تخطى إلى المحتوى

في " المعقول " و " المنقول " : 2024.

[B
لا شك أن العقل يمثل شيئاً ثميناً في الإسلام ديناً وفكراً، والناظر في آيات القرآن الكريم يجد لها ميزةً لا يقع بسببها خلاف بين مسلم ومسلم ، وقلما يقع بسببها خلاف بين مسلم وغير مسلم : تلك هي اعتماد القرآن الكريم – أولاً وقبل أي شيء آخر – على العقل وتنويهه به وتعويله عليه ، خاصة في أمور العقيدة والمسئولية والتكليف .
والقرآن الكريم ليس يذكر العقل على سبيل الإشارة العارضة ، بل هو يذكره في مقام التفخيم والتنبيه إلى فرضية العمل به والرجوع إليه والرضا بأحكامه ، ما حدا بعباس العقاد أن يكتب كتاباً يحمل عنوان " التفكير فريضة إسلامية " مبيناً قدر التفكير ، وهو – التفكير – الوظيفة الأولى ، والأهم للعقل .
ولقد كان القرآن الكريم منبهاً على رفعة شأن العقل ، ومن ثم فقد أطلق القرآن الكريم للفكر ما شاءت قدرته عظمةً واستدلالاً ، ولذلك جاء القول " ما قولك في دين يقول أئمته بترجيح العقل على ظاهر الشرع عند التعارض " ؟ .

وقد نزع مفكرو الإسلام الأوائل إلى الاعتماد على العقل ، وإلى إقامة سلطان له إلى جانب النصوص المنزّلة ، فحكّموه في آرائهم ، وبالإجمال في معرفة الله وصفاته وأفعاله ، وفي الحسن والقبح في الأفعال وغير ذلك ، وظهر منهم – خاصة في فترات القوة الحضارية – الاستقلال في الرأي في كثير من المسائل .
كان هذا – إذن – جهداً معرفياً محموداً أن يقام مقام للعقل إلى جانب مقام النصوص المنزّلة ، ومن ثم وجدنا مساعٍ لتقييم الوجود على أساس الحكم العقلي ، وذلك كله كان مسعىً مأجوراً لوقف الاتجاهات الهدامة التي تحاول النيل من الإسلام ، بل وهدمه. ما دفع مفكري الإسلام – وقتها – ليعتبروا العقل مصدراً لمعرفة الحق ، والحقيقة إلى جانب الكتاب والسنة والإجماع ، فيما عُرف بـ " الأدلة ". حتى قرأنا " إن الدين هو تقرير حجة الله في عقول المكلفين " . متأسين بقوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن " وقوله تعالى " فاعتبروا يا أولي الأبصار " .
ويرى الجاحظ أنه " لولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم بتربيته وتسييد العقل ورفع قدره ، وأن يجعله حكيماً وبالعواقب عليماً ، لما سخّر له كل شيء ولم يسخره لشيء ، ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم وعالم حليم " . ما دفعه لأن يقول : " إن للأمور حكمين : حكماً ظاهراً للحواس ، وحكماً باطناً للعقول ، والعقل هو الحجة ، فلا تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل."
وهكذا خرّج أوائل المفكرين المسلمين ، في عصور القوة الحضارية ، زمن الثقة بالعقل ، بناءهم المعرفي في أصول الدين وحقائق التفسير … فقالوا في ذلك : " اعلم أن النظر لا يُراد لنفسه ، وإنما يُراد لما يوصل إليه من المعرفة " .
ولبيان ضرورة الأخذ بدليل العقل والتعويل عليه أننا " لو أسقطنا شهادة العقول لما وجدنا سبيلاً إلى المعرفة بالواحد الأحد " . وأن " من كــذّب العقل فقد كذب الشـــرع ؛ إذ بالعقل عرف صدق الشرع " ، و " لولا صـدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي ، والصادق والكاذب " .
هذا مع ضرورة اعتبار القرآن الكريم الأصل ، لأن فيه " التنبيه على ما في العقول ، بل إن فيه الأدلة على الأحكام " .
إن كلامنا عن العقل ، وضرورة احترام أحكامه ، يدل على نزوع منا نحو نشدان العمومية والإطلاق ، وطبيعي أن ذلك " الإطلاق " وتلك " العمومية " لا يتحققان في أمر إلا إذا كان ذلك الأمر " عقلياً " !! بمعنى " أن أي حكم يطمح إلى شمول القبول أو الوجوب ، ينبغي أن يدخل في إطار المعايير التي أقرها العقل " . فكأن ما يشاهَد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهـَد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً " .
وليس أبعد عن تفكيرنا التقليل من " الغيب " شرط أن نعرف أن الغيب / الإيمان به هو الإيمان بأن وراء هذا الكون رباً / إلهاً خلق ، فله أن يفني ، وله أن يُنهي ، وهو إله واحد له أن يتعبدنا كيف شاء وقت شاء كم شاء . الإيمان بالغيب أن نؤمن أن وراء الكون المحسوس قدرة وتدبيراً هما من الإله الواحد الأحد الفرد الصمد ، وهو – تعالى – حقيقة أكبر من الكون ، بل الكون المحسوس صدر بأمره " كن " .
جاء أن أحدهم قد حكى أن مخالفاً له في الرأي "مخلّـد " في النار ، لا لشيء إلا أنه – هذا الحاكي – قد رأى ذلك في المنام ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!! . وهكذا … خلّـد منامٌ مسلماً في النار لمجرد أن من تحدث للنائم كرر قوله ثلاثاً !!! فهل ترانا – على ما يبدو – مغرمين بتأبيد الآخرين – خاصة من يخالفوننا الرآي – في جهنم ، معتمدين على رؤيا أو منام ؟ . كما حكى ابن الجوزي – وبدون تمحيص – عن أحد قوله " ولما مات المعري ، رأى ( بعض الناس!!! ) في منامه كأن أفعيين على عاتقي رجل ضرير ، قد تدليا إلى صدره ، ثم رفعا رأسيهما ، فهما ينهشان من لحمه وهو يستغيث . فقال :من هذا ؟ فقيل : المعري الملحد "!!! . وهكذا أصبح هذا المنام " سنداً " لمن يأتي بعد .
إن الإسلام يؤسس بناءاته الثلاثة : الفكر على العقل ، والأخلاق على الخير ، والمعاملات على العدل . ولذا جاء الحديث النبوي الشريف " لا عبادة كتفكّر ، وتفكر ساعة خير من عبادة سنة " .
إن أهم ما يقلق مفكرينا سيادة مفاهيم " التكفير " بديلةً عن " التفكير " الذي هو الوظيفة الأهم لأشرف ما في الإنسان : العقل ، ما يعني أن حكماً ما قد صدر ضد هذا العقل المسلم أن يعيش ازدواجية مصطنعة تتمثل في وجود " نص " نظري من ناحية ، ووجود " سلوك " عملي من ناحية أخرى ؛ فالنص النظري يُعلي من قيمة العقل في عشرات من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، على حين يسير السلوك العملي في طريق الاستهزاء بالعقل بشكل لا يليق بأمة أول ما نزل على نبيها عليه الصلاة والسلام قوله تعالى " اقرأ " ، حتى رأينا أحد مشاهيرنا ، يرحمه الله ، يؤكد لمشاهديه الذين يتلقون كلامه / رأيه بتسليم دونه الخشوع ( !!! ) أن علوم الفضاء وتكنولوجيا الأقمار الصناعية كلها لا تساوي شيئاً ، وأن الإنسان الذي اخترع " ورقة الكلينكس " أو عود الكبريت قد أفاد البشرية بأكثر مما أفادها ذلك الذي اخترع صاروخاً يصل إلى القمر !!! لكن الواضح إن القائل نسى أن الأقمار الصناعية هي التي مكنت الآلاف من مشاهدة أحاديثه في غير بلد ، وكذلك فإن " شؤون الكرة الأرضية " خاصةَ العسكرية ، أصبحت تدار من الفضاء الخارجي " .
نرى ضرورة نبش / تفكيك آليات / أسباب التخلف ، وكشف أواصر الربط بينها وبين مجموعة محددة من الاختيارات السياسية والاقتصادية بل وحتى الثقافية .
ولهذا قيل "هناك من مد القداسة التي قد تكون للنص إلى العصر الذي قيل فيه هذه النص أو ذاك ، وحتى شاع بيننا تعظيم الماضي ، وزاد ذلك التعظيم كلما ازداد هذا الماضي إيغالاً في القدم واقتراباً من عصر صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم " . وهذا – كله – دفع البعض لأن يضفي على نتاج الفرق والمذاهب طابعاً أقرب إلى القداسة ، ما حوّل ذلك كله – الفتاوى والآراء – إلى جزء من " العقيدة " (!!!!) بمعنى أنه صار الخروج عن ذلك خروجاً عن الدين نفسه .
كتب ابن تيمية كتابه المعروف ( درء تعارض العقل والنقل ) ، ففهمنا منه أن لا تعارض بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح ، واعتمدنا أن العقل هو الأداة ، وأكيد الوحيدة ، التي نفهم بها النص الإلهي قرآناً كان أم سنة ، وإلا فكيف نتلقى الكلام الإلهي ونتفاعل معه ؟ وقد أبان علي كرم الله وجهه الأمر على حقيقته لما أن رد على الخوارج لما أن رفعوا القول " لا حكم إلا لله " فقال الإمام : " القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق ، بل ينطق به الرجال " . ما نفهم منه ما هو مهم ومراد تغييبه ليزداد تغييبنا فتخلفنا ، أن عقول الناس ، وقدر معرفتهم ، ودرجة فهمهم ، هذا كله هو ما يصوغ المعنى ويحدد الدلالة.
فقوله تعالى في الآية رقم 89 من سورة النحل " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء " يعني أن ذلك يتعلق بالحلال والحرام ، فيما له تعلق بالجانب الاعتقادي والتشريعي ، وما يتصل بذلك كله من أحكام. فأكد البعض أنه ما دام الأمر بهذا الشكل فهو داخل في باب العموم الذي يرادبه الخصوص ، ما يعني أن يكون طبيعياً أن ما يخص العلوم بفروعها المحتلفة يبقى رهناً بالخبرة البشرية وما تحصّله عبر مناهج البحث العلمي المعروفة ، وهذا كله لا دخل للمعرفة الدينية فيه.
يقول ابن حبان في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " : " أراد به من أمور الدين ، لا من أمور الدنيا " . وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يُلقحون ، فقال : لو لم تلقحوا لصلح . فخرج شيصاً . فمر بهم فقال : ما لنخلكم ؟ قالوا : قلتَ كذا وكذا . قال : أنتم أعلم بأمر د****م . ما نفهم منه أن هناك – إذن – مجالاتٍ شتى ، وفسيحةً ، أمام العقل البشري والخبرة البشرية ، وهي غير متعلقة – إطلاقاً – بالنص المقدس .
إن مفكري الإسلام ، وبعض فقهائه ، كانوا يلجأون لنفي التعارض المزعوم بين العقل والنقل إلى مجموعة من الآليات ، من أهمها – على الإطلاق – تضييق دائرة المنقول المعترف به ؛ فابن حزم وابن القيم ومحمد عبده فعلوا ذلك بشجاعة نشكرها / نقدرها لهم ، سعياً من جانبهم للبحث في كل / أي موروث / منقول ، وهل هذا الموروث / المنقول له أصل ديني من عدمه ، فإذا كان له أصل ديني ردوه إليه ، حتى إذا صحت نسبته نظروا فيه : هل هو للتشريع ، حتى إذا ثبت أنه للتشريع نظروا فيه : هل التشريع مطلق لكل زمان ومكان ، أم نسبي له تعلق بزمان بعينه وظروف بعينها.
أما ابن حزم – وهو ظاهري – فقد أبطل القياس رافعاً عن المسلمين ثقل تراث فقهي سابق ، وجعل المنقول الملزم – فقط – في الكتاب والسنة ، وطالب المسلمين أن يستصحبوا الأصل الشرعي " الإباحة " فيتم تنظيم أمور المجتمع بعيداً عن إلزام من قول لفلان أو علان مهما علا شأنه.
وأما ابن القيم فإنه وإن لم يبطل / يلغ القياس ، إلا أنه طالب المسلمين أن يقيسوا بأنفسهم دون الاستنان بغيرهم من الرجال ، داعياً – بذلك – إلى نفي التقليد.
ونلاحظ أن هذين العلمين قد أفسحا مكاناً ، ومقاماً ، للعقل ، ومع قولهم بضرورة أن يتبع العقلُ النقلَ ، إلا أنهم أثاروا سؤالاً أجاب عنه المسلمون الأوائل ، ونخشى – نحن المعاصرين – الإجابة عنه : أي نقل هذا الذي يجب على العقل أن يتبعه ؟ أهو الكتاب والسنة التشريعية الصحيحة ؟ أم هو كل ما قاله العلماء والفقهاء والتابعون وتابعو التابعين من حافظي المتون وشروح المتون وشروح شروح المتون ؟.
وأما محمد عبده فإنه – وكان وقته وقت تراجع المد العقلاني في تاريخ المسلمين الحديث والمعاصر ، وقد تهكم عليه أحد " زملائه الأزاهرة " فغمزه بـ " الشيخ الهجاص المهياص " وكتب آخر عنه " كشف الأستار في سيرة الشيخ الفشّار " !!!!!! – قد كان من الشجاعة بحيث أوصى طلابه بدرس كتاب الشاطبي الموافقات ، وأعلن تخصيص النقل بالعقل عند التعارض أو صعوبة التوفيق بينهما ، تماماً كما سبقه إلى ذلك ابن رشد لما قال بالتأويل الذي هو إخراج دلالة اللفظ محل النزاع من دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية في حال تعارض الأحكام الفقهية مع البرهان. فيما فيما يمكن أن نسميه " فقه المقاصد " .
[/B]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.