صلاح المجتمع يتوقف على صلاح الأسرة، وصلاح الأسرة يتوقف بدوره على صلاح المرأة وقيامها بدورها العظيم داخل البيت. كل مرة ترى فيها مدرسا فاسدا أو عاملا فاسدا أو ضابطا فاسدا أو طبيبا فاسدا أو قاضيا فاسدا أو وزيرا فاسدا، اعلم أن وراءه امرأة تخلت عن دورها في البيت فخرج على المجتمع هذا الفساد العريض الذي نشتكي منه جميعا. ربة البيت ليست امرأة عاطلة، ولكنها تقوم بوظيفة رفيعة الشأن عظيمة القدر لا يملك المجتمع – أي مجتمع – بديلا عنها لحفظ كيان الأسرة من الانهيار والتداعي. وإن قيام المرأة على وظيفتها النبيلة داخل الأسرة، لا يعطل نصف المجتمع كما يدعي الجهلة الأغبياء، وإنما يحمي المجتمع كله من التصدع.
منذ حوالي خمسين سنة أصدرت الأمريكية "بيتي فريدان" كتابها الشهير "الأنوثة الخفية" (أو لغز الأنوثة The Feminine Mystique ) ليكون بداية لثورة اجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية. وامتد هذا الأثر فيما بعد وبدرجات متفاوتة لسائر بلاد العالم. بعض المفكرين الغربيين وعلماء الاجتماع وصفوا ذلك الكتاب بأنه أهم كتاب صدر في القرن العشرين على الإطلاق (تقييم جريدة النيويورك تايمز على سبيل المثال). في ذلك الكتاب، شنت الكاتبة حملتها الصاخبة التي تدافع فيها عن حقوق المرأة وتطالب بمساواتها مع الرجل في فرص العمل وفي مستويات الأجور، ورأت أن اكتفاء المرأة برعايتها للأسرة لا يناسب ذكاءها ومواهبها وقدراتها، وأن أعمال البيت فيها قهر للمرأة وحبس لملكاتها وقدراتها.
وفي سياق حشد الحجج والبراهين على رؤيتها الجديدة وصفت فريدان النساء الأمريكيات في بداية الستينيات من القرن الماضي بأنهن (نساء يقضين اليوم ينقلن أطفالهن إلى المدرسة، ويمسحن ويلمعن البلاط، ويخبزن خبزهن، ويخطن ملابسهن وملابس أطفالهن، ويملأن ماكينة الغسيل وماكينة التجفيف بالملابس). وانتقدت فريدان (زيادة صفحات المكياج والزينة والتجميل في مجلات المرأة وكأن المرأة خلقت لتتجمل. وركزت إعلانات المكانس الكهربائية على صور نساء تجملن قبل أن يبدأن كنس البيت، وكأن هذا دليل على شرف المرأة). كما أطلقت فريدان صرخاتها المتكررة (مسح البلاط ووضع البطاطس في الفرن لا يحتاجان إلى ذكاء وجهد فكري، ولا يتحديان طاقة المرأة الكاملة. المرأة مخلوق بشري يجب أن يتحرر ليبدع، ولا إبداع قبل التحرر). والغريب أن فريدان لم تعارض عمل المرأة في البيت، كما لم تعارض إنجاب الأطفال وتربيتهم، لكنها قالت إن ذلك غير كاف ولم تتردد من السخرية من النساء اللاتي لهن أسر كبيرة، وقالت في كتابها (المرأة التي كانت تنجب طفلين، وأصبحت تنجب الآن أربعة أطفال، أو خمسة، أو ستة. كانت تريد وظيفة، وأصبحت وظيفتها الآن إدارة دار حضانة).
كان هذا الكتاب شرارة البدء في تغييرات جذرية في علاقة المرأة بالرجل، وفي علاقة المرأة بالزواج وتكوين الأسرة عموما. وفي الحقيقة فإن فريدان لم تدع أبدا إلى تفكك العائلة، لكنها كانت دائمة الشكوى من (روتينية الحياة العائلية عندما تكون كلها داخل البيت)، والغريب أنها راهنت على شيئين متناقضين تماما:
الأول: أن قضاء كل اليوم في البيت يقلل من قيمة المرأة.
الثاني: أن المرأة لن تستغني عن عائلتها إذا عملت خارج البيت.
ولقد أدت هذه الحركة الفكرية والتي تطورت إلى حراك اجتماعي واسع تمثل في المنظمة القومية Now (أي: حقوقنا الآن)، أدت إلى آثار كارثية على المجتمع الأمريكي وعلى كل مجتمع اتبع أثره. وقد انتبه كثير من المفكرين والإصلاحيين في الغرب إلى خطورة هذه الحركة النسائية على المجتمع، ووجد بعضهم أسبابا شخصية وراءها (بعضهم اتهم فريدان لأنها يهودية، بأنها لها أجندة خاصة بإثارة الاضطرابات الاجتماعية في العالم، وبعضهم اتهمها بأنها حسدت الجميلات اللواتي يجلسن في بيوتهن ويهتممن بزينتهن، لأنها لم تكن جميلة. حتى وكالة اسوشييتد برس، عندما نشرت خبر وفاتها، أشارت إلى "قامتها القصيرة، وأنفها الكبير، وعينيها الغائرتين". واتهمها آخرون بأنها دعت النساء لمنافسة الرجال لأنها كرهت الرجال منذ أن رفض صديقها في الجامعة أن يتزوجها بسبب قبحها).
وهذه الاتهامات لا تعنينا كثيرا، لأن هذه المرأة بنفسها تراجعت عن تلك الآراء وتحولت تقريبا إلى النقيض قبل وفاتها، لأنها رأت الآثار المدمرة على المجتمع الأمريكي لعزوف المرأة عن الزواج وكراهيتها لرعاية الأسرة، ثم للعداوة التي نشأت بينها وبين الرجل. وقد أصدرت بيتي فريدان عام 1997 كتابا تنقض فيه الأفكار التي خدعت بها الملايين من النساء قبل ذلك. أصدرت فريدان كتابا بعنوان: تجاوز مسألة الجنس (Beyond Gender). في هذا الكتاب اعترفت فريدان بالتناقض الذي أفرزته الحركة النسوية، واكتشفت أن حقوق النساء تم اكتسابها على حساب الرجل، فالرجال يفقدون فرص العمل والدخل لصالح النساء في كل المواقع الإدارية والتنفيذية. وحاولت أن تتبرأ من مسئوليتها، وقالت إنها كانت تهدف فقط لتوسيع الخيارات أمام النساء في حين كان للبعض من معاصريها من الناشطات في الحركة النسائية أجندة مختلفة، فبدلاً من أن تضع المرأة الأسرة والأطفال أولاً وضعت النساء أنفسهن أولاً. وبدلاً من أن يتم إصلاح الميزات ومقاومة المظالم قامت الحرب بين الجنسين والتي طغت فيها النساء وأسأن مثلما أسيء إليهن ابتداءً وكانت النتيجة تخلي الرجال عن مسئولياتهن، فعندما يعاني الرجل تعاني الأسرة أيضًا، وحين يتخلى الرجل (أو يُخلّى ويهمَّش) تعاني النساء معاناة جديدة مضافة.
ووصفت بيتي فريدان العلاقات الاجتماعية الجديدة التي أفرزتها الحركة النسوية بأنها كانت "سياسة الكراهية" التي تنامت واستعصت على السيطرة، وتساءلت ببراءة مفتعلة (يا ترى كيف تحولت النسوية إلى حركة إصلاحية مغايرة للمصلحة العامة وبذا انقسمت أمريكا إلى حلبة صراع بين قبائل بعد أن تفتت المجتمع وفقد بالنسوية خيطه الناظم بعد أن دمرت النسوية المجتمع والجماعة الوطنية.) والعجيب أن هذه المرأة امتلكت الجرأة لتقف على بقايا أطلال هذا المجتمع وتنادي بتحول نوعي في النموذج المعرفي Paradigm shift ليتم تجاوز الوعي بالنوع والهوية الجنسية إلى رؤية جديدة للتحرر تجمع الرجال والنساء معًا لتحقيق الصالح العام، هذا الصالح العام الذي اكتشفت فريدان أخيرا أنه لا يكون إلا في دعم الأسرة واسترداد المجتمع المتماسك المتراحم، هذه العودة التي تنظر لها بعض الناشطات في الحركة النسوية اللاتي يسرن بالدفع الذاتي ويرفضن المراجعة والتقويم باحتقار وازدراء واشمئزاز بالغ.
هذه التجربة الثرية، التي تكشف لرائدتها كيف هدمت القيم الاجتماعية الفطرية فوق رؤوس الجميع لم تتعلم منها نساء المسلمين والعرب، فقد انتقلت لبلادنا وثقافتنا عدوى الحركات النسائية في الغرب التي قامت عندهم لتطالب بمساواة المرأة بالرجل في سوق العمل وفرص التوظيف، وتتمرد على وجود المرأة في البيت. هذه الحركات البائسة أحدثت ثورة اجتماعية في الغرب وأحدثت انقلابا جذريا في الأسرة الغربية كانت نتائجه وخيمة عليهم، وبدأت الأصوات تعلو في العشرين سنة الأخيرة لتحذر من هذا الانفلات الاجتماعي، وتنادي بإيجاد البديل للتفكك الاجتماعي وعزوف الرجال والنساء عن الزواج وإنجاب الأولاد. وحتى رواد الحركات النسائية – كما رأينا – تراجعن عن آرائهن لما رأين من النتائج المفجعة لخروج المرأة من البيت، ولاحتقار وظيفة "ربة البيت" لعشرات السنين. وللأسف الشديد فإن نساء في بلادنا تلقفن دعوة الحركات النسائية الغربية تلقف الأعمى، ورددن أقوالهن كالببغاوات فأوقعن مجتمعاتنا الإسلامية والعربية في معارك وهمية مفتعلة بين الرجال والنساء.
انظر مثلا إلى فعاليات وأنشطة المجلس القومي للمرأة في مصر، وهو المجلس الذي يتمتع بصلاحيات مالية وسياسية واسعة. أنشطة وانجازات هذا المجلس لا تخرج عن دفع المرأة أكثر إلى خارج بيتها وأسرتها، والتلويح لها بفرص التدريب والعمل وورش التأهيل لخوض الانتخابات والمشاركة في المحافل الدولية، ولا تجد أثرا في أنشطة هذا المجلس ولا كلمة واحدة لتأهيل المرأة لرعاية أولادها وأسرتها. وكأن المرأة لا تحتاج تأهيلا لزواجها أو لتتعلم أصول التربية لأطفالها، أو لفنون رعاية بيتها، أو لتتطور معارفها وثقافتها وأصول دينها. هذه الجوانب لا يضيع فيها المجلس القومي للمرأة أوقاته الثمينة وجهوده الغالية.
المرأة إذا اضطرت للعمل، فلا خلاف في جواز خروجها ولكن بالضوابط الشرعية التي تحفظ لها كرامتها. أما أن تظن المرأة أن مجرد خروجها للعمل يحقق لها ذاتها وطموحها وشخصيتها .. إلى آخر مصطلحات هذه الاسطوانة المشروخة، فإن كل هذا يتحقق فعلا لا قولا، داخل مملكة المرأة في بيتها، حيث عزها وكرامتها وانجازاتها العظيمة لمجتمعها، والتي لا يمكن أن يقوم بدورها رجل ولا مربية ولا دار حضانة ولا شاشات التليفزيون. كم أشعر بالشفقة عندما أرى النساء يركضن في الصباح الباكر في الشوارع وخلف وسائل المواصلات المختلفة، وظاهر من أعمارهن أنهن تركن خلفهن بيوتا هي في أمس الحاجة لوجودهن ورعايتهن.
الأسرة تحتاج لزوجة وأم يخيم جهدها على أجنحة هذه المملكة المفقودة. إن أعظم استثمار لجهد المرأة أن تكون سندا لزوجها في ميادين الحياة، وأن تكون حاضنة لأولادها تدفع بهم أفرادا صالحين إلى المجتمع الكبير. هنيئا لكل امرأة موفقة لهذه الإنجازات الرفيعة، هنيئا لها في الدنيا لأنها سترى مردود ذلك وفاء من زوجها وأولادها وأحفادها، وهنيئا لها في الآخرة عندما تُسأل غدا أمام ربها لأنها راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها.