أعتقد أن الإيمان بالحوار يعد المدخل – وربما الوحيد – لنعود بمجتمعنا / مجتمعاتنا إلى التاريخ ، فننضم – من ثمّ – إلى قافلة البشر بقدر ما نبتعد عن التديّن السطحي ، ونكف عن الانشغال / الاشتغال بقضايا وهمية / شكلية ، ما يولّد – لا محالة ، وبفعل عوامل القهر السياسي والتفكك الاجتماعي – وعياً زائفاً وضميراً مرتبكاً وعقلاً متدهوراً على كل صعد الحياة.
نحن المسلمين نفخر بانتمائنا لهذا الدين العظيم الذي له علينا أن نؤمن بأن الإنسان له " عقل " هو " مناط التكليف " ، والذي هو آلية تقبّل الفكر المتنوع دليلاً على الثقة بهذا العقل الذي هو " أعدل الأشياء قسمةً بين الناس."
وحديثاً لفتَ الانتباهَ أصوليون ثقات ، كـ محمد عبده ومحمد سعاد جلال ومحمود شلتوت ، إلى خطورة التوحيد بين النص وفاهمه / مفسره ؛ فالنص ، قرآناً كان أم سنة ، شيء ، وفاهمه / مفسره شيء آخر ، لأن في هذا التوحيد توسيعاً لدائرة المقدس ، حيث لا قداسة عندنا إلا لما قاله الله تعالى ، أو ما جاء ، صحيحاً ، على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكم حذّر هؤلاء الأصوليون الكبار من أن التوحيد بين النص وفاهمه / مفسره ، أو مؤله ، سيسحب القداسة التي هي – فقط – للنص إلى الفاهم / المفسر أو المؤل ، فيكون – والحال هذه – كمن يختبيء وراء أصبعه وينتظر من الناس ألا يروه .
وقد ميز هؤلاء بين الدين والتدين ، وميزوا بين الشرع والفقه ، وميزوا بين الحوار والسجال ، تمهيداً للكلام في علاقة العقل بالنقل ، مع التأكيد على قدر صعوبة أن يكتشف المرء أن ما كان يتعاطف معه وجدانياً لم يكن هو الصواب .
فالدين شيء والتدين شيء آخر ؛ حيث هناك فارق جوهري ومهم بين الدين والتدين ، أو بين دين الله تعالى الحق ونوعيات تديّن البشر في أزمنتهم المختلفة ؛ فالله تعالى ينزّل الدين خالصاً ونقياً ليرقى به الناس ، لكن البشر هم الذين يضعون بصماتهم / آراءهم على الدين حين يتدينون ، فتظهر – مِن ثَم – تلك الفجوة بين الدين الحق وبين تديّن البشر ، ويضع البشر صورة قانونية تشريعية للتدين الذي يمارسونه ، ودليل ذلك تأثر مذاهب الفقه بكل ما يتعلق بصاحب المذهب الفقهي من ظروف اجتماعية وسياسية ونفسية ، ما يعود – بشكل أو آخر – على المذهب وأتباعه .
والشريعة شيء والفقه شيء آخر ؛ فالشرع هو ما يؤخذ مباشرة من الله تعالى ، من خلال آيات القرآن الكريم ، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم ، من خلال السنة النبوية المطهرة . أما الفقه فهو ما يضعه الفقهاء ، وما يصوغه الشراح ، ويفسره المفسرون . ومن هنا يمكن القول بأنه بينما الشرع – باعتباره منزلاً من عند الله تعالى – مصون لايمكن أن يخطيء ، فإن الفقه – باعتباره عملاً من أعمال البشر – غير مصون ولا محصن ضد الخطأ ولامقدس ولا معصوم ، لأنه رأي بشر قال أو عمل به ، تبعاً لفهمه هو ، ونتيجة لازمة لظروف بيئية معينة لابسته وعايشته . لهذا نستطيع القول بأن الشريعة – في الجوهر – منهاج يسعى إلى الكمال ، ولذا فلا تعارض بينها وبين العقل ، والشريعة – بمعنى أدق – تجمع العوائد ، ولهذا فقد صدق من قال إن الفقه ليس هو الشرع بالضرورة ، تأسيساً على أن كل ما تأتي به الشريعة يكون تابعاً للعوائد ، وهو – لهذا – يتغير حكمه إذا ما تغيرت عادة قديمة إلى عادة جديدة ، لأن الفقه – في مجمله – اجتهاد لاستنباط الأحكام يقوم على أساس العقل والرأي ، وهو – بهذا الوصف – غير ملزم إلا حين يُفضي إلى مصالح ملموسة واقعاً في أرض الناس ، وهذا معناه – أيضاً – أن الفقه ليس الكتاب ولا السنة ، لأنهما – وحدهما – المصدران الإلهيان ، أما هو – الفقه – فعمل من أعمال هذا الفقيه أو ذاك ، ومن هنا فقد جاء " إن الشريعة الإسلامية – إذاً – ثابتة لا تتغير ، لأنها ترسم إطاراً واسعاً شاملاً يتسع لكل تطور ، أما الفقه الإسلامي فمتغير ، لأنه يتعلق بتطبيقات قانونية لتلك المباديء العامة في القضايا والأوضاع المتجددة التي تنشأ من تطور الحياة وتغير العلاقات وتجدد الحاجات " . ونزيد – سعياً وراء ثقافة معرفية فقهية – أنه لما كانت الأصول الشرعية الدالة تنحصر – في المقام الأول – في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، فإن استنباط الأحكام منها استلزم توليد الإجماع والقياس ، وهذا استلزم – بدوره – اختلافاً أدّى – أخيراً – إلى ظهور مذاهب فقهية عديدة أشهرها المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة والمعتمدة … وهي : المذهب الحنفي … نسبةً إلى أبي حنيفة النعمان " 80 : 150هـ " وهذا المذهب يعد أول المذاهب الفقهية الأربعة وأكثرها أخذاً بمبدأ القياس . ثم المالكي … نسبةً إلى مالك بن أنس " 95 : 179 هـ " الذي يمكن اعتباره أول من فتح باباً فقهياً جديداً هو عمل أهل المدينة . ثم الشافعي … نسبةً إلى محمد بن إدريس الشافعي " 150 : 204 هـ " الذي يمكن القول بأنه يعد أول واضع لعلم أصول الفقه . ثم الحنبلي … نسبة إلى أحمد بن حنبل " 164 : 241 هـ " الذي – ربما – تكون مشكلة خلق القرآن قد جعلت منه أسطورة في نظر جمهور عريض من المسلمين . علاوةً على مذاهب فقهية أخرى أقل اشتهاراً عن تلك الأربعة … وهي : مذهب الشيعة … الذي أقيم – في الأساس – على تناول بعض الصحابة رضي الله عنهم بالقدح ، وعلى القول بعصمة الأولياء الشيعة ورفع الخلاف عن أقوالهم . ومذهب الظاهرية … صاحب التشدد المعروف في ضرورة الأخذ بحرفية النص الدال ، ورفض – بل وتبديع – الرأي . ومذهب كل من الأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد وسفيان بن عيينة والطبري .
والحوار شيء والسجال شيء آخر ، حيث يعني الأول ( = الحوار ) الاستعدادَ المعرفي المعلن والمقبول من كل طرف بقبول حجة / برهان الطرف المخالف / الآخر ، إذا أصاب الحق / الصواب ، ما يعني استعداد هذا الطرف أو ذاك قبول تعديل الموقف / المواقف التي كان عليها قبل بدء الحوار إلى موقف / مواقف أخرى ثبت بالحوار صدقها .
أما السجال فهو يمثل حرباً إن لم تكن باللكمات فبالكلمات والصرخات والتشنجات المعرفية التي تمثل نوعاً مقيتاً من دعوى امتلاك الحقيقة المطلقة والصواب الأخير . غاية الحوار بناء / اتخاذ موقف جديد يمثل التقدم والنضج الفكري / العقلاني ، بينما غاية السجال هدم أفكار الطرف الآخر / المقابل ، بحسب مفردات " من ليس معي فهو عليّ " وكأنه لا يوجد في دنيا الأفكار إلا الأبيض والأسود ، بينما كان متقدمونا يتمنون ، وبنصوصهم ، أن يُظهر الله الحقَّ ولو على ألسنة خصومهم .
فهذا مالك يقول " كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا المقام " .
وهذا أبو حنيفة يقول " رأينا هذا أفضل ما قدرنا عليه ، فمن جاءنا بأفضل منه تبعناه " .
وهذا الشافعي يقول " رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " .
ومثل هذا كثير مما لا يحتمله المقام ، أشار إليه ابن المقفع بكلامه عن العدل والمصلحة كأسس للتشريع ، وأشار إليه الطوفي بكلامه عن المصلحة مدخلاً للتشريع مستقلاً ، وأشار إليه محمد عبده ، وغير هؤلاء كثير .
أما العقل والنقل فهما مكملان لا متعارضان ، لكن لأهل النقل آفات وكذلك لأهل العقل ، إلا أن أهل العقل لم يخرجوا خصومهم من الدنيا ، فضلاً عن الآخرة !!! بينما ينظر بعض أهل النقل إلى العقل ، وأهله ، نظرة شبهة ، لأنهم يرون العقل قاصراً حتى عن تفهم المصلحة الاحتماعية فضلاً عن نيلها ، ما يوجد – ضرورةً – وصاية لأهل النقل – بحسب تاويلاتهم للنص لا بحسب النص نفسه – على مصالح العباد والبلاد ، ثم على مقدراتهم بدعوى أنهم الأعلم بـ " مقاصد / مرادات " السماء .
يُتْبع …
قد يرى المتابع ، وهو أسوان ، من يضع مخالفه تحت لافتات معيبة كـ " الضلال " و " الجهل " إلى آخر هذه المسميات التي تريد " حبس " الإنسان في فكر " غيره " ، وهذا أمر بقدر ما هو ضد طبيعة " الأشياء " فهو ضد طبيعة " الأفراد " … فالمقدسي في كتابه " البدء والتاريخ " يرى " : " كما لاتجد اثنين على صورة واحدة وصبغة واحدة وهمة واحدة ، إلا في الشاذ النادر ، فكذلك في وجود اثنين على رأي واحد وخاطر واحد " . ويرى :" وإذا كان الدين الواحد يجمع عالَماً من الخلق ، فإن الآراء تتوزعهم والهمم تتشعب بهم " !!! ، وهذا دفعنا لأن نصرخ : " هنالك آخرون " .
يتأسس حق الاختلاف ، والمخالفة ، إلى أسس … منها ما هو واقع بحياة الناس عبر استقراء تاريخهم سواء منه البعيد أو القريب ، ومنها ما هو قائم بدليل العقل ، ومنها ما هو قائم بدليل الشرع .
لا شك أن البشر ، كل البشر ، مختلفٌ ، بحيث يصح صعوبة ، وربما استحالة ، جمع الناس على رأي واحد ، فتلك طبائع الأشياء ، ولو افترضنا ، جدلاً ، كون البشر متماثلين لامّحى التعدد والتكثر ، ولرأينا هؤلاء البشر نسخاً عن أصل واحد ، ما يهدد بضياع " الفردية " … تلك التي تعد المَيْزة الأساس للوجود الإنساني على حقيقته … فـ " كلهم آتيه يوم القيامة فرداً " ( سورة مريم : آية رقم 95 )
ونعتقد أن هذا الاختلاف لزومٌ لبعض مكونات " التفكير " الإنساني كحرية الفكر ، وكاختلاف طرق الاستدلال بين فرد وآخر !!! ولذا تأسس " الاجتهاد " كأحد مصادر التشريع .
إن المطالع لسيرة الفكر في عالمنا الإسلامي يلاحظ ، دون مشقة ، وجود الاختلاف الذي هو ظاهرةُ صحةِ لا مرض : فالمدارس الفقهية مختلفة ، والفرق الكلامية متعددة ، والطرق الصوفية متنوعة ، ومناهج التفسير متعارضة !!! حتى قال قائلنا " الحق النظري متعدد ، وهو طُرق الاستدلال طبقاً لاختلاف المجتهدين ، والحق العملي واحد من حيث هو الصالح العام الذي يهدف الاجتهاد إلى تحقيقه ".
والقرآن الكريم ، وهو مرجعنا الأساس ، يشدد على زعمنا هذا ؛ ففيه بيان أن الاختلاف أمر طبعي في التكوين الإلهي للكون والأشياء والأفراد ، فتقوم سبع إشارات فيه بهذا الشأن ، تشير ستٌّ منها إلى المدلول الإيجابي للاختلاف الذي هو في ظواهر الطبيعة كاختلاف الليل والنهار … وذلك ورد في خمسة مواضع ، وكاختلاف الألسنة والألوان … وذلك ورد في موضع واحد ، ثم تشير إشارة واحدة إلى المعنى السلبي للاختلاف حال قام بشأن القرآن الكريم الذي لا خلاف حوله … " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " ( سورة النساء : آية رقم 82 ) .
وقد جاء اللفظ " مختلف " عَشْرُ مرّات ، منها سبعُ مرات بالمعنى الإيجابي المشار إليه آنفاً ، وهو اختلاف مظاهر الطبيعة ، واختلاف ألوان الشراب الذي يخرج من بطون النحل والذي يحمل شفاءً للناس ، واختلاف ألوان الجبال ، واختلاف ألوان الناس والدواب ، واختلاف أُكُل الزرع والنخل ، واختلاف ألوان ما في باطن الأرض ، واختلاف ألوان الثمرات ، واختلاف ألوان الزرع .
ويأتي اللفظ مرة واحدة بمعنىً إيجابيٍّ في اختلاف الآراء ، ما يشير ، ولو من طرْف خفيٍّ ، إلى توحد الاختلاف في الطبيعة مع الاختلاف في الرأي ؛ فالطبيعة والذهن ، كلاهما ، من نظام واحد … " ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدة ، ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم " ( سورة هود : الآيتان رقم 118 ،119 ) .
ثم يأتي اللفظ بمعنىً سلبيٍّ مرتين فقط ، وذلك حال كان الموضوع المتناوَل خارج نطاق المعرفة الحسية المباشرة كالكلام بحق يوم القيامة " إنكم لفي قول مختلف " ( سورة الذاريات : آية رقم 8 ) . و " عمَّ يتساءلون ، عن النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون " ( سورة النبأ : الآيات رقم 1 : 3 ) .
أما فعل " اختلف " ، فقد جاء في القرآن الكريم ثلاثين مرة .
يُتْبع …
( 3 ) :
كثير ، بل معظم ، ما له تعلق باللفظ / الفعل اختلف له تعلق بـ " أهل الكتاب " ، حيث هم ، بحسب القرآن الكريم ، قد " اختلفوا " من بعد أن جاءتهم البينات !!! : فقد اختلف اليهود والنصارى فيما له تعلق بأقوال أنبيائهم ، كذلك فيما له تعلق بكتبهم ، فكان أن قام بينهم نزاع ومجادلة أقاما بين الناس شقاقاً وعداوة !!! … : " وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شِقاق بعيد " ( سورة البقرة : آية رقم 176 ) ، وواضح أن ذم هذا الاختلاف قام على أساس أنه اختلاف في " الأصول " لا " الفروع " !!! … في " الكتاب " لا في " تفسير " الكتاب !!! … في " الوحي " نفسه لا في " فهمه " أو " تأويله " حتى !!! … " ولقد آتينا موسى الكتاب فاختُلِف فيه " ( سورة هود : آية رقم 110 ) ،( سورة فصلت : آية رقم 45 ) .
ثم قد يتطور الاختلاف فيعلو درجة ليسير مِفصلاً بين الكفر والإيمان !!! ؛ فـ " اختلَفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر " ( سورة البقرة : آية رقم 253 ) .
والأسئلة ذات التعلق بهذا التحور في الاختلاف كثيرة :
كيف يقع الخلاف بعد العلم ؟ … : " فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم من العلم بغياً بينهم " ( سورة آل عمران : آية رقم 19 ) ، و ( سورة الجاثية : آية رقم 17 ) .
– وكيف يقع الشقاق والأصل واحد ؟ … أكبر الظن ، إنْ لم يكن جملة اليقين ، أن الخلاف الذي قام هنا ظنيّ احتمالي يقوم على الشك … بل ربما قام على الهوى والمصلحة !!! … : " وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه " ( سورة النساء : آية رقم 157 ) . والاختلاف قد يقع في العقائد ، كما هو الحال في اختلاف النصارى في شخص المسيح عليه السلام !!! ، وقد يقع في الشرائع ، كما هو الحال في اختلاف اليهود في " السبت " … فـ : " إنما جُعل السبت على الذين اختلفوا فيه " ( سورة النحل : آية رقم 124 ) .
وهذه الأسباب الموجِدة للاختلاف كانت ضمن أسباب نزول القرآن الكريم على خاتم / آخر النبيين ( = محمد صلى الله عليه وسلم ) ، ذلك ليبين لهؤلاء المختلفين ما اختلَفوا فيه ، كما ليحيل الظن إلى يقين والشك إلى تثبّت / تَبيُّن !!! … فـ : " وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " ( سورة البقرة : آية رقم 213 ) و : " وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه " ( سورة النحل : آية رقم 64 ) و : " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " ( سورة النمل : آية رقم 76 ) … ثم يبين القرآن الكريم " احتمالية " دوام الاختلاف !!! ؛ فحال لم يهتد " أهل الكتاب " ، ولم يرضوْا بهذا الفصل فيما اختلفوا فيه … وهو " فصل " موحي به من الله تعالى ، فإن الأمر ، برمته ، سيُترك لله ، سبحانه ، ليحكم بين هؤلاء يوم القيامة … فـ : " ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون " ( سورة آل عمران : آية رقم 55 ) .
الأصل ، برأينا ، الاتفاق ، فيصبح الاختلاف فرعاً !!! فـ : " وما كان الناس إلا أمةً واحدة فاختلفوا " ( سورة يونس : آية رقم 19 ) … ما يعني أن الحكم يوم القيامة إنما هو " عود على أصل " الخلقة الأولى .
مما فات ، نستطيع رؤية أن الاختلاف نوعان …
يُتْبع …
(4) :
أما نوعا الاختلاف فهما :
الأول : اختلاف بَشري / طبعي . وبالإمكان الكلام في أنه اختلاف " تنوّع " لا " تضاد " ، فضلاً عن أن يكون اختلافَ تناقض … بحسب " مربع أرسطو " وشروح فورفوريوس الصوري عليه !!!!!! ، وهذا الاختلاف يوضع بخانة ما هو إيجابي فيصدق عليه " اختلاف الأمة رحمة " .
الثاني : اختلاف الشقاق . وهو ما يقوم بالأصول / الثوابت في هذه العقيدة أو تلك ، وقد يتعذر حله إلا بأحد أمرين :
إما في الدنيا ، ووذلك ببعث لنبي جديد ، كما تم بحال اختلاف اليهود والنصارى … فكان بعث محمدٍ ، صلى الله عليه وسلم ، بدين ذي تصورات ، في معظمها ، جديدة ، فيبين أوجه الاختلاف وآليات الخروج منه .
وإما في الآخرة ، وذلك بطريق الله تعالى ، حيث يوم القيامة تتكشف الحقائق بلا مواربة !!! … حيث تظهر بواطن الأمور … وهذا هو الاختلاف السلبي الذي يؤدي، ربما ، إلى التكفير للضيق بالمخالف ، ما يعني نفيه معنوياً تمهيداً لنفيه جسدياً !!! .
إن الاختلاف الأول " داخلي " ، ويأتي حله ، وحلوله ، من داخل الجماعة عبر الاعتراف بالتنوع في أدوات التحصيل ، ومن ثم في النتائج ، فتقوم قاعدة " لنتعاونْ فيما اتفقنا فيه ، وليعذرْ بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه " .
وعلى غير ذلك ، يأتي الاختلاف الثاني ليخرج بأصحابه خارج دائرة التدين ، فيكون الحل من الخارج ، إما بكتاب ، ونبي ، جديد ، وإما بالتأجيل ليوم البعث حيث " نهاية " التاريخ ، وكذا نهاية " الأهواء " و " المصالح " فـ " حساب بلا عمل " .
ولا محيص عن " معايشة " الاختلاف ، أو الاختلافات ، حتى نكون الأقرب إلى فهم الدوافع ، ومن ثم تجنب المضار :
* فبنو الإنسان مختلفون لاختلاف ، وربما تقاطع ، المصالح ، ومن ثم الأدوات ؛ فوجهة نظر الفقراء غيرها عند الأغنياء فيما له تعلق بقضية " توزيع " الدخل الوطني !!! ، ووجهة نظر الضعفاء غيرها عند الأقوياء فيما له تعلق بتوزيع " السلْطة " !!! ، ووجهة نظر الأقلية غيرها عند الأغلبية فيما له تعلق بنظام الحكم !!! … فـ " لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ( سورة البقرة : آية رقم 251 ) و " لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع " ( سورة الحج : آية رقم 40 ) … ثم إن القرآن الكريم ، وكذا السيرة ، يبينان لنا قدراً كبيراً من " الحوار " بين القوى المختلفة في صدر الدعوة : بين النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وقومه ، وكذا بين المؤمنين والكافرين !! ، والجميل ، هنا ، أن يقوم الحل ، ولو في البدايات ، بحسب مفردات " وجادلهم بالتي هي أحسن " ( سورة النحل : آية رقم 125 ) .
* واختلاف الطبائع ، وكذا الأمزجة ، قائم بين الشعوب والأمم بما لا يحتاج إلى جهد كبير لبيانه … حيث لكلٍّ شرعةٌ ومنهاج ؛ فأهل الصين غير أهل الهند !!! ، وأهل فارس ليسوا كأهل يونان !!! ، وهؤلاء وأولئك ليسوا كنحن العرب !!! ، والشرق ليس كالغرب !!! … ولعل الشهرستاني ، في ملله ، قد أصاب لما أن تكلم عن هذا الاختلاف حتى أكد أن شعوباً بعينها أكثر من غيرها حتى في الميول العلمية !!! ؛ فهناك منها ما يميل أكثر من الآخر نحو التجريد ، وهناك من يميل نحو الحس ، وهناك من يميل نحو المعقول !!! ، بل إن ابن سينا ، الشيخ الرئيس ، يذهب إلى الكلام في اختلاف " خصائص " الشعوب ؛ فالعرب تتجه نحو خصائص الأشياء والأفعال ، على حين يتجه اليونان نحو الصفات العمومية … فـ " لكل جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً " ( سورة المائدة : آية رقم 48 ) … وليس ذلك على سبيل " التجزؤ " ، بل التكامل من باب التكمل والمنفعة … فـ " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " ( سورة الحجرات : آية رقم 13) .
* والتاريخ ، بمراحله ، مختلفٌ ، فيفرض في كل مرحلة روح العصر الدالة على أنواع " الحراك " المجتمعي بكل أشكاله / أنماطه !!! ؛ فالقدماء غير المحدَثين ، والحضارة القديمة ليست كالحضارة الحديثة ، والعصر القديم ليس كالعصر الحديث ، والخلَف غير السلف !!! . وقارئ " الطبقات " يلاحظ الفوارق قائمةً بين ما هو قديم وبين ما هو محدَث ، فهناك طبقات الشعراء ، وكذا طبقات الأطباء ، وكذا طبقات المعتزلة ، وكذا طبقات الصوفية ، وكذا طبقات البلغاء ، وطبقات الأمم !!!!!! … وهناك الصحابة ، وهناك التابعون ، وهناك تابعو التابعين … بل حتى على مستوى " الشعر " ؛ هناك الشعر العمودي القديم ، وهناك الشعر الحر الحديث . وحتى على مستوى البنايات ، هناك المعمار القديم الذي ليس مثله المعمار الحديث !!! . بل إن إجماع " عصر " لا يُلزم إلا أهلَه لا أهلَ العصر التالي لاختلاف " الأزمنة " ومن ثم اختلاف ، أو تجدد ، العوايد ، فإن ما سلف انتهى وفات ، وما خلف قادم وآت .
ولنا أن نقف أمام الحضارة الإسلامية لنرى مسير ، ومصير ، هذه الإشكالية .
يُتْبع …
نعتقد أن الحضارة الإسلامية قامت بحسب أبجديات إنسانية … من أهمها احترامُها لقيمة الاختلاف ؛ فقد نشأت مدارس الفقه المختلفة ، وقامت الفرق الكلامية ، وقامت المذاهب الفلسفية ، وقامت الطرق الصوفية ، وقام نوعا التفسير : بالأثر ( = المنقول ) وبالرأي ( = المعقول ) ، وقام الاختلاف بين البلاغيين : هل البلاغة بالمعنى أم باللفظ ؟ ! ، وأسس الأصوليون ما يعرف بـ " منطق الاشتباه " لبيان إشكالية التعدد في الفهم : الحقيقة والمجاز ، الظاهر والمؤول ، المحكم والمتشابه ، المجمَل والمبين ، المطلق والمقيد ، العام والخاص … حتى نعلم أن مناظراتٍ قد قامت بين النحوي السيرافي والمنطقي أبي بشر حول العلاقة المفترَضة بين اللغة والمنطق باعتبار أن المنطق نحو عقلي ، وأن اللغة منطق لساني !!! ، وشيئاً فشيئاً أصبح الاختلاف موضوعاً لعلم جديد هو علم " الجدل وأدب المناظرة " لبيان التعارض والترجيح بين الأدلة … فـ " وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً " ( سورة الكهف : آية رقم 54 ) . تأسيساً على سبق عمل الأنبياء به … فـ " يا نوح قد جادلتنا فأكثرتَ جدالنا " ( سورة هود : آية رقم 32 ) وأصبح في الإسلام من المأمور به … فـ " وجادلْهم بالتي هي أحسن " ( سورة النحل : آية رقم 125 ) .
لكن لم يدم الأمر طويلاً ، حيث تم التضييق شيئاً فشيئاً متساوقاً مع ضيق النفوس وضيق العقول !!! ؛ ففي نهايات القرن الخامس الهجري توقف التعدد بدعوى " تكافؤ الأدلة " ، فقام ادعاء بأنه تعادل الشيء ونقيضه !!! ، وأنه تساوت حجج التوحيد وحجج التثليث !!! ، كما أدلة التنزيه وأدلة التشبيه !!! .
هذا ضيّع المقياس الواحد وضبب المعيار الذي يُحكم به بين الصواب والخطأ !!! ، وقد ساعد على " توحيد الرأي " !!! الغزو الصليبي لبلاد المسلمين الذي تطلّب توحيد القوى و " الآراء " !!! ، فكان السعي نحو تقنين العقائد في " قواعد " ، ثم تم الكلام في " الفرقة الناجية " !!! ما استلزم ، بالضرورة ، تكفير غيرها !!! ، وكانت الفرقة الناجية هي " الأشعرية " التي أصبحت عقيدة أهل السنة ، كما أصبح التصوف طريق الأمة !!! ، ولما اجتمعت هاتان في شخصٍ رفعَه القوم لدرجة " الحُجّة " … فكان أبو حامد الغزالي !!! الذي سيّر الناس كأنهم " منوّمون " وذلك بكتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " !!! ، الذي أراد له أن يكون معيار عقائد المسلمين ، ثم إحياء علوم الدين ، الذي قال أحدهم بشأنه تسويقاً له " لا غنى للأحياء عن الإحياء " !!!!!! ما مهّد لأن يكون هذا الكتاب ، وهو غاية في التواضع على غير صعيد ، وبغير مقياس ، المحك المحدد لطريق المسلمين .
غازل الكتابُ الأول الحاكمَ ؛ حيث أسس لمفهوم " أيديولوجية " السلطة ، وذلك لما قرّب صفات الحاكم من صفات الله تعالى ، فقد مهد للكلام في كمال ، وإطلاقية ، الحاكم !!! حتى دشّن مفهوم " حاكم غشوم ولا فتنة تدوم ".
وغازل الكتابُ الثاني الناسَ ؛ حيث وعدهم بـ " الآخرة " التي هي " خير وأبقى " لكن بثمن هو : الطاعة لأوامر الحاكم ، والاستسلام له ، كما الصبر ، لا الخروج ، عليه !!! بل حبّب الجمهور في " الفقر " وطلب إليهم الزهد والقناعة والتوكل الذي سنرى أنه أقرب إلى " التواكل " الذي هو ، بأي مقياس ، مضاد للشريعة في كل أوامرها .
كتب الرجل للسلطان " التبر المسبوك " ، وكتب للجمهور " إلجام العوام " ، ما أدخل الطمأنينة على نفس الحاكم حيث المحكومون راضون بأنصبتهم في الدنيا لأن " كل شيء مقدّر " و " بقضاء وقدر لازمين " … حتى شاع أن الحاكم ليس مسؤولاً عن " ظلمه " لأنه " كما تكونوا يولّ عليكم " ما جعل " الكُرَةَ " ، ودائماً ، في ملعب المحكوم تحميلاً له التبعية حتى على أخطاء الحاكم .
ثم الرجل تتضخم عنده " الأنا " ، فيدعو لرفض الاختلاف لأنه " عليك بالجماعة " ما مهّد لتكفير المخالف فكرياً المعارض سياسياً ، فتم تكفير الشيعة في " فضائح الباطنية " ، كما تم تكفير الفلاسفة في " تهافت الفلاسفة " .
وبمد الحبل على استقامته ، سادت " الأحادية " بديلاً عن " التعددية " في كل مناحي الحياة في المجتمع المسلم ، فسهل على عدوه دخوله : الصليبي من الغرب ، والتتاري والمغولي من الشرق ، والأوروبي من الشمال ، والتبشيري من الجنوب ، حتى تم تطويق العالم الإسلامي ، وقد تم ذلك بكلمة حق يراد بها باطل " الاجتماع على رأي واحد ضروري " و " لا وقت للتعدد والاختلاف " .
ونحن لم نزل نحاول إخراج قومنا من " ضيق " الإجماع المزيف ، إلى سعة الاختلاف " المحتَرم " .
انتهى .