– فقد يُعنى أحدُ هذه الروافد بالدفاع عن الإسلام ، عقدياً ، اعتماداً على الأدلة العقلية … وهذا هو علم الكلام ، وعلماؤه هم المتكلمون .
– وقد يُعنى رافد آخر بفهم أحكام الإسلام ، فهماً دقيقاً ، من خلال دراسة الأحكام الشرعية الفروعية عن أصولها الأولية … وهذا هو علم أصول الفقه ، وعلماؤه هم الأصوليون .
– وقد يُعنى رافد ثالث بالجانب الذوقي / السلوكي / العملي في الإسلام ، وذلك من خلال النظر إلى المعتقدات والتشريعات نظرة قيمية أخلاقية سلوكية … وهذا هو علم التصوف ، وعلماؤه هم الصوفية .
– وقد يُعنى رافد رابع ، أخير ، بمحاولة التقريب بين الفكر الإسلامي وغيره من الأفكار … وهذا هو الفلسفة ، وعلماؤها هم الفلاسفة أو الحكماء ) ؛ فهو مِفْصَلٌ معرفي من حيث إن علماءه يعدون أول من مازج بين العقل والنقل آليةً لفهم النصوص المقدسة قرآناً وسنةً . وهذا ما سيدخل بنا إلى الوقوف موقف الضد إزاء محاولات تهمييش ، أو نفي ، علم الكلام كأحد الدلالات على حيوية العقل المسلم ، فلولاه – علم الكلام – ما قدر المسلم أن يبين عقيدته – ثم تشريعاتها – للآخرين بحسب مفردات العقل الذي هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس ( رغم اعتبارنا بابن خلدون من حيث كونه مؤسس علم العمران ، وأول " متكلم " في علم الاقتصاد الاجتماعي ، إلا أن كلامه عن علم الكلام ، سواءً في التعريف أو في الوظيفة ، لا نقرّه عليه !!! : فهو – ابن خلدون – يرى أن علم الكلام علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة. وهو – ابن خلدون – يرى أن علم الكلام قد انتهت وظيفته / قيمته … وبالتالي فليس هناك ما يدعو إلى وجوده في حياتنا العقدية والعقلية ، لأن هذا العلم لما كان يجابه " الملحدة " وهم قد انقرضوا ، فعلم الكلام – إذاً – قد أصبح غير ضروري !!! . وكلامنا إلى ابن خلدون : ماذا عن المتكلمين من المسلمين من غير أهل السنة ؟ هل يتم نفيهم من تراثنا العقدي / العقلي ؟ وبقياس الضد : هل نجيز لهم أن يعرّفوا علم الكلام بما يتفق وانتماءهم المذهبي ؟ وبالتالي سيراوح التعريف مكانه ، ويدور بنا في حلقة مفرغة . أما الكلام عن انقراض " الملحدة " … فأكثر عجباً مما سبقه ، لأنه طالما كان مجتمع وناس ، فلا بد من وجود مؤمن وملحد ، وبالتالي لا يصح نفي علم الكلام استناداً إلى هذه العلة ) .
ذلك العقل الذي كان أحد أهم وسائل المتكلم لإنارة العقول ، وتوضيح المفاهيم ، ما جعل علم الكلام مدافعاً أصيلاً عن الإسلام ضد الآراء التي تخالفه في النظر الاعتقادي الغيبي إلى الله تعالى والرسل عليهم السلام ، وفي النظر العلمي إلى الكون والحياة .
نرى أن علم الكلام ( = علم التوحيد ) ما نشأ من فراغ ، بل جاءت نشأته استجابة طبعية بالنظر إلى ما يحكم الدين ، أي دين ، من تطور يمر بمراحل تبدأ بالتصديق / التسليم بكل ما جاء به هذا النبي أو ذاك ، وتنتهي بطلب الدليل ، والتدليل ، على هذا المراد الإيمان به .
نعلم أنه قد انتشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية ، فراح بلاداً منها ما كان " بِكراً " ( = غير ذي حضارة ) ، ومنها ما كان ذا حضارة وثقافة ضاربة في التاريخ ، كمصر وفارس . ولما انتهت المواجهات بسيادة أصحاب الدين الجديد عسكرياً ، خضعت الأمم المفتوحة للدين الجديد على ثلاثة أوجه :
• التسليم بالدين الجديد بوجه عقدي يرضى عنه الله .
• الرفض لهذا الدين وإعلان الكفر به .
• مواجهة الدين الجديد . وجاءت المواجهة ليست بالعسكرية ، بل بالفكر والثقافة والحضارة !!! فقام مفكرو هذه الأمم المفتوحة بلادهم بدراسة الإسلام عقدياً وتشريعياً تمهيداً لنقده ، وكان أن بدأ " دس " الإسرائيليات في مجالين يُعدان أهم مجالات التشريع الإسلامي : التفسير والحديث !!! ثم تطور الأمر فبدأ هؤلاء بإثارة الشكوك حول " حكمة " الله ، حيث الناظر يرى الكثيرين من المبتلين بمصائب / رزايا لا ذنب لهم حتى يصبحوا على ما هم عليه سواء من مرض أو إعاقة أو … أو … أو .
ونعلم أن بعضاً من رجال الحديث نافحوا في الدفاع عن حديث الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، محاولين وضع " ضابط " لتجريح السند عبر منهج / آلية الجرح والتعديل فيما عُرف بـ " علم الرجال " .
وعلى صعيد الاعتقاد ، وهو أصل والإيمان بالحديث فرع ، قام المعتزلة ، ونأخذهم مثالاً دالاً على أهمية / قيمة علم الكلام ، مشكورين ، شاء خصومهم أم أبوا ، بالدفاع عن العقائد التي جاء بها الإسلام ، فكان أن طالعوا كتب الفلسفة ، والمنطق تحديداً ( ولنترك القول " إن الفلسفة سفه والمنطق مدخل الفلسفة ومدخل السفه سفه " !!! . والقول " من تمنطق فقد تزندق " !!! لأننا نعرف ، جيداً ، كيف دخل مصطلح الزندقة عالمَنا الإسلاميَّ ومتى ولماذا !!! ) . وجاءت النتيجة دخول الكثير في دين الله أفواجاً ، حتى قرأنا قول القائل " قرأت لواصل بن عطاء الجزء الأول من كتاب الألف مسألة في الرد على المانوية فأحصيتُ في ذلك الجزء على مخالفيه نيفاً وثمانين مسألة " . ثم نعلم أن واصلاً " أرسل رجاله في الآفاق يدعون إلى دين الله ؛ فأوفد إلى المغرب عبد الله بن الحارث فأجابه خلق كثير ، وكذلك أوفد إلى اليمن القاسم بن الصعدي وغيره كثير إلى كثير من البلدان : كالجزيرة والكوفة وخراسان ؛ فأوفد إلى الجزيرة أيوب بن الأوتر ، وإلى الكوفة الحسين بن ذكوان ، وإلى خراسان حفص بن سالم وأمره بلقاء جهم ومناظرته " .
إذن :
أولاً : بعد توقف الفتوحات ، ومحاولة البعض إثارة الشكوك ، بشكل أو بآخر ، حول الإسلام وعقائده ، لا نجد فرقة إسلامية قامت بالذي قامت به المعتزلة من دعوة لدين الله بالكلمة والمناظرة ، ما جعل خلقاً كثيراً يدخلون الإسلام عن قناعة . ثم سار على نفس الدرب الشيعة الزيدية حيث نقرأ عن " الأطروشي " قوله : " دخلت بلاد الديلم وأهلها مشركون ؛ يعبدون الشجر والحجر ، ولا يعرفون خالقاً ، ولا يدينون بدين ، فلم أزل أدعوهم إلى الإسلام حتى دخلوا فيه إرسالاً وأقبلوا عليه إقبالاً ، وظهر لهم الحق وعرفوا التوحيد والعدل ، فهم الآن يتكلمون في التوحيد والعدل مستبصرين ، ويناظرون عليهما مجتهدين ، ويدعون إليهما محتسبين ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويقيمون الصلوات المكتوبات والفرائض المفروضات " .
ثانياً : أن هذا الواجب الذي " أوجبه " المعتزلة على أنفسهم اقتضاهم معرفة الفلسفة بشكل دقيق أثار ، ولم يزل ، الإعجاب !!! فكان أن قرأوا في الفلسفة والمنطق والفلك والطبيعيات والرياضيات … حتى قرأنا " إن إبراهيم النظّام حفظ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها ، ذلك إلى جانب حفظه الأشعار والأخبار واختلاف الناس في الفتيا . وقد ذكر ، مرة ، الوزير جعفر بن يحيى البرمكي أرسطو طاليس ، فقال النظّام : قد نقضتُ عليه كتابه . فقال جعفر : كيف وأنت لا تحسن قراءته ؟ . فقال النظام : أيما أحب إليك : أن أقرأه لك من أوله إلى آخره ، أم من آخره إلى أوله ؟ !!! . ثم راج يقرأ شيئاً فشيئاً وينقض على أرسطو هذه المسألة أو تلك " .
عاصر المتكلمون تيارين بشأن الفلسفة اليونانية :
الأول : المحدّثون : المحدّثون. وهؤلاء عادوا الفلسفة تحت مسميات / دعاوى دينية بزعم أنها آتية من الغرب الوثني !!! وامتد عداؤهم للمشتغلين بها … حتى قرأنا عن " محنة " ابن رشد !!! .
الثاني : الفلاسفة : وهؤلاء ابتهروا بالفلسفة حتى درس بعضهم نظرية " النبوة " من منظور فلسفي فكان أن رفع الفيلسوف على النبي !!! .
درس المتكلمون ، المعتزلة تحديداً ، الفلسفة اليونانية لا على سبيل مجرد النظر / الدرس ، بل للإفادة مما يُدرَس في سبيل الدفاع عن المعتقد الإسلامي ؛ فأدخلوا مصطلحات / قضايا عقلية جديرة بالدرس ، فدرسوا الجوهر والعرض بحسب المنظور الإسلامي … " فدرس العلاف ماهية الجوهر الفرد وشكله ، وكيفية اجتماع الذرات ، بافتراض الخلاء !!! . ثم تأدى بهم البحث للكلام في قدرة الله على الخلق والإيجاد والتأليف والافتراق والانفصال " .
من الذي سبق يتبين أن اختلاف الهدف من الفلسفة عند المتكلمين انتهى بهم إلى صياغة مصطلحات / مفاهيم جديدة جاءت غاية في الطرافة ؛ رفضوا التعربف اليوناني للجوهر بأنه " ما يقوم بذاته " ، وأعلنوا تعريفهم – عبر فهمهم الجيد للقرآن والعربية – فكان التعريف " هو الجزء من الجسم الذي لا يتجزأ ، وهو أقصى ما ينحل إليه الجسم حال التجزؤ " . ورفضوا التعريف اليوناني للعرض بأنه " المقوم بالجوهر " ، وأعلنوا تعريفهم " ما هو سريع الزوال " … ثم مدوا الخيط على استقامته فقالوا إنه بما أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض ، وبما أن الأعراض زائلة ، فكل ما في الكون من أجسام إلى زوال .
وهذه المصطلحات ، وتعريفها ، انتهى بالمتكلمين ، والمعتزلة ، إلى الكلام في " البعث " فما عادت تقلقهم مسألة إعادة المعدوم ؛ فما دام الموت هو تحلل / انحلال الأجزاء ، فإن البعث هو إعادة ما كان ، أي إعادة تركيب الذي انحل من أجسام .
وهذا دليل على حسن توظيف علماء الكلام للفلسفة بما يخدم العقيدة دفاعاً عنها بالعقل الذي هو – يقول ديكارت – أعدل الأشياء قسمةً بين الناس .
هكذا نقول يكمن ثورت العقل وإنفجار الايمان.
ذاك بيان وذاك تبين لما بعده
أظن ان من يريد بيان عليه ان يكون حريص لان المريض يحل محل المرض
عندما اشاهد بعض الفلاسفة [الاقطاعين]
كأنما قلت لهم السنتكم مثل الجعجعة بلا طحين وثرثرة لا عمل قبلها ولا بعدها
وسفسطة لا تقدم ولا تؤخر
وجدل عقيم مع تفكير سقيم
وبعد عن الواقع وانهزامية مخبوءة وتناقض مع الفعل
لان الفرق بين علم الفلسفة وعلم الكلام
الحكم في كيفية إمكان استعمال هذا الناظور !
لان الكلام البلاغي يدرس الأسرار الكامنة ماوراء هذه الأحوال
أي يهتم بمعنى المعنى كأن ينقل من اللفظ معنى
ثم يفضي به ذات المعنى إلى معنى آخر
وهذا أحدى مزايا النمط العالي والفاخر من الكلام
ونحن العرب [مسلمين] كانخبة نمتاز بهذا على بابها الشعر والوصف والتحديد !