إنَّ دينَ الإسلام الَّذي جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم هو أكمل الأديان وأفضلها وأعلاها وأجلُّها؛ فإنَّه الدِّين الَّذي أصلح الله به العقائد والأخلاق، وأصلح به الحياةَ الدُّنيا والآخرة، وزيَّن به ظاهر المرء وباطنه، وخلَّص به كلَّ من اعتنقه وتمسَّك به من براثن الباطل، ومهاوي الرَّذيلة، ومنزلق الانحراف والضَّلال، ولهذا؛ فإنَّ أعظمَ كرامةٍ ينالُها العبد هي الهداية لهذا الدِّين العظيم والتَّوفيق للاعتصام به.ومن كمال هذا الدِّين العظيم ومحاسنه تكريمه للمرأة، وصيانته لها، وعنايته بحقوقها، ومنعه من ظلمها والاعتداء عليها، أو استغلال ضعفها، أو التَّلاعب بعاطفتها، وجعل لها في نفسها ولمن تعيش معهم من الضَّوابط العظيمة والتَّوجيهات الحكيمة والإرشادات القويمة ما يُحقِّقُ لها حياة هنيَّةً، ومعيشةً سويَّةً، وسعادةً في الدُّنيا والآخرة.
وإنَّ أحكامَ الشَّرعِ المُتعلِّقةَ بالمرأة مُحكَمةٌ غايةَ الإحكام، متقنةٌ غايةَ الإتقان، لا نقص فيها ولا خلل، ولا ظُلمَ فيها ولا زلل، وكيف لا تكون كذلك وهي أحكام خير الحاكمين وتنزيل ربِّ العالمين؟! وعليه؛ فإنَّ من أعظم العدوان وأشدِّ الإثمِ والهوانِ أن يُقَالَ في شيءٍ من أحكام الله المُتعلِّقةِ بالمرأة أو غيرها، أنَّ فيها ظُلمًا أو هضمًا أو إجحافًا أو قصورًا، ومن قال ذلك أو اعتقده فما قدَرَ اللهَ حقَّ قَدرِه، ولا وَقَّرَه حقَّ توقيرِه، والله تعالى يقول ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾[نوح:13].
إنَّ المرأةَ ليست ذلك الشَّيطان أو تلك اللَّعنة المُسلَّطة على الرَّجل في هذه الدُّنيا كما كانت تَعتَقِدُ أوربا من عهد قريب، وإنَّما هي ذلك المخلوق الَّذي أوجدَه الله عز وجل ليكون شريكًا للرَّجُلِ في حياته، وقد خُلِقَتْ في الأصل من الرَّجل نفسِه، ليكون ذلك أعمقَ في التَّجانُسِ وأوثقَ في الصِّلةِ والتَّقارُب، ولتتحقَّقَ بينهما المودَّةُ والرَّحمةُ الَّتي هي أسمى غايات الزَّواج والتقاء الرَّجل بالمرأة كما قال تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾[الروم:21].
ومَنْ تأمَّلَ كتابَ الله عز وجل يجد فيه عنايةً عظيمةً بشأن المرأة، وحثًّا بالِغًا على رعاية حقوقها، وتحذيرًا شديدًا من ظُلمِها والتَّعدِّي عليها، ففي آحاد النِّساء تَنزِلُ الآياتُ والسُّوَرُ من السَّماء؛ كالبقرة والنِّساء والأحزاب والنُّور والمجادلة والطَّلاق، وكلٌّ منها فيها هدايات وتوجيهات في الإحسان إليها والتَّرفُّق في معاملتها؛ كالأمر بمعاشرتها في حدود المعروف والإحسان، والأمر بالإنفاق عليها حال الإمساك أو التَّسريح مع الحثِّ على مراعاة جانب الإحسان إليها والعطف عليها وتغليب ذلك في كلِّ الأحوال، وأمر بإعطائها المَهْرَ اللاَّزم مُقابِلَ الاستمتاع بها، وحدَّد لها نصيبَها من الميراث ممَّا ترَكَه الوالدان أو غيرُهُما من أقارِبِها، وحذَّر من عضلها أو التَّضييق عليها أو الرُّجوع في شيءٍ من صداقها، وجعلها قرينةً للرَّجل في الطَّاعة والتَّقرُّب إلى الله، مأمورةً بما أمره به من العبادة، ونعى على المشركين كراهيتهم للأنثى، وذمَّهم على ما سَنُّوه من وَأْدِها وبُغضِها غايةَ الذَّمِّ، وحذَّرَ غايةَ التَّحذير وأَوْجَبَ لذلك العقوبة والتَّعزيز؛ مِن رَمْيِ المؤمنات المُحصَنَاتِ بما هنَّ بريئاتٌ منه، وصان لها حقَّها المشروعَ المُتعلِّقَ بالزَّواج والطَّلاق والعِدَّةِ والخُلعِ والشُّهودِ والنَّفقةِ حال الفراق، وما إلى ذلك من هدايات القرآن المُتعلِّقةِ بالمرأة والإحسان إليها.
ولمَّا كان ضعفاءُ الحصانة العقديَّةِ والسُّلوكيَّةِ من بني جِلدَتِنا يفرحون بكلِّ وافدٍ، ويتهيَِّؤُون لكلِّ وارِدٍ، صارت الأمَّةُ في معاناةٍ مُستمِرَّةً معهم، فالكثير من حواراتهم لا تساعد على تقويم خلق أو تهذيب سلوك أو تثبيت فضيلة، ودعواتهم لتحرير المرأة وإعادة حقوقها إليها بلاء تختنق الفضائل في ضجَّتِه، وتذوب الأخلاق في أزمته، يهُشُّون للمنكر، ويدعون إلى الانفلات، ويَوَدُّون لو نبت الجيلُ في حمأة الشُّرور والرَّذائل.
ومن يستمع إلى حديث القوم وهم يتكلَّمون عن حقوق المرأة لا سيَّما في مناسبات الأعياد البدعيَّةِ كعيد الأُمِّ، وعيد المرأة وعيد الحبِّ، يَظنُّها الميِّتَ الَّذي نُشِرَ من قبره، أو الأسيرَ الَّذي افْتُكَّ من أَسرِه، وكأنَّها لم تَحْظَ بأيِّ تكريمٍ أو تشريفٍ، ولم تتحصَّلْ على أيِّ حقٍّ من الحقوق يَضمَنُ لها العيشَ الكريمَ كإنسان خلقَه اللهُ، مع أنَّه وبلَفْتَةٍ تاريخيَّةٍ وإلماحةٍ واقعيَّةٍ يتَّضِحُ ما كان مَخبُوءًا وراءَ الأكمة؛ فقد نقل التَّاريخُ أنَّ المرأةَ عاشت صراعًا في أوربا؛ أوَّلُه تصنيفُ الكنيسة لها شيطانًا أو عبدًا تحت سُلطَةِ الرَّجل، وآخره استغلالٌ قبيحٌ وصريحٌ في مرحلة الثَّورة الصِّناعيَّة، فقامت بين هذا وذاك تطالب بالمساواة ورفع القهر والمعاناة عنها، فأُعطِيَتْ بعد صراخٍ وضجيجٍ بعضَ حظوظها مع احتفاظ الرَّجل بحظِّه الأوفَرِ الَّذي هو الوصول إلى المرأة تحتَ شعار تحريرها، وهكذا أراد دُعاةُ تحريرِ المرأة أن يَجعَلُوا منها سلعةً تُباعُ وتُشتَرَى في سوق النَّخَّاسين؛ في دُورِ الأزياء وعروضِها، وغانيةً في سوق الملذَّاتِ والشَّهواتِ يَستعبِدُها الرَّجُلُ الَّذي يزعم تحريرَها، وتنخدع هي حين تستجيب لهذه الدَّعواتِ الماكرةِ والمذاهبِ المُفلسَةِ الَّتي لا يُنادِي بها ولا يُدافِعُ عنها ولا يَتحمَّسُ لها في كثيرٍ من بلاد المسلمين إلاَّ النُّخَب العلمانيَّة ذات الهيمنةِ والنُّفوذ والسَّطوِ على المُنظَّماتِ والهَيْئَاتِ المُدافِعَةِ ـ فيما زعموا ـ عن حقوق الإنسان، الَّذين يُريدُون أن تكون المرأةُ نِدًّا للرَّجُلِ ومُمَاثِلاً له ومُنَاوِئًا له ومُتصارِعًا معه، بينما هي في شريعة الإسلام شقيقةُ الرَّجل وشِقُّه، ومُتَمِّمَتُه ومُتَمِّمُها، مُحتَفِظٌ هو برجولته ومُتَمَيِّزَةٌ هي عنه بأُنُوثَتِها، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها كلمةً جامعةً: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»، فحقَّقتِ المرأةُ بهذه الكلمةِ ـ بل بالإسلام كلِّه ـ نُقلَةً عظيمةً حتَّى قال عمر : «والله؛ إن كُنَّا في الجاهلية ما نَعُدُّ للنِّساء أمرًا، حتَّى أنزلَ اللهُ فيهنَّ ما أنزل، وقسم لهنَّ ما قسم»، فهيهات أن تجد المرأةُ مثلَ هذه العناية العظيمة والتَّكريم الرَّائع والإحسان البالغ، بل ولا قريبًا منه في غير هذا الدِّين العظيمِ الَّذي رَضِيَهُ اللهُ لعباده أجمعين.
فالواجب على المسلمين أن يَتصَدَّوْا بعَزْمٍ وحزمٍ لتلك المحاولات والدِّعايات الَّتي يُرِيدُ مُرَوِّجُوها أن يُقنِعُوا المرأةَ في بلد الإسلام بضرورة الانعتاق من الأَسْرِ الَّذي تَقبَعُ فيه ـ زعموا ـ والكبت الَّذي تعاني منه، وأن تُطَالِبَ بمزيدٍ من الحقوق والحُرِّيَّاتِ، اقتداءً بنساء أمم الكفر، لتصيرَ مثلَ الرَّجُلِ تمامًا في شكلِه وزِيِّه ونَمَطِ عَيْشِه ورُبَّمَا في جنسه!
وعليهم أن يحافظوا على كرامةِ نسائهم، وألاَّ يَلتَفِتُوا إلى تلك الدِّعايات المُضَلِّلة والأصواتِ المُغرِضَةِ، وأن يَعتَبِرُوا بما وَصَلَتْ إليه المرأةُ في المجتمعات الَّتي قَبِلَتْ مثلَ تلك الدِّعاياتِ وانْخَدَعَتْ بها من عواقبَ وخيمةٍ، فالسَّعيد مَنْ وُعِظَ بغَيرِه، فليس من حقوقِ المرأة في ديننا حقُّ الزِّنا، وحقُّ الحمل من سِفَاحٍ وحقُّ الشُّذوذ والسِّحاق، وليس من حقِّها أن تتركَ البيتَ الَّذي يَحفَظُ كرامتَها وعِفَّتَها لتأْوِي إلى مَنْ يُدَنِّسُ عِرضَها ويَسلَخُ منها عِفَّتَها، وليس من حقِّها أن تَرفُضَ الدِّينَ وأحكامَه أو تدعو إلى إزالةِ القيود والأغلال عن حُرِّيَّتِها الموهومةِ، بل حقوقُها مقرونةٌ بمسؤولَيَّتِها في الأمومةِ وتربيةِ الأولاد ورعايةِ الأسرة، تُؤخَذُ وتمارس من خلال الحشمة والأدب، والعفاف والسِّتر، محوطةً بسياج الإيمان والعمل الصَّالح، فالمرأة الَّتي نريدها هي المرأة الَّتي تَعمُرُ البيتَ بوجودها وحرَكَتِها وعَمَلِها، وليستِ المرأةُ الَّتي تَملأُ المعاملَ والمصانعَ والمكاتب والشَّوارع وتُخَلِّفُ وراءَها بيتًا يفترسه الفراغُ والخرابُ.