أود اليوم أن أناقش موضوعا مهما، وهو موضوع المديح أو الأمداح النبوية، وهو نوع من الغناء يقوم على اتخاذ النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بأخلاقه أوصفاته أو سيرته موضوعا للإنشاد، سواء باستعمال آلات موسيقية أو مؤثرات صوتية أو بدونها…
إن أهمية هذا الموضوع تكمن في أن العديد من الشباب هذه الأيام، والذين يحسبون على التيار الإسلامي أو الذين يريدون أن يلتزموا بالدين الإسلامي وسط هذه الدوامة من الفتن التي قال عنها النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنها كقطع الليل المظلم، نراهم يلوذون إلى هؤلاء "المادحين"، ويعتبرونهم بديلا للاستماع ومشاهدة الأغاني الماجنة والكليبات المائعة. خصوصا وقد أجاز لهم بعض الشيوخ والعلماء هذا، كما أن البعض سكت عنه.
لكن هذا كله لا يمنعنا أن نقول ما نراه ونبدي وجهة نظرنا في هذا، ونساندها بما نراه من أدلة و حجج مؤيدة لهذا الرأي. أما الإفتاء فله أشخاصه الذين يقدرون عليه.
ولعنا نأخذ القضية من بدايتها، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل حسان بن ثابت رضي الله عنه بعد إسلامه، ليتصدى لشعراء المشركين مثل أبي سفيان و الزيعري وعمرو ابن العاص و ضرار بن الخطاب، الذين حاولوا تسخير أشعارهم للنيل من الإسلام ونبيه.
وهكذا كان حسان ابن ثابت يدافع عن الدين و الرسول. والذي يقرأ ديوانه لا يكاد يجد فيه مدحا للنبي كشخص وذات، وإنما يمدحه كرسول ونبي بأخلاقه العظيمة، وهو الذي قال:
هجوتَ محمداً، فأجبتُ عنهُ، وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
أتَهْجُوهُ، وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ، فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ
هجوتَ مباركاً، براً، حنيفاً، أمينَ اللهِ، شيمتهُ الوفاءُ
وغير هذا المثال كثير، مما يدل على أن شاعر النبي لم يغالي في المدح، ولو كان ذلك لنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، كما نهى غيره كما سنرى. إنما شعره هو عبارة عن ديوان تاريخي لحقبة النبوة، وليس فيه شيء من اللغط مما تلهج به ألسنة هؤلاء الذين يصفون أنفسهم أو يصفهم الناس بأنهم مادحين للمصطفي عليه الصلاة والسلام.
ولنا هنا شاعر أخر ممن سمع النبي شعرهم ورحب به، وهو كعب بن زهير، صاحب القصيدة الشهيرة: "بانت سعاد"، التي ألقاها في حضرة النبي، الذي أهداه بردته جزاءا على هذه القصيدة. لكن حين نبحث في هذه القصيدة نجد أن أقوى وأروع ما قاله في النبي هذه الأبيات:
إِنَّ الرَسولَ لَنورٌ يُستَضاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ
في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّا أَسَلَموا زولوا
زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ
شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
إلى أخر القصيدة دون أن يصل به المقام إلى مثل ما وصل عند بعض المادحين المتأخرين. كما سنرى ذلك.
ولا يهمنا هنا أن نتحدث عن الظاهرة كحدث تاريخي ظهر منذ القرن السابع، على يد المتصوفة، بداية بقصيدة البوصري لأن هذا سيأخذنا طويلا، ويدخلنا في متاهات فكرية وعقائدية لا نريد أن نخوض فيها. وإنما سنقف لنعطي بعض الأمثلة لما قاله بعض المغالين في هذا الباب، ثم نعوج إلى البحث في رأي الدين في هذا:
يا سيدي يا رسول الله يا سندي ** يا واسع الفضل والإحسان والمدد
يا من هو المرتجى في كل نازلة ** ومن هو المورد الأحلى لكل صدِ
يمناك فوق البحار الزاخرات ندىً *** تعطي الجزيل بلا حصر ولا عدد
كم شدة أنت كافيها وكم محن *** حلت يمينك منها سائر العقد.
——–
يا أكرم الخلق أدركني وخذ بيدي *** في القلب والجسم آلام تعاودني
إذا نظرت إليها اليوم لم تعـــــد *** أأشتكي الضيق والحرمان في بلد
فيها غياث البرايا منحة الصمد *** فيها الحبيب الذي ترجى شفاعته
ويستجار به في أعظم الشـــــــدد *** كل المطالب والحاجات إن فقدت
فإنها ترتجى في هذه البلد *** يا آخذاً بيد الملهوف هاك يدي
مبسوطة لسؤال العطف والمدد.
——–
كما أن الإمام البوصري كان من أشهر الذين بالغوا في هذا النوع من المدح، إذ يقول:
إن آت ذنباً فما عهدي بمنتقض * * * من النبي ، ولا حبلي بمنصرم
فإن لي ذمةً منه بتسميتي * * * محمداً ، وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي * * * فضلاً فقل يا زلة القدم
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به * * * سواك عند حلول الحادث العَمِمِ
ومن المعاصرين كثير ممن ساروا على هذا النهج، ولعلنا سنكتفي بذكر أمثلة عن أولئك الذين فتن بهم الشباب هذه الأيام. فنجد منهم من يقول:
ليس هناك أي شخص
يمكنه حتى أن يقترب من عظمته
وشخصيته وجماله
مشى على وجه الأرض
كم أغبط كل حجر وشجر
وكل ذرة رمل
مشى عليها برجليه الكريمتين
أو قبلت يديه الشريفتين
يا رسول الله… (مترجمة عن الإنجليزية)
ولبد أن نشير إلى أن أغلب العلماء أنكروا هذا وردوا على هذا اللغط، الذي لا نجد له دليلا من القرآن والسنة، إنما هو بدعة أملتها سيرورة تاريخية و أسباب اجتماعية وحضرية. إنما نجد أدلة كثيرة تنكر هذا، ومن هذه الأدلة:
"عن عبد الله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى ـ قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان. رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن ناساً قالوا: يا رسول الله: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل. رواه النسائي بسند جيد.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله.
وفي الصحيح عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم؟ فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ { آل عمران: 47}.
وفيه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً بعدما يقول:سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ (47) الآية.
وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت: لَيْسَلَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ.
وفيه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ـ قال: يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً.
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، فمن كان محبا للنبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة فليحرص على إتباعه فإن ذلك دليل محبة الله ورسوله، كما قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم { آل عمران: 31}."
نعم إنه أمر مهم أن تتضح الأمور ولا يبقى لبس بدعوى أننا في زمان فيه أولويات، لأن هذا الدين العظيم لا يرضى لأتباعه أنصاف الحلول ولا الألوان الرمادية. بل إنك تستغرب حين تسمع البعض يقول بأن هذه الأغاني أحسن وسيلة لتحبيب الدين ونشره عند غير المسلمين.. فما أهولها من نكسة حين نرضى أن نسوق ديننا كما تسوق المنتجات بالكذب والتنميق ومحاولة جعله محصورا في التغني بالرسول و التفكه باسمه وأوصافه و مكارمه التي أوصلناها إلى مستوى الربوبية..
إننا بهذا نقدم لغيرنا صورة لا تختلف كثيرا عما لديه في معتقده الذي يؤله عيسى –عليه السلام- ويجعله أيقونة تعلق في البيوت و الكنائس وعلى الصدور، لا في الصدور..
أو كذا بجعله مادة تطرب أنفسنا، ونحي بها السهرات الملاح وسط تصفيق الجمهور، ونجعل اسم محمد كلمة تلوكها ألسنة الحيارى أو الذين يبحثون عن الربح والشهرة خلف هذا القناع..
أو بأن نعود أبناءنا على هذا النوع من الغناء، معتقدين أننا نقودهم في المسلك الصحيح، ونترك كتاب الله جانبا لا يعرفون عنه شيئا..
إن حب محمد أسمى واجل من هذا الهراء، إنه حبه كما أحبه صحابته –رضوان الله عليهم- فقدموا أرواحهم لينصروا فكرته ويحموها ويجهروا بها ويطبقوها في سرائرهم.. وفي نصرته و دراسة سيرته وتجسيدها في كل زمان ومكان.. وفي الدفاع عنه أمام كل من أراد أن ينال من شخصه وسمو مكانته ونقاء سريرته.. وفي اتخاذه أسوة حسنة وتجربة بشرية قابلة لأن تتكرر وتعاد، لأنها مستمدة من كتاب الله الذي لا يزال أمامنا يدعونا أن نستمسك به.. لأن الفكرة التي آتى بها أهم من شخصه وأجل. أما محمد فرسول خلت من قبله الرسل، لا اقل ولا أكثر.
بارك الله فيك و جزاك خيرا
موضوع روووووووعة