فإن الصوت نعمة يهَبُهَا الله من شاء من خلقه، وواجب على من وُهِبَهَا أن يشكر ربه علبها، وأن يستخدمها فيما يرضيه تبارك وتعالى، ويحذر أن يستعملها فيما يغضبه جل جلاله.
وأولى ما يستخدم الإنسان صوته هو في تلاوة كتاب ربه تبارك وتعالى لأن ذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فعن البراء رضي الله عنه قال: "سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}(التين:1) في العشاء، وما سمعتُ أحداً أحسن صوتاً منه أو قراءة" رواه البخاري (735) ومسلم (464)؛ وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أَذِنَ الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) رواه البخاري (7105)، ومسلم (793)، ومعنى (أَذِنَ الله) أي استمع، وهو إشارة إلى الرضا والقبول، ومرَّ عليه الصلاة والسلام ذات ليلة على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو يقرأ، فجعل صلى الله عليه وسلم يستمع له، فلما لقيه قال له: ((لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)) رواه مسلم (793)، فدل ذلك على استحباب تحسين الصوت بالقراءة يقول النووي رحمه الله: "قال القاضي: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها، قال أبوعبيد: والأحاديث الواردة في ذلك محمولة على التحزين والتشويق، قال: واختلفوا في القراءة بالألحان، فكرهها مالك والجمهور لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والتفهم، وأباحهما أبو حنيفة وجماعة من السلف للأحاديث، ولأن ذلك سبب للرقة، وإثارة الخشية، وإقبال النفوس على استماعه. قلت (أي النووي): قال الشافعي في موضع: (أكره القراءة بالألحان)، وقال في موضع: (لا أكرهها) قال أصحابنا: ليس له فيها خلاف، وإنما هو اختلاف حالين، فحيث كرهها أراد إذا مطط، وأخرج الكلام عن موضعه بزيادة أو نقص، أو مد غير ممدود، وإدغام ما لا يجوز إدغامه، ونحو ذلك، وحيث أباحها أراد إذا لم يكن فيها تغير لموضوع الكلام"1.
فتحسين الإمام لصوته بالقراءة في الصلاة أمر مطلوب، مع بُعده عن التكلف، والتصنع في ذلك، أو محاكاة الآخرين، أو التمطيط المفرط، أو التلحين المخل، ليس ذلك فحسب بل قد حذر عليه الصلاة والسلام من عدم تحسين الصوت بالقرآن فجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منّا من لم يتغن بالقرآن)) رواه البخاري (7089).
لكن تتبع الناس لصاحب الصوت الحسن من الأئمة والمؤذنين – وبخاصة في صلاة التراويح في رمضان – هل هو جائز أم لا؟
الأظهر في هذه المسألة أنه لا حرج في ذلك، وهذا ما أفتى به سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله حين سُئِلَ: "ما حكم تتبع المساجد طلباً لحُسْنِ صوت الإمام لما ينتج عن ذلك من الخشوع وحضور القلب؟" فأجاب: "الأظهر – والله أعلم – أنه لا حرج في ذلك، إذا كان المقصود أن يستعين بذلك على الخشوع في صلاته، ويرتاح في صلاته، ويطمئن قلبه؛ لأنه ما كل صوت يريح، فإذا كان قصده من الذهاب إلى صوت فلان أو فلان الرغبة في الخير، وكمال الخشوع في صلاته؛ فلا حرج في ذلك، بل قد يشكر على هذا، ويؤجر على نيته، والإنسان قد يخشع خلف إمام، ولا يخشع خلف إمام، بسبب الفرق بين القراءتين والصلاتين، فإذا كان قَصَدَ بذهابه إلى المسجد البعيد أن يستمع لقراءته لحسن صوته، وليستفيد من ذلك، وليخشع في صلاته؛ لا لمجرد الهوى والتجول، بل لقصد الفائدة والعلم، وقصد الخشوع في الصلاة، فلا حرج في ذلك، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((أعظم الناس أجراً في الصلاة: أبعدهم فأبعدهم ممشى)) رواه البخاري (651) ومسلم (662)، فإذا كان قصده أيضاً زيادة الخطوات فهذا أيضاً مقصد صالح"2.
وممن أفتى بجواز ذلك أيضاً العلامة ابن جبرين رحمه الله فقد وُجِّه له سؤالا نصه: "بعض الناس مّمن يُحبُّ الخير والتقرُّب إلى الله يذهب بعيداً أو قريباً للصلاة في ليالي شهر رمضان المبارك خلف إمام معين بحجة خشوع هذا الإمام وقراءته الجيدة، فهل هذا الفعل مشروع؟" فأجاب: "من المشاهد أن القلب يخشع ويخضع عند سماع القرآن من القارئ الذي يتقن القراءة، ويتغنّى بالقرآن، ويجيد التلاوة، ويكون حسن الصوت، يظهر من قراءته أنه يخاف الله – تعالى – فإذا وجد الإنسان الخشوع، وحضور القلب خلف الإمام الذي يكون كذلك؛ فله أن يُصلي خلفه، وله أن يأتي إليه من مكان بعيد أو قريب ليحصل له الاستفادة والإِخبات في صلاته، وليتأثر بهذه القراءة التي رغب سماعها، وأحضرها لبّهُ، وخشع لها، فينصرف وقد ازداد إيماناً، واطمأنَّ إلى كلام الله – تعالى – وأحبّه، فيحمله ذلك على أن يألف القراءة ويكثر منها، ويتدبّر كتاب الله، ويقرؤه للاستفادة، ويحرص على تطبيقه والعمل به، ويتلوه حق تلاوته، ويحاول تحسين صوته بالقرآن.
وقد روى البخاري في صحيحه (7089) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن))، وفي البخاري (7105) ومسلم (792) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به))، وعن البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حسِّنوا القرآن بأصواتكم، فإنَّ الصوت الحسن يزيد القرآن حُسْناً)) فمن هذه الأدلة يباح اختيار الإمام الذي يجيد القرآن، ويكون حسن الصوت به، والترتيل، وإذا كان بعيداً فالذهاب إليه أكثر أجراً لما يكتب من الخطوات والذهاب والمجيء"3.
وعليه فذهاب المأموم لمسجد إمامه صوته حسن لا حرج فيه إذا لم يكن ثمة مفاسد، أما إن كان هناك مفاسد فلا ينبغي ذلك، ومن هذه المفاسد ما يلي:
1- وقوع النفرة بين أئمة المساجد.
2- اشتغال الناس بالأصوات والنغمات عن تدبر القرآن.
3- قد يكون في ذلك فتنة للقارئ، بحيث يصاب بالعجب.
4- إيغار وإيحاش صدر إمام المسجد القريب.
5- تشجيع الآخرين على هجر المسجد: يقول ابن القيم رحمه الله تحت عنوان: "اهتمام الشرع بسد الذرائع" بعد أن ذكر أثر ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليُصل أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتخطاه إلى غيره))4 "وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه، وإيحاش صدر الإمام، وإن كان الإمام لا يتم الصلاة، أو يرمى ببدعة، أو يعلن فجوراً؛ فلا بأس بتخطيه إلى غيره"5.
6- قد يؤدي ذلك إلى تعطيل مساجد أخرى، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله: عن محمد بن بحر قال: "رأيت أبا عبد الله في شهر رمضان، وقد جاء فضل بن زياد القطان فصلَّى بأبي عبد الله التراويح، وكان حسن القراءة، فاجتمع المشايخ وبعض الجيران حتى امتلأ المسجد، فخرج أبو عبد الله؛ فصعد درجة المسجد، فنظر على الجمع، فقال: ما هذا؟ تَدَعُون مساجدكم، وتجيئون إلى غيرها، فصلى بهم ليالي، ثم صرفه كراهية لما فيه" يعني من إخلاء المساجد، وعلى جار المسجد أن يصلي في مسجده"6.