السؤال:
ما حكم صوم يوم السبت في غير الفرض وبخاصَّةٍ إذا وافق يومًا مرغَّبًا في صيامه مثل يوم عاشوراء وعرفة، أو وافق عادةً للصائم كصيام أيَّام البِيض وصيام يومٍ بيومٍ؟ وما حكم إفراد مثل ذلك اليوم بالصيام؟ بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمقام يقتضي النظر في المسألة المطروحة من جهتين:
الأولى: في حكم صوم يوم السبت في غير الفرض.
الثانية: في حكم صوم يوم السبت إذا وافق عادةً مرغَّبًا في صيامها.
فأمَّا الجهة الأولى: فقد اتَّفق العلماء على جواز صوم يوم السبت في الفرض، وهو خارجٌ من صور الحالات المختلف فيها، ويشمل الفرضُ: صومَ رمضان والقضاء والنذر والكفَّاراتِ بأنواعها.
ويختلفون فيما عدا صورةَ الفرض، فمذهب الحنفية والشافعية والحنابلة جوازُ صوم السبت مقترنًا بيومٍ قبله أو يومٍ بعده أو مقترنًا بهما جميعًا(١)، وكرهوه منفردًا إلاَّ مالكًا فقد أجازه منفردًا من غير كراهةٍ، فقال مالكٌ عن حديث عبد الله بن بسرٍ عن أخته الصمَّاء رضي الله عنهما الآتي: «هذا كذبٌ»(٢)، وذكر الطحاويُّ أنَّ الزهريَّ أنكره ولم يَعُدَّه من حديث أهل العلم، وقال في صيام السبت: «لا بأس به»(٣)، وهو ما يُفْهَم من كلام أحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيِّم رحمهم الله بناءً على تضعيف الحديث وتقديم الأحاديث الصحاح الأخرى المبيحة لصومه(٤)، وهذا بخلاف من منع صومَ يوم السبت مطلقًا منفردًا كان أو مقترنًا باستثناء صورة الفرض المجمع عليها.
وغاية ما يستدلُّ به المانعون من صوم يوم السبت مطلقًا حديث عبد الله بن بسرٍ السلميِّ عن أخته الصمَّاء رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لاَ تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِي مَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْهُ»(٥)، مستدلِّين بأنَّ الحديث يمنع من صوم السبت في غير الفرض مفردًا أو مضافًا، لأنَّ الاستثناء دليل التناول، فهو يقتضي أنَّ النهي عنه يتناول عمومَ صور صومه باستثناء صورة الفرض كما ذكره ابن القيِّم -رحمه الله- ثمَّ قال: «ولو كان إنما يتناول صورةَ الإفراد لقال: «لا تصوموا يوم السبت إلاَّ أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده» كما قال في الجمعة، فلمَّا خصَّ الصورةَ المأذون في صومها بالفرضية عُلم تناوُل النهي لِما قابلها»(٦).
هذا، وفي تقديري أنَّ مذهب الجمهور أقوى دليلاً وأصحُّ نظرًا لِما ثبت من مشروعية صورة اقتران صوم السبت بيومٍ قبله أوَّلاً كما في حديث جُويريَة بنت الحارث رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: «أَصُمْتِ أَمْسِ؟»، قَالَتْ: «لاَ»، قَالَ: «تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟» قَالَتْ: «لاَ»، قَالَ: «فَأَفْطِرِي»(٧).
ولا يخفى أنَّ اليوم الذي بعد الجمعة هو السبت، فدلَّ -ذلك- على مشروعية صوم يوم السبت تطوُّعًا مقترنًا باليوم الذي قبله، ولا يقال: إنَّ جويرية رضي الله عنها وقعت في محظورٍ فجعل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لها مخرجًا، فإنَّ هذا التعليل لا يؤيِّده حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ»(٨).
كما صحَّت مشروعيةُ وصلِ السبت باليوم الذي بعده ثانيًا، ويدلُّ عليه حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الأَحَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنَ الأَيَّامِ، وَيَقُولُ: «إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ المُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ»»(٩).
كما يدلُّ على جواز وصلِ السبت بهما معًا كما تقدَّم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وما ثبت من حديث أبي ذرٍّ الغفاريِّ رضي الله عنه قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَصُومَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ الْبِيضَ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ»(١٠)، وحديثِ قتادة بن ملحان رضي الله عنه: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِصِيَامِ لَيَالِي الْبِيضِ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَالَ: «هِيَ كَصَوْمِ الدَّهْرِ»»(١١)، وأيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: «صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ»(١٢).
ولا شكَّ في دخول السبت في هذه الأيَّام كدخوله في سائر الأيَّام، بل تجوز صورة الاجتماع جوازًا أولويًّا لأنه إذا جاز صوم السبت مقترنًا بما قبله فقط أو بما بعده فحسْبُ فيجوز باقترانه بهما معًا من بابٍ أَوْلى.
وعليه فصورة الفرض خرجت بالمخصِّص المتَّصل المتمثِّل في حديث بسرٍ عن أخته الصمَّاء الموافق للأصل في التسوية بين السبت وسائر الأيَّام في الحكم.
أمَّا صورة الإضافة أو الاقتران فخرجت بالأدلَّة المنفصلة التي خصَّصت عمومَ النهي في حديث بسرٍ المتقدِّم، فلم تبق فيه سوى صورةِ الإفراد.
غير أنَّ هذا الجمع والتوفيق بين الأحاديث السابقة معترَضٌ عليه من جهتين، قال الألبانيُّ -رحمه الله-: «إنَّ هذا الجمع جيِّدٌ لولا أمران اثنان:
الأوَّل: مخالفته الصريحة للحديث على ما سبق نقلُه عن ابن القيِّم.
والآخر: أنَّ هناك مجالاً آخر للتوفيق والجمع بينه وبين تلك الأحاديث إذا ما أَرَدْنا أن نلتزم القواعد العلمية المنصوصَ عليها في كتب الأصول ومنها:
أوَّلا: قولهم: «إِذَا تَعَارَضَ حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ قُدِّمَ الحَاظِرُ عَلَى المُبِيحِ».
ثانيا: «إِذَا تَعَارَضَ القَوْلُ مَعَ الفِعْلِ قُدِّمَ القَوْلُ عَلَى الفِعْلِ».
ومن تأمَّل في تلك الأحاديث المخالفة لهذا وجدها على نوعين:
الأوَّل: مِن فعلِه صلَّى الله عليه وسلَّم وصيامه.
الآخَر: مِن قوله صلَّى الله عليه وسلَّم كحديث ابن عمرٍو المتقدِّم.
ومن الظاهر البيِّن أنَّ كلاًّ منهما مبيحٌ، وحينئذٍ فالجمع بينها وبين الحديث يقتضي تقديمَ الحديث على هذا النوع لأنه حاظرٌ وهي مبيحةٌ، وكذلك قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لجويرية: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا» وما في معناه مبيحٌ أيضًا، فيُقدَّم الحديثُ عليه»(١٣).
قلت: ما قرَّره الألبانيُّ -رحمه الله- فيه نظرٌ من ناحيتين:
الناحية الأولى: أنَّ إبطاله الجمعَ بين الأحاديث الصحيحة المتقدِّمة لمخالفتها الصريحة لحديث عبد الله بن بسرٍ في النهي عن صيام يوم السبت بناءً على أنَّ الاستثناء دليل التناول وهو يقتضي أنَّ النهي عنه يتناول كلَّ صور صومه إلاَّ الفرضَ فإنَّ هذا التعقيبَ غيرُ مسلَّمٍ من زاويتين:
الزاوية الأولى: أنَّ عموم النهي إذا كان يتناول كلَّ صور صومه باستثناء الفرض فإنَّ هذا العموم يبقى حجَّةً يتناول جميعَ جزئياته ما لم يَرِدْ دليلٌ يخصِّصه على ما تمليه القواعدُ الأصولية، وقد وردت الأدلَّةُ من الأحاديث المنفصلة تدلُّ على عدم إرادة عمومه، فوجب المصير إلى العمل بدليل التخصيص جمعًا بين الأدلَّة وتوفيقًا بين النصوص.
الزاوية الثانية: أنَّ قَصْرَ عموم النهي على بعض أفراده بالدليل المتَّصل الاستثنائيِّ إنما هو تخصيصٌ بأسلوبٍ حصريٍّ في جوازه في الفرض دون التطوُّع مطلقًا، ويتقيَّد هذا الحكم العامُّ بما إذا لم يَرِدْ دليلٌ يصرفه عن هذا المعنى، إذ الجاري في القواعد أنَّ الاستدلال بمفهوم الحصر مقيَّدةٌ حجِّيتُه بما إذا لم يَرِدْ -من منطوق الأحاديث- ما يوسِّع دائرةَ الحصر تقديمًا للمنطوق على المفهوم.
ويجدر التنبيه إلى أنَّ القواعد العامَّة لا تُلغي النصوصَ الشرعية وإنما تكمِّلها إمَّا بتخصيص عمومها أو بتوسيع مجرى حكمها، هذا إذا ما وقعت المخالفة بينهما في وجهٍ من الوجوه أو فردٍ من الأفراد، ولا يُعبأ بالقواعد إذا ما عارضت النصوصَ الشرعية من كلِّ وجهٍ، إذ معظم دلائل الفقه الإجمالية متولِّدةٌ من استقراء نصوص الكتاب والسنَّة، فلا يُعقل أن يخالف الفرعُ الأصلَ الذي تولَّد منه.
وأمَّا إسناد مخالفة الجمع بين الأحاديث للحديث إلى ابن القيِّم -رحمه الله- فقد أجاب هو بنفسه عمَّا قرَّره بما يبطل القولَ بمنع صوم يوم السبت تطوُّعًا مطلقًا ويقتضي حَصْرَ النهي في صورة الإفراد، وهو ما يتوافق مع ما تقدَّم من الجمع بين النصوص الحديثية السابقة ولا يُلغيها، قال -رحمه الله-: «وأمَّا قولكم: «إنَّ الاستثناء دليل التناول..» إلى آخره فلا ريب أنَّ الاستثناء أخرج صورةَ الفرض من عموم النهي فصورةُ الاقتران بما قبله أو بما بعده أُخرجت بالدليل الذي تقدَّم، فكلا الصورتين مُخْرَجٌ: أمَّا الفرض فبالمُخْرِج المتَّصل، وأمَّا صومه مضافًا فبالمُخْرِج المنفصل، فبقيت صورة الإفراد، واللفظُ متناوِلٌ لها ولا مُخْرِج لها من عمومه فيتعيَّن حملُه عليها»(١٤).
وقال -رحمه الله- أيضًا في موضعٍ آخر: «وقال جماعةٌ من أهل العلم: لا تعارُضَ بينه وبين حديث أمِّ سلمة، فإنَّ النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: «باب النهي أن يُخصَّ يومُ السبت بالصوم»، وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد. قالوا: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلاَّ أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده، وبهذا يزول الإشكال الذي ظنَّه من قال: إنَّ صومه نوعُ تعظيمٍ له، فهو موافَقةٌ لأهل الكتاب في تعظيمه وإن تضمَّن مخالفتَهم في صومه، فإنَّ التعظيم إنما يكون إذا أُفرد بالصوم، ولا ريب أنَّ الحديث لم يجئ بإفراده، وأمَّا إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيمٌ»(١٥).
الناحية الثانية: وهي قول الألبانيِّ -رحمه الله-: «أنَّ هناك مجالاً آخر للتوفيق والجمع بينه وبين تلك الأحاديث إذا ما أرَدْنا أن نلتزم القواعدَ العلمية المنصوصَ عليها في كتب الأصول» ثمَّ ذكر الجمعَ المتمثِّلَ في تقديم الحاظر على المبيح والقولِ على الفعل، ولا يخفى أنَّ هذا التقديمَ ليس بطريق الجمع والتوفيق بين النصوص الحديثية الذي سلكه، وإنما هو بيانٌ للقوَّة الزائدة في أحد الدليلين المتعارضين ليُعْمَل به، وهذا البيان بالتقوية وتقديمِ أحد الدليلين إنما هو طريق الترجيح لِما في أحد الدليلين من مزيَّةٍ معتبَرةٍ تجعل العملَ به أَوْلى من الآخر، والمعلومُ -أصوليًّا- في طُرُق دفع التعارض -عند الجمهور- تقديمُ الجمع على الترجيح(١٦)، لأنَّ الشارع نصَبَ أدلَّةَ الأحكام قَصْدَ العمل، والجمع والتوفيق بين الأدلَّة المتعارِضة بإعمال الدليلين خيرٌ من إسقاط أحد الدليلين والعمل بالآخر، وهو أفضل ما ينزِّهها عن النقص، بخلاف الترجيح فهو إعمالٌ للراجح وإهدارٌ للمرجوح، سواءٌ في صورة تقديم الحاظر وإهدارِ المبيح، وتقديمِ القول وإهمالِ الفعل، فكان المصير إلى الجمع والتوفيق بين النصوص الحديثية المتقدِّمة المعترَض عليه بها أَوْلى تقديمًا من جمعٍ: صورتُه -في الحقيقة- ترجيحيةٌ، فالإعمال -إذن- أَوْلى من الإهمال، والاسمُ لا يُغني عن المسمَّى.
الجهة الثانية: في حكم صوم يوم السبت إذا وافق عادةً مرغَّبًا في صيامها:
ففي هذه الجهة ينبغي التفريق بين حالتين:
الحالة الأولى: إذا وافق صيامُ يومِ السبت يومًا مرغَّبًا في صيامه ولم تكن للصائم عادةٌ ساريةٌ في الصوم: فإن كان صومُه مقترِنًا بيومٍ قبله أو يومٍ بعده مِن غير إفرادِه بالصوم جاز للنصوص الحديثية المتقدِّمة، ما عدا يومَ عرفة فإنه يُكتفى بإضافة يومٍ قبله دون الذي بعده لأنه يومُ العيد المجمع على تحريم صومه(١٧)، فكانت صورة صوم العيد خارجةً بحجِّيَّة الإجماع، فلا يجوز صومُه، سواءٌ كان له صومٌ يُعتاد أم ليس له ذلك، ذلك لأنَّ الصائم في العيد مُعْرِضٌ عن ضيافة الله، والإعراض هذا لا يجوز، قال ابن حجرٍ -رحمه الله-: «قال أبو جعفرٍ الطبريُّ: يُفَرَّق بين العيد والجمعة بأنَّ الإجماع منعقِدٌ على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده، بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقدٌ على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده»(١٨)، وعليه يبقى صومُ يوم السبت مقترِنًا بيومٍ قبله أو بعده على ما جَرَتْ عليه النصوصُ الحديثية السالفةُ البيانِ مشروعًا ما لم يمنع دليلٌ شرعيٌّ وجهًا من وجوه الأفعال.
الحالة الثانية: إذا وافق السبتُ يومًا مرغَّبًا اعتاد صيامَه فإنه يجوز له وصلُه بغيره -كما سبق- ويجوز له إفرادُه، ويدلُّ على جواز إفراد يومِ السبت بالصوم ما ثبت عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ»، قَالَ: «أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا»(١٩)، وعنه -أيضًا- قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى»(٢٠)، ولا يخفى أنَّ المقام مقامُ بيانٍ، فلو كان غيرَ جائزٍ صومُ السبت لبيَّنه صلَّى الله عليه وسلَّم، لأنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، بل جاء -في أحاديثَ صحيحةٍ- ما يدلُّ على أنَّ من له عادةٌ فله أن يستمرَّ في صيامها ولو وافق يومًا منهيًّا عن إفراد صيامه لتبقى محافظتُه على تلك العبادة وتدومَ ملازمتُه للخير حتى لا ينقطع، وقد ثبت صومُ يوم الجمعة منفردًا إذا وافق عادةً كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «وَلاَ تَخُصُّوا يَوْمَ الجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ»(٢١)، قال النوويُّ -رحمه الله-: «يُكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلاَّ أن يوافِقَ عادةً له، فإنْ وَصَلَه بيومٍ قبله أو بعده أو وافق عادةً له بأنْ نَذَرَ أن يصومَ يومَ شفاءِ مريضِه أبدًا فوافق يومَ الجمعة لم يُكره لهذه الأحاديث»(٢٢)، وكذلك ما ثبت مِن النهي عن تقدُّم رمضان بصومِ يومٍ أو يومين، ومنه النهي عن صوم يوم الشكِّ، وهذا النهي خُصَّ بالاستثناء الوارد فيمن وافق صومًا معتادًا(٢٣) في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ»(٢٤).
فهذه الأحاديث تدلُّ على استحباب صوم يومٍ منفردٍ ولو وافق يومًا منهيًّا عنه، ولا يخرج منها يومُ السبت -في جواز إفراده- عن هذا المعنى، ويؤكِّد ذلك حديثُ أمِّ سلمة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الأَحَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنَ الأَيَّامِ، وَيَقُولُ: «إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ المُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ»»(٢٥)، قال الحافظ ابنُ حجرٍ -رحمه الله-: «وأشار بقوله: «يَوْمَا عِيدٍ» إلى أنَّ يوم السبت عيدٌ عند اليهود والأحدَ عيدٌ عند النصارى، وأيَّامُ العيد لا تصام فخالَفَهم بصيامها، ويستفاد من هذا أنَّ الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الأحد ليس جيِّدًا، بل الأَوْلى في المحافظة على ذلك يومُ الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأمَّا السبت والأحد فالأَوْلى أن يصاما معًا وفرادى امتثالاً لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب»(٢٦)، وهذا الانفراد في الصوم بيَّنه الصنعانيُّ -رحمه الله- بقوله: «وحديث الكتاب دالٌّ على استحباب صوم السبت والأحد مخالفةً لأهل الكتاب، وظاهرُه صوم كلٍّ على الانفراد والاجتماع»(٢٧).
فالحاصل -إذن- أنه يجوز صيامُ يوم السبت فرضًا بالدليل المخصِّص المتَّصل المتمثِّل في الاستثناء وتطوُّعًا باقترانه بالجمعة أو الأحد بالدليل المخصِّص المنفصل ما لم يكن اليوم الذي يلي صيامَه هو يومَ العيد كما هو الشأن في صوم عرفة فيُمنع صومُ العيد بدليل الإجماع، ويجوز صوم السبت منفردًا إذا وافق عادةً بدون كراهةٍ، ويبقى عمومُ النهي عن صيام يوم السبت في حديث عبد الله بن بسرٍ عن أخته الصمَّاء رضي الله عنهما محصورًا في صورةٍ واحدةٍ وهي إفراد السبت بالصوم لمن لا عادة له بالصيام، ويخرج من النهي بإضافة يومٍ قبله أو بعده -على ما تقدَّم بيانه-، ذلك لأنَّ المعتمد -أصوليًّا- جوازُ تخصيص عموم النصِّ بالمخصِّص المتَّصل والمنفصل، وهذه المخصِّصات للعموم هي جمعٌ وتوفيقٌ بين النصوص التي ظاهرُها التعارض، وإعمال الجمع أَوْلى من النسخ الاحتماليِّ والترجيح -كما هي طريقة الجمهور-، ويبقى العموم حجَّةً بعد التخصيص في صورةٍ واحدةٍ وهي لمن لا عادة له في صيام اليوم المرغَّب في صومه، عملاً بجواز تخصيص العموم إلى أن يبقى فردًا واحدًا على أصحِّ أقوال الأصوليين.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الموافق ﻟ: ١٩ مـــارس ٢٠١٣م
(١) انظر: «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (١/ ٥٢٤)، «بدائع الصنائع» للكاساني (٢/ ١١٩)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ١١٦)، «الفتاوى الكبرى» للهيتمي (٢/ ٧٠).
(٢) انظر: «سنن أبي داود» (٢/ ٨٠٧).
(٣) انظر: «شرح معاني الآثار» للطحاوي (٢/ ٨١).
(٤) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (١/ ٣٦٣)، و«شرح سنن أبي داود» لابن القيِّم (٧/ ٦٩).
(٥) أخرجه أحمد (٢٧٠٧٥)، وأبو داود في «الصوم» باب النَّهي أن يخصَّ يوم السَّبت بصوم (٢٤٢١)، والترمذي في «أبواب الصوم» باب ما جاء في كراهية صومِ يومِ السبت (٧٤٤).
والحديث قد أُعلَّ بالاضطراب، وقد بيَّن الحافظ ابن حجرٍ -رحمه الله- وجوهَ الاضطراب ثمَّ قال في «التلخيص الحبير» (٢/ ٢١٦): «لكنَّ هذا التلوُّن في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتِّحاد المخرج يُوَهِّن راويَه وينبئ بقلَّة ضبطه، إلاَّ أن يكون من الحفَّاظ المكثرين المعروفين بجمع طُرُق الحديث، فلا يكون ذلك دالاًّ على قلَّة ضبطه».
قلت: وهذا الاضطراب غير قادحٍ لمجيء الحديث من طُرُقٍ أخرى سالمةٍ منه، قد بيَّنها الشيخ الألبانيُّ -رحمه الله- في «إرواء الغليل» (٤/ ١١٨-١٢٥) أتمَّ بيانٍ لا يَدَعُ مجالاً للشكِّ في صحَّته.
(٦) «شرح سنن أبي داود» لابن القيِّم (٧/ ٦٩).
(٧) أخرجه البخاري في «الصوم» باب صوم يوم الجمعة (١٩٨٦).
(٨) أخرجه البخاري في «الصوم» باب صوم يوم الجمعة (١٩٨٥).
(٩) أخرجه أحمد (٢٦٧٥٠)، والحاكم (١٥٩٣)، وابن حبَّان (٣٦٤٦)، وابن خزيمة (٢١٦٧)، والبيهقي (٨٤٩٧)، قال ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» (١/ ٥٠٩): «وصحَّحه بعضُ الحفَّاظ».
قلت: وممَّن صحَّح الحديثَ الحاكمُ ووافقه الذهبيُّ، وصحَّحه ابن حبَّان وابن خزيمة [انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٣٣٩)]، وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (٤٨٠٣) ثمَّ ترجَّح عنده ضعفُ إسناده كما بيَّنه في «السلسلة الضعيفة» (٣/ ٢١٩) وفي «الإرواء» (٤/ ١٢٥)، ثمَّ قال على هامش «الإرواء»: «وقد حسَّنتُه فى تعليقى على «صحيح ابن خزيمة» (٢١٦٨) ولعلَّه أقرب فيعاد النظر».
قال الأرناؤوطان في تعليقهما على الحديث في «زاد المعاد» لابن القيِّم (٢/ ٧٨): «وسنده حسنٌ لأنَّ عبد الله بن عمر وأباه قد وثَّقهما ابن حبَّان وروى عنهما أكثرُ من واحدٍ».
(١٠) أخرجه النسائي في «الصيام» باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيَّامٍ من الشهر (٢٤٢٢)، والترمذي بلفظٍ قريبٍ منه في «أبواب الصوم» باب ما جاء في صومِ ثلاثة أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ (٧٦١)، والحديث صحَّحه ابن الملقِّن في «البدر المنير» (٥/ ٧٥٣)، وحسَّنه الألباني في «الإرواء» (٩٤٧).
(١١) أخرجه أحمد (٢٠٣١٦)، وحسَّنه محقِّقو طبعة الرسالة للمسند (٣٣/ ٤٢٨)، وأخرج البخاري (٣٤١٩) عن عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: .. «صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ، أَوْ كَصَوْمِ الدَّهْرِ».
(١٢) أخرجه البخاري في «التهجُّد» باب صلاة الضُّحى في الحضر (١١٧٨)، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها» (٧٢١).
(١٣) «تمام المنَّة» للألباني (٤٠٧).
(١٤) «شرح سنن أبي داود» لابن القيِّم (٧/ ٧٠).
(١٥) «زاد المعاد» لابن القيِّم (٢/ ٧٩).
(١٦) مسلك الأحناف في دفع التعارض بين الأدلَّة بالنسخ أوَّلاً، فإن تعذَّر فبالترجيح، فإن تعذَّر النسخُ والترجيح فالجمع، فإن تعذَّرت جميع الطرق فالتساقط، قال ابن عبد الشكور -رحمه الله- في «مسلَّم الثبوت» مع شرحه «فواتح الرحموت» (٢/ ١٨٩-١٩٢): «وحكمه النسخ إن عُلم المتأخِّر، وإلاَّ فالترجيح إن أمكن، وإلاَّ فالجمع بقدر الإمكان، وإن لم يمكن تساقطا، فالمصير في الحادثة إلى ما دونهما رتبةً إن وُجد، وإلاَّ فالعمل بالأصل».
(١٧) انظر تقرير الإجماع على تحريم صوم يومي العيد: الفطر والأضحى بكلِّ حالٍ، سواءٌ مِن نذرٍ أو كفَّارةٍ أو تطوُّعٍ أو قضاءٍ أو تمتُّعٍ ونحو ذلك في: «المغني» لابن قدامة (٣/ ١٦٣)، و«شرح مسلم» للنووي (٨/ ١٥)، و«الإجماع» لابن هبيرة (٨١)، و«فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢٣٩).
(١٨) «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٢٣٤)، وانظر «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٣٤٧).
(١٩) أخرجه البخاري في «الصوم» باب صوم يومٍ وإفطار يومٍ (١٩٧٨).
(٢٠) أخرجه البخاري في «الصوم» باب صوم يومٍ وإفطار يومٍ (١٩٧٩)، ومسلم في «الصيام» (١١٥٩).
(٢١) أخرجه مسلم في «الصيام» (١١٤٤).
(٢٢) «شرح مسلم» للنووي (٨/ ١٩).
(٢٣) انظر: «المجموع» للنووي (٦/ ٤٠٠).
(٢٤) أخرجه البخاري في «الصوم» باب لا يتقدَّم رمضان بصوم يومٍ ولا يومين (١٩١٤)، ومسلم في «الصيام» (١٠٨٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢٥) سبق تخريجه.
(٢٦) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٣٦٢).
(٢٧) «سبل السلام» للصنعاني (٢/ ٣٥٠).