فان المقصود من نقل هذا المقال بيان الحكم الشرعى، للتمثيل (( الديني )) دون غيره من أنواع التمثيل لأنه إذا تبين حكم هذا الأخير كان باقي أنواع التمثيل يتضمنه، وقد أفتى بحرمة إقامة التمثيل المسمى ب (( الديني )) جماعة من العلماء، استناداً على ما جاء في كتاب الله، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وذلك لما يقوم بالتمثيل من المخالفات الشرعية،والأعمال المنهية، كما ستراه في العرض الآتي – إن شاء الله.
ومن نظر إلي التمثيل وعرف حقيقته، ثم نظر إلي أدلة الشرع، علم أن هذا العمل مشتمل علي محرمات ومنكرات، وربما مكفرات ومخرجات لا يليق بمؤمن انتهاكها وهو مقر بخطئه فضلاً عن انتهاكها بزعم أن الشرع يؤيده ويعضده.
وقبل الشروع في ذكر الأدلة علي حرمة هذا العمل والإجابة علي شبه المخالف، أذكر بعض العلماء الذين قرروا حرمته وأغلظوا فيه حتى يعلم أننا لهم تابعون، علي طريقهم سائرون.
فمنهم الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله بن باز.رحمه الله
ومنه الشيخ : محمد ناصر الدين الألباني.رحمه الله
ومنه الشيخ : عبد الرزاق عفيفى.رحمه الله.
ومنه الشيخ : حماده الأنصاري.رحمه الله.
ومنهم الشيخ : صالح بن فوزان الفوزان.
ومنهم الشيخ : ربيع بن هادى المدخلي.
ومنهم الشيخ : بكر بن عبد الله أبو زيد.
ومنهم الشيخ : عبد المحسن العباد.
ومنهم الشيخ : حمود بن عبد الله التويجري.رحمه الله.
ومنهم الشيخ : صالح بن عبد الرحمن الأطرم.
ومنهم الشيخ : عبد الله الدويش.رحمه الله.
ومنهم الشيخ : عبد الرحمن عبد الخالق.
ومنهم الشيخ : عبد الله بن حسن بن قعود.
ومنهم الشيخ : عبد الرحيم الطحان.
ومنهم الشيخ : محمد بن عبد الله الحكمي. وغيرهم كثير مما يضيق المقام بذكرهم.
إن (( التمثيل )) شعيرة من شعائر الوثنية اليونانية، والكنيسة النصرانية، يقوم بها أولئك تقرباً إلي آلهتهم وهؤلاء إحياء لسيرة عىسى بن مريم – عليه وعلي نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وما دام أن الأمر كذلك، فإن إقامة هذه التمثيليات موروث عنهم ومقتبس من طقوسهم وشعائرهم.
أما المسلمون من لدن زمن نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) إلي وقت قريب فإنهم لم يقيموها، لا تعبداً، ولا عادة.
بل لما وفد إلينا التمثيل من البلاد الغربية، وقام أحد المعجبين بهم، بإنشاء مسرح للتمثيل بدمشق، عرض عليه بعض الروايات الغنائية، أنكر عليه بعض الشيوخ إتيانه بهذه البدعة وشكوه إلي حكومة (( الآستانة )) فمنع من الاستمرار في هذا العمل ([1]).
ومن القواعد المقررة والأمور المسلمة، أن مخالفة الكفار في تقاليدهم وعاداتهم مطلب شرعى، ومقصد إسلامي، فكيف بعباداتهم وشعائرهم ؟
وقد ثبت أن أصل التمثيل شعىرة من شعائرهم، وهو الآن من عاداتهم، فيجب علي المسلم الابتعاد عنه، تديناً، لما في ذلك من مخالفتهم ومنابذتهم.
وقد أجمع العلماء علي تحريم مشابهتهم في عباداتهم،وشعائرهم.
بل قد نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) المسلمين عن الصلاة لله في وقت عبادة الكفار، قطعاً لمادة التشبه، وتنويهاً ببشاعة جرمها.
قال تعالى (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)[ المائدة : 51 ].
وقال تعالى :(فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)[ التوبة : 69 ]
وفيها التوبيخ لمن تشبه بأهل الكفر والفسوق في شيء من قبائحهم ومنكراتهم.
وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : (( ومن تشبه بقوم فهو منهم )).
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية : (( وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، كما في قوله تعالى : ) وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ( [ المائدة : 51 ] .
ثم قال شيخ الإسلام :
(( وبكل حال : يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبها.
ومن ذلك قول الله تعالى :
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَتَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَلا يَعْلَمُونَ ) [ الجاثية : 18 ]
قال شيخ الإسلام : (( وأهواؤهم : هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك، فهم يهوونه، وموافقتهم فيه إتباع لما يهوونه…ولو فرض أن ليس الفعل من إتباع أهوائهم، فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم، واعون على حصول مرضاة الله في تركها.وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه … )) إلخ ا هـ (( الاقتضاء 1/85 )).
ومن ذلك قوله تعالي :
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّوَلاَوَاقٍ) [ الرعد : 37 ]
قال شيخ الإسلام : ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم، وتوابع دينهم، اتباع لأهوائهم.بل يحصل إتباع أهوائهم بما هو دون ذلك.
ومن ذلك قوله تعالي :
) ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتب من قبل فطال عليهم الأمد … ( الآية.
قال ابن كثير – رحمه الله – : (( ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعىة )) ا هـ (( التفسير 4/310 ))
ومن ذلك ما ثبت عن عمرو بن عبسة أنه قال : (( قلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله، وأجهله.أخبرني عن الصلاة.قال (صلى الله عليه وسلم) (( صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار.ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار )) رواه مسلم.
فقد نهي الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن الصلة وقت طلوع الشمس، ووقت الغروب معللاً بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان،وأنه يسجد لها الكفار حينئذ.
ووجه الدلالة من الحديث يتبين بعد معرفة ثلاثة أمور :
أولاً : أن كل مؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالي.
ثانياً : أن أكثر الناس لا يعلمون أن طلوع الشمس وغروبها بين قرني شيطان.
ثالثاً : أن أكثر الناس لا يعلمون أن الكفار يسجدون لها ذلك الوقت.
إذا تبين هذا، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهي عن الصلاة في هذه الأوقات – مع استقرار الأمور الثلاثة المذكورة – قطعاً لمادة التشبه، وسداً للذريعة )).
فإذا كان هذا في عبادة الله محضة، فما الظن بمشابهتهم في عبادة وثنية، وطقوس شركية، أو عادة من خصائصهم – كما هو الحال في التمثيل – لا ريب أن هذا بالنهي أولى، وبالاجتناب أحرى.
ومن ذلك – أيضاً – ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي غطفان المري قال :
سمعت عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – يقول حين صام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم عاشوراء، وأمر بصيامه : قالوا يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى.قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (( فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع )) قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وروى سعىد بن منصور عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : (( صوموا التاسع والعاشر، خالفوا اليهود )).
ومن ذالك ما رواه مسلم عن جبير بن نفير عن عبد الله بن عمرو قال : رأي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) علي ثوبين معصفرين فقال : (( إن هذا من ثياب الكفار فلا تلبسها ))
قال شيخ الإسلام : (( علل النهي عن لبسها بأنها : من ثياب الكفار.وسواء أراد أنها مما يستحقه الكفار، بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا، أو مما يعتاده الكفار لذلك )).
كما أنه في الحديث قال : (( إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا وهي للمؤمنين في الآخرة )).
ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير،وأواني الذهب والفضة تشبهاً بالكفار.
ففي الصحيحين عن أبي عثمان النهدي قال : كتب إلينا عمر – رضي الله عنه – ونحن بأذربيجان :
(( … وإياكم والتنعم وزى أهل الشرك … )) هذا لفظ مسلم.وروي أبو بكر الخلال أن حذيفة أتى بيتاً، فرأي شيئاً من زى العجم، فخرج وقال : (( من تشبه بقوم فهو منهم )).
وقال السواق : كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل، فلما دخل نظر إلي كرسي في الدار عليه فضة.فخرج فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه، وقال : زى المجوس زى المجوس )) !! ا هـ (( الاقتضاء 1/317 بتصرف )).
فإن كان هذا من مشابهتهم في لباسهم،وأثاث بيوتهم، فما يكون حال (( التمثيل )) الذي هو بهم أخص من الثوب المعصفر.
ومن ذلك ما رواه البخاري عن مسروق عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول : (( إن اليهود تفعله )).
قال شيخ الإسلام – لما ذكر الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أماكن العذاب :
(( فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها )) ا هـ
والأدلة علي تقرير هذا الأصل كثيرة جداً في الكتاب والسنة والآثار والإجماع وقد أستقصي طرفاً منها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (( اقتضاء الصراط المستقيم )) فيجدر بكل طالب حق أن يكون هذا الكتاب من مقروءاته.
ولو لم يكن في الأدلة المحرمة لهذا (( التمثيل )) إلا هذا الدليل لكان كافياً في إثبات حرمته قطعاً،وإبطال قول من قال بالجواز تعلقاً بشبه لا تثبت أمام هذا الدليل الجبل، الذي بني عليه العلماء أحكاماً كثيرة وأخذوا منه قواعد صلبة تحكم سير المستجدات في بحر الفقه الإسلامي.
ومن العجب أن بعض القائلين بجواز التمثيل قد منعوا أموراً لأنها مشابهة للكفار في عاداتهم وتقاليدهم.وهاهم يجيزون التشبه بهم في عباداتهم وشعائرهم … !! فإلي الله المشتكي من هذا المنهج المضطرب الذي يحكمه السذاجة أو الهوى، وكم قد جني هذا المنهج البائس علي أهل السنة والجماعة،وزعزع قواعدهم الراسية، حتى نال منها المبتدعة،وضربوا بعضها للعض.
ولقد صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حينما قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبرا وذراعاً بذراع.حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )).قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : (( فمن ؟ )).أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري.
إن التمثيل لا يخلوا من حالتين :
· إما أن يكون أسطورة خيالية، لا واقع لها ولا حقيقة
· وإما أن يكون واقعة سالفة، قام بها أشخاص معىنون، علي سبيل الحقيقة.
· وعلي كلا الحالتين فهو حرام، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع العلماء.
أما الحالة الأولي :
فهي كذب والكذب محرم.ووجه كونها كذباً أمور منها :
1- تسمية القائمين بها بغير أسمائهم
2- الانتساب إلي غير الأب الحقيقي.
3- تقمص شخصية غير شخصية الممثل كقاض، أو طبيب، وبائع …
4- الأيمان التي تقع علي أمر ماض أو حاضر يعلم كذبه و (( تخيله )).
5- التظاهر بالأمراض والعاهات، أو الجهل، أو الخبال، وقد علم ضده.
6- الخروج بمظهر الصلاح الكامل، أو الفساد الكامل، أو الوسط.فالأول إن سلم من الكذب فهو تزكية.والثاني إن سلم – أيضاً – من الكذب فهو هتك لستر الله.
وهذه الأوجه وغيرها مما يتضمن الكذب، لا تخلو منها (( تمثيلية )) قط، لعدم تصور الإبداع من غيرها.
فمنع التمثيل لهذا الدليل قوي، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) حرم الكذب،ولم يرخص فيه، إلا في مواضع ليس التمثيل منها في شيئ.
فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال (( أربع من كنا فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق ))،وفيه : إذا حدث كذب )) أخرجه الشيخان.
شبهة :
قد يقول قائل : إن المشاهدين (( للتمثيل )) يعلمون أن (( الممثل )) ليس هو (( الممثل )) فلا تحصل مضرة، ولا يترتب علي ذلك أكل مال مسلم، ولا أخذ حقه.
والجواب أن الأحاديث الدالة علي تحريم الكذب عامة، فلا تخصص إلا بما خصصه الشرع، والصورة المذكورة لم يأت دليل صحيح صريح في تخصيصها، فلا عبرة بالتخمين، ولا وجه للتخصيص.ولو فتح باب الكذب الذي لا مضرة فيه، لامتطاه أناس رواغون،وحصل به المفاسد ما لا يخفى.
وقد جاء ما يدل علي تحريم الكذب مطلقاً في قول جماعة من الصحابة ففي (( الأدب المفرد )) للبخاري و (( تهذيب الآثار )) لابن جرير، عن ابن مسعود رضي الله تعالي عنه – قال : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم ولده شيئاً ثم ينجز له.وفي لفظ : والذي لا إله غيره لا يصلح الكذب في هزل ولا جد.اقرأوا إن شئتم : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَوَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( [ التوبة : 119 ]
قال العلامة الروياني في (( البحر ))
من كذب قصداً ردت شهادته، وإن لم يضر غيره، لأن الكذب حرام بكل حال … )).ا هـ.
بواسطة نقل الهيتمي عنه في (( الزواجر )) 2/195 .
وروي عن علي – رضي الله عنه – أنه قال : (( إن أصحاب الشطرنج أكذب الناس – أو من أكذب الناس – يقول أحدهم قتلت وما قتل ))
ومن المعلوم أن أصحاب الشطرنج يعملون – ويعلم المتفرجون عليهم – بأنهم ما قتلوا أحداً.ومع ذلك قال فيهم علي – رضي الله عنه – ذلك.
شبهة أخرى :
قد يقال بأن هذا ليس كذباً، وذلك لأن المشاهدين يعلمون أن الممثل غير الممثل،وإنما هو يحكي أفعاله.
والجواب : أما كون المشاهدين يعملون أن الممثل غير الممثل، فهذا لا يغير الحكم الشرعى.إذا الممثل يخرج على أنه هو فلان وليس هو.ولذا فهو يدعى باسم الممثل، فيقال له يا صلاح الدين، أو يا شيخ الإسلام.فيجب علي أنه صلح الدين وشيخ الإسلام.
وقد أطلق الله علي المنافقين الكذب،وهو يعلم كذبهم فقال تعالى :
(إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِوَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُوَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [ المنافقون : 1 ]
فما المانع الشرعي من إطلاق الكذب علي رجل تعلم أنه كذب ؟ وأما كون الممثل يقول : أنا إنما حكيت الممثل، فقد ورد النهي عن المحاكاة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
شبهة أخرى
تعلق بعضهم بقاعدة ( الوسائل لها أحكام المقاصد ) فجوز الكذب هنا لأنه وسيلة للدعوة إلي الله تعالى.
والجواب: أن الوسائل لابد من شرعيتها – واجبة مندوبة، مباحة – أما إن كانت الوسيلة محرمة فيجب اجتنابها، أو مكروهة فينبغي اجتنابها.
فالخطأ إنما نتج من عدم فهم لفظة: ( الوسائل ) وإلا لو فهمت علي الوجه الصحيح لما حصل إشكال.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالي – : (( … قد يكون الشيء مباحاً ووسيلة مكروهة – كالوفاء بالطاعة المنذورة – وهو واجب، مع أن وسيلته – وهو النذر – مكروه منهي عنه.
وكذلك الحلف المكروه مرجوح، مع وجوب الوفاء به، أو الكفارة وكذلك سؤال الخلق عن الحاجة، مكروه، ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة.وهذا كثير جداً.
فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة، تكره، أو تحرم، لأجلها، وما جعلت وسيلة إليه بحرام، ولا مكروه )).ا هـ.
الحالة الثانية من حالات التمثيل :
إذا كان (( التمثيل )) لواقعة سالفة، فإن وجه تحريمه أمور، منها :
1- الكذب، فإن (( الممثل )) يقول : هو فلان بن فلان، وليس كذلك.وقد تقدم الكلام علي هذا
2- التشبع بما لم يعط، كأن يتقمص شخصية (( صلاح الدين الأيوبي )) أو (( شيخ الإسلام ابن تيمية )) فيظهر بمظهر القوة والشجاعة أو العلم والإدراك وليس هو كذلك.
3- الإفضاء إلي استنقاص الأموات وذكر مساوئهم.
وقد ورد النهي عن ذكر مساوئ الموتى. ووجه ذلك أن (( الممثل )) قد ينتقص أحد الشخصيات قاصداً الإتيان بتمثيل الواقعة كما كانت كما هو الحاصل فيمن يمثل دور الإمام أحمد وموقفه من المحنة حيث قام (( الممثل )) لدور (( المأمون )) بسبه وإهانته.كما قام (( الممثل )) لدور الجلاد بجلده … إلخ.
4- الغيبة : وهي ووجه اشتمال هذا التمثيل عليها واضح ومنها :
المحاكاة : وهي تقليد شخص لأخر في حركاته وسكناته، علي وجه الانتقاص.ووجه ذلك أن (( الممثل )) يحاكي شخصاً في معايبه الخلقية أو الخلقية، ليبرز الواقعة للمشاهدين كما هي.
وقد روي أبو داود – وغيره – عن عائشة رضي الله عنها قالت : … وحكيت له – (صلى الله عليه وسلم) – إنساناً.فقال : (( ما أحب أني حكيت إنساناً،وأن لي كذا وكذا ))
قال ابن الأثير :
(( أي فعلت مثل فعله )).ا هـ من النهاية [ 1/421 ]
وقال النووي في الغيبة المحرمة :
(( ومن ذلك المحاكاة، بأن يمشي متعارجاً، أو مطأطئاً، أو غير ذلك من الهيئات، مريداً حكاية هيئة من ينتقصه بذلك.فكل ذلك حرام بلا خلاف )) ا هـ.من الأذكار ص 490.
يتبع باذن الله تعالى… ( مقتبس من رسالة ايقاف النبيل على حكم التمثيل بتعديل يسير لا يخل بالأصل)
وهذا الرابط من هنا للرسالة مكتملة إيقاف النبيل على حكم التمثيل – إيقاف النبيل
[1] ) ينظر (( الأعلام )) للزركلي 1/248 ، أفاد ذلك العلامة بكر أبو زيد .
منى فالح الشمري .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي حثنا على التمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين، وحذرنا من محدثات الأمور، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.. أما بعد..
فإن قضية التمثيل، قضية طال الجدل حولها وتباينت آراء الناس فيها، فمن مجوز ومن محرم، وقد قام فضيلة الشيخ عبدالسلام البرجس – رحمه الله تعالى- ببيان الحكم الشرعي للتمثيل في رسالته -إيقاف النبيل على حكم التمثيل- وقد قمت بتلخيصها، والله أسأل التوفيق والإعانة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
– ما معنى التمثيل؟
للتمثيل معان كثيرة، ولكن أقتصر على ما جاء معناه في المعجم الوسيط: هو عمل فني منثور أو منظوم، يؤلف على قواعد خاصة ليمثل حادثاً حقيقياً أو مختلفاً قصداً للعبرة.
– ما معنى الممثل؟
هو القائم بأعمال التمثيل أمام الجمهور من الناس..
– ما الهدف من التمثيل؟
التأثير على الآخرين بخير أو شر.
عدد الكتِّاب حول موضوع التمثيل أهدافاً وفوائد.. أذكر بعضاً منها؟
1 – وسيلة تعليمية.
2 – أداة تسلية ولهو.
3 – وسيلة لطرح قضايا المجتمع وحلها ونقل العادات الغربية إليه.
4 – بث الوعي في المجتمع.
– ما أضرار التمثيل؟
1 – الوقوع في حبال الشيطان.
2 – نشر الفجور وبث الرذيلة.
3 – تنمية الغرور والكبرياء عند المشتركين، والاستهزاء بالقيم، وممارسة العادات السيئة.
4 – قلب حقائق التاريخ وتشويه شخصياته.
– ما أقسام التمثيل من حيث موضوعه؟
1 – تمثيل ديني.
2 – تمثيل غير ديني.
القسم الأول: التمثيل الديني: وتسميتنا له تمثيلاً دينياً لا تدل على أمر الدين به، ولا إباحته له، ولكن تمشياً مع عرف الناس، حتى يتضح الحكم الشرعي له، قال أبو الفضل عبدالله بن الصديق: وكون الجماعات الدينية يفعلونه- أي التمثيل – لغرض ديني كما يزعمون لا يخرجه عن وضعه الأصلي وحكمه الأساسي، بل إدخاله في الدنيا عدوان منهم لا يجوزه الشرع.
القسم الثاني: تمثيل غير ديني: ويشمل ماعدا القسم الأول، كالتمثيل الاجتماعي، والجنسي والتربوي المعاصر.. إلخ.
– نشأة التمثيل؟
تمتد جذور التمثيل إلى العصر اليوناني وتعليمات الكنيسة النصرانية، كما صرح بذلك جماعة من علماء الأدب، أما المسلمون، فلم يعرفوا هذا العمل منذ قيام دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى ما قبل خمسين ومئة عام يوم انفتح الشرقيون على علوم الغرب، عندئذ اكتسبوا هذا العمل منهم، ثم نقلوه إلى بلادهم الإسلامية.
يقول أحمد حسن الزيات: التمثيل بمعناه الحديث لم تعرفه اللغة العربية إلا في أواسط القرن الماضي، وكان اللبنانيون أسبق الشرقيين إلى اقتباسه لتخرجهم من المدارس الأجنبية، إلخ.. وقال أبو الفضل عبدالله بن الصديق: التمثيل لا يعرف إلا عن طريق الأوروبيين، وهم الذين أظهروه في الشرق.
– ما حكم التمثيل؟
اختلف العلماء في حكم التمثيل، فمنهم من حرمه، ومنهم من أجازه واستدل من قال بتحريمه:
1 – إن التمثيل شعيرة من شعائر الوثنية اليونانية والكنيسة النصرانية يقوم بها أولئك تقرباً إلى آلهتهم وإحياء لسيرة عيسى – عليه السلام – فيجب على المسلم الابتعاد عنه تديناً لما في ذلك من مخالفتهم والابتعاد عن التشبه بهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : -ومن تشبه بقوم فهو منهم-.
2 – إن التمثيل لا يخلو من حالتين:
أ – إما أن يكون أسطورة خيالية لا واقع لها، ولا حقيقة.
ب – وإما أن يكون واقعة سالفة قام بها أشخاص معينون على سبيل الحقيقة، وكلا الحالتين حرام بدلالة الكتاب والسنة والإجماع.
3 – التمثيل فيه تشبع بما لم يعط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: -المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور-.
4 – إن الغالب على التمثيل اهتمامه بالمضحكات، فيضطر الممثل إلى الخروج بزي مضحك أو التلفظ بما يثير الضحك، وقد علم هو والحاضرون أنه كاذب، فهو داخل في الوعيد الشديد المعد لمن أضحك الناس، وهو كاذب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : -ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له-.
5 – إن التمثيل يشتمل على الغيبة المحرمة، وهي المحاكاة، فيقوم الممثل بمحاكاة شخص آخر في حركاته وسكناته على وجه الانتقاص، وقد روى أبو داود وغيره أن عائشة – رضي الله عنها – قالت: -وحكيت له صلى الله عليه وسلم ، إنساناً، فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا-. قال ابن الأثير: أي فعلت مثل فعله.
6 – إن التمثيل لا يتم إلا بارتكاب أحد المخالفات الشرعية أو كلها وهي:
1 – الكذب.
2 – اليمين الغموس.
3 – الانتساب إلى غير الأب الحقيقي والتبني.
4 – تغيير خلق الله.
5 – الاستهزاء بالدين وأهله.
6 – تمثيل دور الكفرة والتلفظ بأقوال الكفر.
7 – الدعوة غير المباشرة إلى أخلاق هابطة وصفات مرذولة.
8 – الرضا بالمنكر.
– أدلة من قال بجواز التمثيل:
ثبوت تشكل الملائكة في صور بشر، كما هو الحال في مجيء جبريل لمريم في صورة رجل، وتمثله في صورة دحية الكلبي لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذه الوقائع تدل على جواز القيام بمحاكاة الآخرين على سبيل الإفادة والتعليم ويقاس عليه التمثيل.
– الجواب من وجوه:
1 – إنكم غير قائلين بمدلول هذا الدليل في جميع صور التمثيل، فإن منكم من يحرمون تمثيل -الأنبياء، والصالحين- ومقتضى الدليل على هذا الرأي جوازه، لأن الملائكة مثلوا -الصالحين- وهم أفضل منهم على الصحيح، فليزم ذلك على جواز تمثيل المفضول للفاضل، هذا باب خطير سهل طرقه على من قل دينه وخسر نفسه الا أن يعتقها من مغبة ما هو فيه ..
2 – إن تشكل هؤلاء الملائكة، إنما هو بأمر الله لهم ولم يأمرنا الله سبحانه بذلك ولا الاقتداء بهم في ذلك.
3 – إنه قياس عالم الشهادة على عالم الغيب وهو ممنوع..
2 – قياس التمثيل على الأمثال والتشبيهات الواردة في القرآن، مثل قوله تعالى: -لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله-.
– الجواب: ما قاله العلامة الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله – في رد الشبهات حول إباحة التمثيل، وأما قياسه على ضرب الأمثال في الكتاب والسنة، فهذا قياس مقدوح فيه بقيام الفارق بين المقيس والمقيس عليه، إذ الأمثال قولية، وأما التمثيليـات، فهي فعلية تمـــارس بالــذوات، فكيف يقاس هذا على هذا مع عدم تطابقهما، فثبت فساد القياس.
– قيام الصحابي الجليل محمد بن مسلمة بدور الصديق المقرب لكعب بن الأشرف الكافر، وذلك أثناء قتله وغيرها من الوقائع.
– الجواب: إن هذه الواقعة وغيرها من الأمثال، إنما هي في مجال الحرب ومقاتلة الأعداء، وقد قام الدليل على تخصيص الحرب بمثل هذه الحيل، وذلـك في قوله صلى الله عليه وسلم : -الحرب خدعة