤَالِ، وَإِمَّا بِقَرِينَةِ الْحَالِ. انْتَهَى كلامه.كما وضعوا ضوابط للفتوى وشروط في المفتي حتى يخرج بها الطالب عن حيز التصدر المذموم ، ولا يتجرأ في ذلك بين متشدد ومتساهل والحق هو الوسط .وهذه الشروط التي وضعوها فيمن له أهلية النظر وتحرير المسائل ، أما من ليست له الأهلية ويعتمد في نقل فتاوى أهل العلم ولا يفتي استقلالا فهذا له ذلك مع الأمانة والثبت في النقل . قال ابن القيم في إعلام الموقعين عند كلامه على شروط الفتوى بالتقليد عند العلماء وحكم فتوى المقلد (1/36- 37 ) : والقول الثالث أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال وعليه العمل. قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه قال سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول: سمعت أبا الحسين بن بشران يقول: ما أعيب على رجل يحفظ عن أحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي بها.انتهى كلامه .فهذا تساهل منه – رحمه الله – خمس مسائل يحفظها ولعله لا يفهمها على وجهها ومع ذلك لا يعيب عليه فعل ذلك ، أما الشافعي فشرطه أشد وكذلك أحمد .
قال ابن القيم – رحمه الله – [شَرْطُ الْإِفْتَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ]:
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ لَهُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ فِي دِينِ اللَّهِ إلَّا رَجُلًا عَارِفًا بِكِتَابِ اللَّهِ بِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَتَأْوِيلِهِ وَتَنْزِيلِهِ، وَمَكِّيِّهِ وَمَدَنِيِّهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، وَيَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بَصِيرًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَيَعْرِفُ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلَ مَا عَرَفَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَيَكُونُ بَصِيرًا بِاللُّغَةِ، بَصِيرًا بِالشِّعْرِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، وَيَسْتَعْمِلُ هَذَا مَعَ الْإِنْصَافِ، وَيَكُونُ بَعْدَ هَذَا مُشْرِفًا عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَتَكُونُ لَهُ قَرِيحَةٌ بَعْدَ هَذَا، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَيُفْتِيَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَكَذَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ.وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: قُلْت لِأَبِي: مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ فَيُجِيبُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ فِي الْفِقْهِ؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ إذَا حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْفُتْيَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالسُّنَنِ، عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ، وَذَكَرَ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ.
والوسط ما قاله ابن المبارك ويحي بن أكثم- رحمهما الله – وغيرهما ممن ذكرت آنفا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ شَقِيقٍ: قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَتَى يُفْتِي الرَّجُلُ؟ قَالَ: إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْأَثَرِ، بَصِيرًا بِالرَّأْيِ.وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: مَتَى يَجِبُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفْتِيَ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ بَصِيرًا بِالرَّأْيِ بَصِيرًا بِالْأَثَرِ.قُلْت (ابن القيم ): يُرِيدَانِ بِالرَّأْيِ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَالْمَعَانِيَ وَالْعِلَلَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ وَجَعَلَهَا مُؤَثِّرَةً فِيهَا طَرْدًا وَعَكْسًا.
وقال الحافظ عثمان بن خرزاد (م سنة 282هـ) – رحمه الله تعالى – :"يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإن عدمت واحدة؛ فهي نقص، يحتاج إلى عقل جيد، ودين، وضبط، وحذاقة بالصناعة، مع أمانة تعرف منه".
قلت: – أي الذهبي-:"الأمانة جزء من الدين، والضبط داخل في الحذق، فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون: تقياً، ذكياً، نحوياً، لغوياً، زكياً، حيياً، سلفياً يكفيه أن يكتب بيديه مائتي مجلد، ويحصل من الدواوين المعتبرة خمس مائة مجلد، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى الممات بنية خالصة، وتواضع، وإلا فلا يتعن" اهـ. "سير أعلام النبلاء" (13/380) .وشرح حلية طالب العلم (ص132) .
علق الشيخ العثيمين – رحمه الله-على قوله : يكفيه أن يكتب بيديه مائتي مجلد ، ونعزي أنفسنا أن المجلدات عندهم قليلة ، قد يكون خمسين صفحة عندهم مجلد ، فإن كان هو المراد فلعل الله أن يعيننا عليه ، وإن كان المراد المجلد الستمائة صفحة فالواحد منا لو يبقى ليلا نهارا ما أظنه يكتب مائتي مجلد ، مائتي مجلد في ستين صفحة كم يساوي ؟ يساوي اثنى عشر ألفا .انتهى . هذا ليتصدر .
قال الشيخ – رحمه الله – :وقوله : يحصل من الدواوين المعتبرة خمسمائة مجلد ، أين الذي عنده مكتبة فيها خمسمائة مجلد ؟؟ على كل حال هم يقولون على قدر حالهم ، ونحن نقول الله المستعان .انتهى كلامه .
لكن هذا متيسر اليوم – ولله الحمد – للطلاب المبتدئين فالكتب العلمية متوافرة كثيرا وبأسعار معقولة وخاصة في المعارض ، وأيضا الكثير منها يوزع مجانا ..فعلى الطالب أن يحرص على تكوين مكتبة قدر المستطاع ولكن ذلك لا يغني عن حفظ العلم ..
كيف يعرف المتصدر من غيره :
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- في شرح الحلية :مسألة: لو تصدَّر طالب علم بإقامة بعض الكلمات والوعظ والتذكير بغير توسُّع، فهل يدخل في التصدَّر المذموم؟
والجواب: التصدُّر له أشكال منها:1- يبادر الإنسان بإلقاء الدروس علناً، وهو لم ينضج.( أي لم يتأهل )
قلت : يعني قرأ كتاب أو كتابين أو حضر بعض الدروس لشيخ أو شيخين ؛ أو سمع بعض الأشرطة في الوعظ والفتاوى ثم يخرج يدرس ويفتي ويعظ ولا يكتف بذلك يعد نفسه مالكا أو أحمد لا يُفتى وهو في المدينة .ومن هؤلاء ما قاله الشيخ ابن سمحان- رحمه الله- فيما قرأته عنه في بعض كتبه قال: والعجب كل والعجب من هؤلاء الجهال الذين يتكلمون في مسائل التكفير، وهم ما بلغوا في العلم والمعرفة معشار ما بلغه من أشار إليهم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في جوابه الذي ذكرناه قريبا من أن أحدهم لو سئل عن مسألة في الطهارة أو البيع ونحوهما لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء ويفتي بما قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم الذي هو أعظم أمور الدين وأشدها خطرا على مجرد فهمه واستحسان عقله؟ فما أشبه الليلة بالبارحة في إقدام هؤلاء على الفتوى في مسائل التكفير بمجرد أفهامهم واستحسان عقولهم، ثم أخذ ذلك عنهم وأفتى به من لا يحسن قراءة الفاتحة، فالله المستعان.أقول : ومن إلقاء الدروس بدون تأهل وهو لا يحسن الفن الذي يدرسه فضلا عن غيره يتقدم في المسائل الكبيرة كتفكير الحكام والعلماء وطلبة العلم الكبار أو تفسيقهم وتبديعهم، ومن هؤلاء من قد يحسن مسألة أو مسألتين مما جعلوه همهم الوحيد التكفير والطعن على العلماء وتبديعهم ورميهم بما هم منه براء ظنا من أنفسهم أن بلغوا مبلغ الرجال حتى قال قائلهم ، هم رجال ونحن رجال .. 2 – إذا جلس في المجلس جعل الكلام له ، ولم يسمح لأحد أن يتكلم، وكان شيخُنا عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – يُدرِّسُ الطلبة كما حكي لي بعض كبار الطلبة أولما بدأ يُدَرِّس في زاوية بعيدة في المسجد عن النظر، فإذا أقبل أحد قال : تعالوا اجلسوا جانبي، ثم يتبادل أطراف الحديث، كأنهم جالسين يتحدثون أو يقرءون القرآن أو ما أشبه ذلك. خوفاً من التصدُّر؛ لأن التصدُّر – في الحقيقة – بلاء يحمل الإنسان على العُجب ، وعلى أن يقول : أنا ، أنا..انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
وهو ربما لا يحسن غير تلك المسألة التي جلب بها على أهل المجلس ، وأقبح منه أن يتقصد الكذب في مجالسه على أهل العلم وطلبة العلم المعروفين المشهورين أنهم أفتوا بكذا …وكذا … والأمر ليس كذلك ..
3 – وإضافة لما ذكره الشيخ : الجرأة على العلماء يسفه هذا ، وينتقص ذاك ويحط من قيمته ، ويحتقر آخرا وينفي عنه العلم ، ليلتف الناس حوله ويصرف وجوههم إليه وهو لا يحسن أن يحرر مسألة خفيفة اختلف فيها أهل العلم ..
4- التكبر عن الأخذ عن العلماء وعدم حضور مجالسهم بحجة أنه اكتفى أو بلغ مبلغ الرجال الذين يحق لهم التصدر والفتوى ، وإذا ذُكِّر بدرس لعالم أو حلقة علم لآخر زهد فيه وفي علمه ، وليصد طلبة العلم عنه ، ولا يرضى لطلبته أن يحضروا دروس غيره من العلماء وطلاب العلم الكبار وأن يستفيدوا من علمهم لاعتقاده أنه موسعة علمية ..
5 – ومنها من يتتبع الشواذ من العلم والأغلوطات ويهارش عليها في المجالس ، ويؤخذ علمه عن كل أحد ، ويروي كل ما سمع لا ينقح ولا يحرر ، قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله .1539 – حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، نا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، ثنا أَيُّوبُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: «لَا يَكُونُ إِمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ أَخَذَ بِالشَّاذِّ مِنَ الْعِلْمِ وَلَا يَكُونُ إِمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ رَوَى عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَكُونُ إِمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ رَوَى كُلَّ مَا سَمِعَ»
6 – ومنها أيضا ما ذكره ابن عبد البر في هذا الأثر عن مالك قال : وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةَ، سَفِيهٍ مُعْلِنِ السَّفَهِ وَصَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ، وَرَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِالْكَذِبِ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ لَا يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجُلٍ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ» وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ طُرُقٍ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ هَا هُنَا وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ. جامع بيان فضل العلم (1542).
7 – ومنها أن لا يؤخذ من عرف بحادثة السن وضعف العقل ، وهو لا يحسن العلم كالخوارج فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام .عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ»(3611 -5057) وفي المسند (6/381)(3831)<<سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، أَحْدَاثٌ – أَوْ قَالَ: حُدَثَاءُ – الْأَسْنَانِ..>>.
فالخوارج ومن شاكلهم من أهل البدع من صفاتهم أنهم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام ومع ذلك تصدروا ليقلوا من خير قول البرية فهم على عكس أهل السنة الذين من صفاتهم الرسوخ في العلم ورد المحكم إلى المتشابه، إذ من صفات المبتدعة الزيغ، وقلة العلم، وابتاع المتشابه، فمن جهة الجهل بالشرع حصل لهم الزيغ، فتركوا الأدلة المحكمة واتبعوا المتشابه فقادهم ذلك إلى الابتداع.
قال الشيخ العباد – جفظه الله – في شرح لهذا الحديث من سنن أبي داود (13/542)وحدثاء الأسنان هم صغار الأعمار، أي أنهم شبان، ووصفهم بأنهم حدثاء الأسنان معناه أنهم ما تقدمت بهم السن حتى يجربوا الأمور كما جربها وعرفها من تقدم به العمر، فإن الشباب يحصل في بعضهم شيء من التسرع أو الإقدام على أشياء تكون عاقبتها غير محمودة؛ وذلك لأنه ما حصل عندهم الثبات في الرأي، والثبات في الحق.ووصفهم أيضاً بأنهم سفهاء الأحلام، وذلك مأخوذ من السفه، والأحلام هي العقول، قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:32].قوله: [(يقولون من قول خير البرية)].
هذا يوضح معنى ما سبق فيما تقدم من الأحاديث: (يحسنون القيل ويسيئون الفعل)، فهم يتكلمون كلاماً حسناً أو كلاماً جميلاً, وهو أن عندهم اشتغالاً بالقرآن، وعناية بالقرآن، ولكن حصل لهم الانحراف عن فهم القرآن، فصاروا بلاء على أهل الإسلام وحرباً لأهل الإسلام؛ ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منهم وبين فضل قتالهم، وأن قتلهم فيه أجر عظيم وثواب جزيل من الله سبحانه وتعالى.وخير البرية هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون من قوله، وكذلك يقرءون القرآن، ويشتغلون بقراءته.انتهى كلامه .
وقوله – حفظه الله -: فإن الشباب يحصل في بعضهم شيء من التسرع أو الإقدام على أشياء تكون عاقبتها غير محمودة..إلخ .
هذا صحيح كما حصل من بعض شباب الأنصار لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال ثقيف التي غنمها وقالوا: غفر الله لرسول الله؛ يعطي صناديد قريش ويتركنا! فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجتمعوا في خيمة ضربت لهم، وقال: لا يأت معهم غيرهم، فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما كلمة بلغتني عنكم أنكم قلتم كذا وكذا؟ فقال الأنصار رضي الله عنهم: يا رسول الله! أما العقلاء فلم يتكلم أحد، وأما شباب منا حدثاء الأنسان فقالوا: غفر الله لرسول الله يعطي صناديد قريش ويتركنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:<< لقد كنتم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فجمعكم الله بي>>. شرح ابن ماجة للشيخ الراجحي (10/12).
ومثل هذا ما وقع من عروة بن الزبير رضي الله عنه ؛ ثم اعتذر لنفسه بعدما بينت له أم المؤمنين عائشة الصديقة..قال الشيخ العباد حفظه الله – وحديث عائشة رضي الله عنها فيه أن عروة بن الزبير الذي هو ابن أختها فهم أنه لا حرج على من لم يطف بين الصفا والمروة، واستدل بقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
واعتذر رحمه الله لنفسه بكونه كان حديث السن، وتبين في النهاية أنه مخطئ في فهمه للآية، وأن المقصود أن الإنسان لا يترك السعي بين الصفا والمروة، فقالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما).
إذاً: عروة رحمه الله اعتذر عن نفسه بكونه حديث السن، وهذا يدل على أن حدثاء الأسنان يحصل منهم أمور وأخطاء لا تنبغي؛ بسبب سوء الفهم، ولكن الكبار هم الذين يرجع إليهم ويعول على كلامهم، كما حصل من عائشة رضي الله عنها وأرضاها حيث بينت له أن الأمر ليس كما يفهم ولو كان الأمر كذلك لكانت الآية: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما)، ثم بينت له سبب نزول الآية،شرح سنن أبي داود للعباد(27/222)
وختاما أقول : فطالب العلم تواق للعلم معظم لأهله وبالصدق في الطلب والإخلاص فيه والحرص الشديد عليه ، والمواصلة في الطلب ،والتفرغ له، والتحرق للإطِّلَاعِ عَلَى حَقَائِقِ الْمَعَارِفِ وقواعد العلم وضوابطه تََكَتملُ أهليته ، وَالْفَاضِلُ الْكَامِلُ بِمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ يَتَفَوَّقُ وَيَتَفَضَّلُ لَا بِتَحْسِينِ هَيْئَةِ اللِّبَاسِ وَالْمُزَاحَمَةِ عَلَى التَّصَدُّرِ فِي مَجَالِسِ النَّاسِ.
قَالَ الْحَكِيمُ الْفَارَابِيُّ:
أَخِي خَلِّ بَاطِلَ ذِي حَيِّزٍ … وَكُنْ وَالْحَقَائِقَ فِي حَيِّزِ
فَمَا الدَّارُ دَارُ مُقَامٍ لَنَا … وَمَا الْمَرْءُ فِي الْأَرْضِ بِالْمُعْجِزِ
يُنَافَسُ هَذَا لِذَاكَ عَلَى … أَقَلَّ مِنْ الْكَلِمِ الْمُوجَزِ
مُحِيطُ الْعَوَالِمِ أَوْلَى بِنَا … فَلمَاذَا التَّنَافُسُ فِي الْمَرْكَزِ
وصل اللهم وسلم على عبد ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتب : أبو بكر يوسف لعويسي 14/1/1436هـ
—————–
الهوامش :
1 – 914 – وَقَالُوا: لَا يَجْتَرِئُ عَلَى الْكَلَامِ إِلَّا فَائِقٌ أَوْ مَائِقٌ " جامع بيان العلم وفضله (1/549).
(2)قلت : قد تخوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من هؤلاء في قوله :<< وَإِنَّ مِنْ أَخْوَفِ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ المُضلِّين>> صحيح ـ ((الصحيحة)) (4/ 252 و 1957).وقوله : من حديث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ فَيَزِيدَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رجلٍ» . (حسن)رَوَاهُ ابْن مَاجَه ".
(3)فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي (2/274)ومجموع مؤلفات الشيخ عبد السلام البرجس (مجلد2/92) الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم .
(4)مجموع مؤلفات الشيخ عبد السلام البرجس (مجلد 2/93-94)الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم .