جلسا يترقبان حركات بعضهما ، وأنفاسهما تتسارع ، ونبضات القلب تستعجلها .. يقلبان الصفحات ويفكران في حياتهما معا ، في صمت يهزم جرأة الاعتراف ويخرس صوت الحقيقة ، فتظل الكلمات سجينة
كانت أشعة الشمس تتسلل لحجرتهما كل صباح ، تصافح أجسادهما المنهكة فتتحرك من الأسرة لتزيح الستائر وتفتح النوافذ ، بخطى بطيئة ، تباشر عملها المعتاد
لقد اختارا أن يشقا معا طريق الحياة ، ويتقاسما ضعفهما وقوتهما ، وخوفهما وشجاعتهما ، وجرأتهما وخجلهما ، وكل شؤون حياتهما ..
ويحاسب كلاهما الآخر ، يذكره بحقوقه وواجباته وبما يحتاجه منه ليشعر بالسعادة ، لا أن ينأى عنه ويعزل نفسه ، ويعيش معاناة همومه بمفرده ..
كانا يبحثان عن حل يهزم خوفهما وضعفهما ، ويحررهما من زوبعة التردد ليترجما بكلمات بسيطة عن أفكارهما وأحلامهما وجهادهما في الحياة ..
كانا بحاجة لعقد جلسة مكاشفة ومصارحة ، ذات آثار طيبة على علاقتهما وأسرتهما ، ينصتان خلالها لحديث روحهما ، وما يخالجها من رغبات وآمال وهموم وأحزان ، وأفراح وأتراح .. ليدركا حقيقتهما وأسباب ردات أفعالهما وتصرفاتهما الإيجابية والسلبية
ولكنهما اختارا الصمت والهجر حلا ، فعاشا سنوات عمرهما وهما غريبان عن بعضهما ، لامعنى لوجودهما أو استمرارهما معا ، إلا معنى واحدا يظل يربطهما هو مراعاتهما للمظاهر الاجتماعية وللمصالح الذاتية
ماذا كان سيحصل لو أن كلاهما تحرر من أنانيته وكبره وطباعه الغليظة ، ومن عاداته السيئة ..؟
إن كل شيئ حولهما يتغير ويتطور ويتجدد إلا هما ، لقد ظلا يحتفظان بنفس الأسلوب منذ كم سنة من عمر زواجهما ، ولو أنهما وقفا قليلا أمام المرآة لاكتشفا أن معالم صورتهما قد تبدلت ، وصارت بخلاف ما كانت عليه منذ سنوات مضت ، فلماذا لم يفكرا في أنهما بحاجة ليغيرا من تصرفاتهما وطباعهما ، وأسلوب حياتهما .. لأجل أن يعيشا ظروفا أحسن ، ويحققا السعادة ويتمتعا بطعم حلاوتها ؟
لو فكر كلاهما للحظات في حجم الخسائر التي يحصدانها ، وما تخلفه معاناتهما النفسية والجسدية ، لغيرا من طريقة تفكيرهما وأسلوبهما في الحوار والنقاش ، ولاستطاعا أن يتقربا من بعضهما مسافات ، ولاختارا سبل السلام وتنازلا عن كثير من الأمور التي تؤذيهما وتضايقهما ، ولسعى كلاهما لاستخدام الوسائل التي تحسن علاقتهما ، وتؤلف بين قلبيهما ..
ولخصص كل واحد منهما ساعات من وقته وعمره ليمضيه مع الآخر، بدل أن يوظفها كلها في إنجاز أمور وأعمال ليست بأكثر أهمية من حياته وبيته وأسرته ، ولا هي ستهبه سعادة تماثل سعادته مع زوجه وأفراد أسرته
إن ساعات الصفاء وطمأنينة النفس ، لتمثل أجمل اللحظات التي يعيشها الزوجان ، إنها تساوي ضعف قيمة أرباح مشاريعهما وصفقاتهما وأنشطتهما وطموحاتهما وكل اهتماماتهما الأخرى …
ماذا كان سيحصل لو أنهما جلسا معا جلسة مصارحة ومكاشفة ، تجردا خلالها من أقنعتهما ومن كل ما يظهرهما بخلاف حقيقتهما ؟
أليس اعترافهما جميلا يحررهما من كل القيود ، ويزيح عنهما أعباء الهموم النفسية والجسدية ، ويقوي ارتباطهما ويعمق صلتهما ، ويشيع بينهما مشاعر طيبة ، تترك بصماتها الحسنة على نفسهما فتنشط وتسعد ؟
ماذا كان سيحصل لو باح كلاهما للآخر بما يشعر به اتجاهه من حب أو كره أو قبول أو رفض أو إعجاب أو انتقاد …؟
أشياء كثيرة تذبل في الحياة ويذهب بريقها إلا بريق الصراحة والصدق ، فإن عمره طويل .. صحيح أن هناك من الأزواج من لا يحبذ أسلوب العتاب بل يغضب من تكراره، ولكن أقول أن أي دواء لابد وأن يراعى قبل استخدامه الحالة التي يشتكي منها المريض ومدى موافقته للأعراض المرضية ، والالتزام بالوصفة العلاجية التي حددها الطبيب ، وأن أي إخلال أو تقصير أو تهاون من طرف المريض يبطء علاجه أو يهدد سلامته وصحته بالخطر ، وكذلك شأن توظيف المصارحة والمكاشفة بين الزوجين كعلاج
إن الزوجين حين يختارا الصمت حلا لمشاكلهما ، فهما بذلك يحكمان على حياتهما بالفشل والعذاب ، بل يقتلان ويئدان ما يولد وينشأ بينهما من مشاعر ، لأنهما يحبسانها خلف جدران زنزانة مظلمة ، تتضاعف بداخلها مشاكلهما ، وتتعمق جراحهما ، وتشتد آلامهما ، وتزداد حدة أوجاعهما ، وتتراكم بداخلهما الكثير من الصور والمشاهد والمواقف والذكريات الحزينة ، لغاية ما تثور النفس وتتذمر منها
فلا ينبغي أن يتحول صبر الزوجان على بعضهما إلى معاناة نفسية وجسدية تهدد سلامتهما وتؤذيها ، فحينها سيفقد الصبر قيمته ومعناه ومقصده وسيتحول من نعمة لنقمة يتعذبان بها ، ولن يملكا بعد ذلك أن يعبدا الله بحق ولا أن يباشرا أمور دنياهما بصورة صحيحة وسليمة .
إن صدقهما وصراحتهما واعترافهما بالحقيقة ، سيمكنهما من مواصلة الطريق معا ، وهما يحملان مشاعرالسكينة والمودة والرحمة والحب الحقيقي وكل المعاني التي جعلها الإسلام أسبابا لإنشاء علاقة زوجية ناجحة ، وسيتمكنان من الحفاظ على ميثاقها الغليظ
وحتى لو دفعتهما ثورتهما وغضبهما وعصبيتهما المفرطة أن تطفو أحيانا على السطح وتنطلق وتجد لها لغة للتعبير كرفع الصوت أو الصراخ أوالتعبير بأي حركة من حركات الجوارح الأخرى ، فهذا ليس بظاهرة سلبية بل إنها عملية تفريغ تحتاجها النفس من وقت لآخر، لأجل أن تهدأ وترتاح وتعود لطبيعتها وصفاء روحها ، وتنظيم ردات أفعالها
أليس لكل حقيقة لغة معبرة ، فكذلك للنفس لغة تعبر بها عن هدوئها وسكينتها تارة وعن ثورة غضبها ، وجموح تمردها تارة أخرى ..
فعلى الزوجين أن يدركا أن هذه الصورة ، إنما هي ظاهرة صحية ، تحافظ على سلامة النفس واتزانها ، وهي أفضل بكثير من صورة كبت مشاعرهما واعتقال ما بداخلهما ..
ولكن على الزوجين وهما يمارسان حقهما في التعبير أن يتذكرا أنهما مسلمان ، مسئولان عن الكلمة التي ينطقان بها ، وأنهما أصحاب رسالة ودعوة ، محاسبان عما يصدر عنهما من قول أو فعل ، وليزنا الأمور بميزان العدل والإنصاف ، فلا يجعلا من حقهما في التعبير وسيلة توقعهما في حرام أومخالفات شرعية ، وإنما هي وسيلة لتحقيق غايات الزواج الإسلامي السعيد
وختاما إن الزوجين يؤسسان بيتا ويقيمان أسرة مسلمة هي نواة المجتمع وهي قلبه النابض ، إنهما يصنعان أمة قوية ، تبدأ بنشر أخلاقها من داخل البيوت قبل أن تشيعه خارجا
إنهما راعيان ومسؤولان عن رعيتهما ، فليحاسبا بعضهما بحب وصدق قبل أن يحاسبا ، وليزنا لبعضهما قبل أن يوزن لهما ، ولا يكونا معولا يخرب بيتا أويفسد أسرة أويهدم أمة
فالصمت يهدم احيانا بيوتا و يبكي عيونا و يكسر قلوبا
الزواج مبني على التضحية و التنازل و ان ترفع كليهما لن يصلا آلى حل
بوركت