المادية القديمة :
تشير غير دراسة إلى أن تيار الإلحاد الذي قد كان سائداً في أوروبا منذ ما يقرب من ثلاثة قرون إنما هو " نسخة من حركة الإلحاد نشَأتْ في عصور مختلفة ومتفاوتة . وأوضحُ ما تكون هذه الحركة لدى الماديين القدماء من فلاسفة الإغريق " .
لاشك أن " الاتجاه الروحي " كانت له السيادة في الفكر الإغريقي ما مثّل أساساً لتلك الحضارة التي دان لها العالم القديم طويلاً ، خاصة في فلسفة كل من الفلاسفة : فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو . وكان الاتجاه المقابل متمثلاً لدى كل من : ديمقريطس والقورينائيين والكلبيين والأبقوريين .
أما فيثاغورس ، ويُعَد المعلمَ الأكبر لأفلاطون ، وقد عاش في القرن السادس قبل الميلاد ما بين 571 ، 496 ق م ، فهو من أوائل من أسس فلسفة ، ومدرسة ، بغرض النهوض بالأخلاق والتشديد على كل من الإيمان والورع … : " على الإنسان أن يبذل جهده لكي يطهّر نفسه ويعدها للحياة المستقبلية ، ذلك لأن النفس لما حلّت في البدن ، أصبح هذا الأخير ( = البدن ) قبراً لها ، فصلاحُ النفس إنما يكون بفرارها منه وبقهره ما دامت فيه " .
ومعروف أن فيثاغورس ، وأتباعَه ، من القائلين بفكرة التناسخ ! ما يعني أن هؤلاء لم يجزموا برأي قاطع في إشكالية خلود النفس خلوداً أبدياً ، حيث فكرة التناسخ عندهم انتهت إلى " انتقال النفس في أبدان مختلفة إلى أن تتبدد في نهاية الأمر وتصبح كـ الثوب الخلِق " .
ومع ذلك ، فقد جعل هؤلاء هدفَهم " تطهير النفس ، ومحاولة السمو بها شيئاً فشيئاً حتى تتشبّه بالعالم العلوي / الإلهي " ، ويتم ذلك عبر الفضيلة ، لذلك كان من مباديء الفيثاغورية : عبادة الآلهة ، واحترام الوالديْن ، والوفاء ، وحب الوطن ، واحترام القوانين الدينية والاجتماعية ، واحترام سلطة الدولة . وكان من الواجبات المفروضة على الأتباع أن يراجع المرء نفسه / ضميره كل مساء : ماذا فعل من خير ، وماذا فعل من شر . ما يعني أن هؤلاء لم يكونوا " ملاحدة " لأن القاعدة الأساس في الديانة الفيثاغورية هي " محاولة التشبة بالآلهة " .
نعم ، كانت الفكرة الدينية عند هؤلاء بدائيةً وساذَجة ، لكن الدارسين يرون أن هكذا موقف إنما هو أفضل من الإلحاد ، فقد كانت فكرةً تهدف إلى المحافظة على حياة الفرد والجماعة ، ولا تهبط بأتباعها إلى مستوى البهيمية التي لا تخضع إلا لقوانين الطبيعة وحدها .
يُتْبع …
أما سقراط – عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ما بين 469-399 ق.م – فقد طوّر من أفكاره / آرائه الدينية لتصبح أكثر سمواً من أفكار / آراء الفيثاغوريين ؛ ففي آثاره يظهر أثر الإيمان بإله واحد حتى عده بعض المؤرخين من الأنبياء الذين لم يذكرهم القرآن الكريم … : " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " .
وقد اشتهر عن سقراط قول المؤرخين إنه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض ! بمعنى أنه أراد تقديم البحث في " الإنسان " قبل البحث فيما خلق لأجل هذا الإنسان .
والرجل كثيراً ما كان يؤكد أن " صوتاً داخلياًيهتف في أعماق نفسه ليمنع من الإقدام على ما ينبغي له ألا يقدم عليه " وقد أرجع سقراط هذا الصوت إلى " إله ، أو عقل إلهي " .
هذا كله دفع سقراط إلى أن يحذّر أهل أثينا من الاستماع إلى السوفسطائيين أو الملحدين ، حيث هدف هؤلاء " هدم الأخلاق ومعايير الحق وعقائد الدين في النفوس " .
أعلن سقراط أن الله " أوجب عليه أن يرشد قومه ، وأن ينقذهم ، ولو رغماً عنهم ، من السوفسطائيين الذين كانوا يتملقون أخس عواطفهم ، ثم يزعمون أنهم يعلمون كل شيء ، مع أنهم أكثر الناس جهلاً ، لأنهم لا يعلمون حقيقة أقرب الأشياء إليهم : وهي نفوسهم " .
آمن سقراط بأن النفسَ خالدةٌ ، على عكس الحال مع البدن الحامل ، أو الحاوى ، لهذه النفس … : " لولا اعتقادي أنني سأذهب أولاً صوبَ آلهةٍ أخرى حليمة ورحيمة ، ثم بعد ذلك نحو رجال ماتوا هم خير من رجال هذه الحياة الدنيا ، لكان من الخطأ الفاحش ألا تثور النفس ضد الموت ، ولكنني كبير الأمل في أن هناك شيئاً وراء الموت . فتلك هي الأسباب التي تجعلني أترككم ، كما أترك آلهة هذه الدنيا ، دون أن أشعر بألم أو غضب ، لأني موقن أني سوف ألقى هناك آلهةً خيرين وأصدقاء خيرين أيضاً " .
والدارس للنفس والفضيلة عند سقراط يَخلُص إلى أن الرجل لديه فكرة راقية عن الله ، حتى وصفه مؤرخون بأنه " أول مفكّر ديني " : فالجل دائماً ينادي باحترام الدين ، وبضرورة اتخاذه ، أو تعاليمه ، أساساً للأخلاق .
كان سقراط ، في حياته الخاصة ، مثالاً للرجل المتدين الذي يحس أداء شعائر الديانة التي يعتنقها ، كما كان شديد الاحترام للآلهة ، وكان يدعو أتباعه لمثل سلوكه المحترِم للقعائد المحافظ عليها .
كان سقراط صاحب عقيدة في أن " الآلهة تحيط بكل شيء علماً " و " أنها تعلم أفعالنا وأفكارنا مهما كانت خفية " و " أنها توجَد في كل مكان " و " أنها توحي إلى البشر بكل ما يتصل بحياتهم " .
أعلن الرجل تصديه للرد على ملحدي عصره ، الذين أبان أنهم يتظاهرون بسمو تفكيرهم ، وينكرون تدخّلَ الآلهة في توجيه الكون ، ومن ثم دعاهم إلى أن ينظروا / يلاحظوا :
– وجود قوة خيّرة تتجلّى آثارها في الطبيعة .
– الإله الذي خلق كل شيء فأحسنَ خَلْقه وتدبيره لا يهمل ما خلق .
– الإله يرى ويسمع كل شيء .
– الإله يحتفظ بنظام العالم واتساقه .
آمن سقراط ، بشكل أو بآخر ، بإلهٍ واحد ! رغم أنه كان يعبر عن الألوهية بصيغة الجمع أحياناً ، وأحياناً بصيغة المفرد !!! ، لكن الاتجاه نحو وحدانية الإله كان أكثر وضوحاً لديه من فكرة التعدد / الكثرة ، وهذه الفكرة ستبدو أكثر وضوحاً في تراث تلاميذه عامة ، وتلميذيه الأشهر خاصةً : أفلاطون وأرسطو .
يًتْبع …
أستاذى موضوعك رائع جدا
ودائما تتكلم عن مسيو سقراط ..
استاذى الفاضل قبل ذكر هؤلاء نعلم شئ من هذه اللحظة التى أنعمها الله علينا
ان الاسلام مادة وحركة إبداعية خالقة !
هؤلاء المفكرين لاحظة فيهم أنهم يفكرون بمنظور عالم غير منظور بسبب تعمقهم في المادة
انا على يقين لو كانوا مسلمين سوف يتحقق لهم تصور معين للحياة
أتدري لماذا؟
لان الفلسفة الاسلامية أدب موجه غير إجباري
والفكرة هيا الفكرة لا تحتاج الى شرح
دائما أقول هذه العبارة هؤلاء الفلاسفة يبحثون بأى طريقة عن حلول رغم انها موجودة بينهم
يتكلمون الكثير بدون افعال ملموسة
هم يتكلمون بالمنطق ونحن نتكلم بالغاية
لان القرآن لم يذر وسيلة موصلة إلى إنعاش العقل وتحرير الفكر
إلا وتذرع بها فهو إذا تحاكم مباشرة الى العقل
وإذا تحاج فبحكم العقل
وإذا سخط فعلى معطلي العقل
وإذا رضي فعن أولي العقل بالمناسبة وهكذا يدل تحضرعلماء الامة
تحت مظلة [ شغل عقلك ]
يا استاذى العلماء اليوم يتكلمون بحجة غريبة يقولون [أنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد]
يريدون سبب لإقناعك أن الله يعاندنا ويعبث بنا ويأتي بعكس مرادنا مع أن الله قالها في القرآن صراحة
[من يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها]
لذلك يجب تغير هذه القناعة في النفس البشرية دائما
بعبارة [أنا أريد وأنت تريد والله كريم يؤتنا ما نريد]
فالايات تكلم نفسها وسوف تكتشف التفاصيل بعد حين
لما العجلة؟ الايام القادمة سوف تظهر نفسها بنفسها
شكراً أستاذى صدقنى أحب مواضيعك كثيرة
ابحث عنها في كل مكان
|
إنْ كان كذلك ، فأحدُ أسبابِه هو تكرمُكم بمطالعته … والتعليق عليه .
أبداً ، أخي الكريم ؛ لستُ " دائماً " أتكلم عن " مسيو " سقراط !!! أنا تعرضتُ للرجل من باب " الأمانة العلمية " التي هي إحدى مفردات المناهج العلمية التي ندرّسها، منذ ما يقارب نصف القرن ، لأبنائنا طلاب الجامعات العربية .
وقد جاء عرْضي لـ سقراط باعتباره أول أهم ثلاثة فلاسفة يونان ، لأن الفكر اليوناني هو " المدخل " لدراسة الفكر المادي المعاصر ، وهذا هو الهدف من ورقتي هذه التي تفضلتم بالتعليق عليها . إلا أن ما قرأتُه لسيادتكم لم يتناولْ موضوعَ الورقة … وهو : الفكر المادي ولو في بداياته . وسوف تجدون ، في الآتي من الدراسة ، عرضاً أرجو أن يكون كافياً لهكذا فكر ، لأبين أنه فكر غير قابل للحياة من حيث هو منكر للبداهات العقلية ، ناهيك عن الإيمانية .
نعم … هو كذلك ، لكن ما دخل هذه العبارة ، واسمحْ لي أن أصفها بالإنشائية ، بما هو مكتوب في الموضوع حتى ساعته وتاريخه ؟ .
أولاً ، أخي الكريم ، هؤلاء قومٌ وُجدوا " قبل الأديان السماوية ، الإسلام تحديداً ، " بزمان : ( سقراط وُلد العام 470 قبل الميلاد ، وأفلاطون وُلد العام 429 قبل الميلاد ، وأرسطو وُلد العام 384 قبل الميلاد ) ، وبذلك يكون مولدهم سابقاً للإسلام بقرونٍ طويلة !!! هذه واحدة ، وأخرى أن بعض أساتذة علم مقارنة الأديان يذهب إلى اعتبار سقراط أحد الأنبياء غير المذكورين في القرآن الكريم .
إذاً ، فليس من الإنصاف تناول هؤلاء بمقياس الإسلام الذي ندين به عقيدةً وشريعة .
في آخر دراسة لمنظمة الشفافية العالمية ، جاءت " السويد " الأولى ، ولم نقرأ عن دولنا ما يفيد ذلك … رغم أن في كثير من بلادنا العربية والإسلامية وعظاً وإرشاداً وخطباً وقرآناً وتفسيراً وتوحيداً وفقهاً وسيرةً ، كذلك بها مئآت الآف من المساجد ، يخطب فيها عشرات الآف من الوعّاظ ، وليس " عُشْر " هذا ، بل ولا شيء منه على الإطلاق موجوداً في " السويد " ، لكن تصدرت السويد قائمة دول العالم في " الشفافية " .
ورسولنا ، رسول الرحمة ، صلى الله عليه وسلم ، أوصى ، وربما أمرَ ، أصحابه ، رضي الله عنهم ، بالهجرة إلى الحبشة قائلاً لهم : " إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ " . ما يعني أنه رغم أن بلاد الحبشة لم يكن فيها " قرآن يُتلى " ، ولا خطب تُقرأ ، ، ومع هذا عَمّ العدلُ والخير أرضَها بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعني ذلك .
ليست إشكاليتنا ، نحن المسلمين ، نقصَ خطب ، أو ما شابه ذلك ، بل هي في التعامل بالعدل والإنصاف .
وتاريخنا الإسلامي يبين لنا أن القاضي الذي عيّنه علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، حكم ليهودي بدرع عليٍّ ، لأن علياً لم يستطع تقديم " مستند " ملكية الدرع .
وقد قرأنا لشيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله ، أن الله ، تعالى ، يُبقي دولةَ العدل وإن كانت كافرة ، ولا يبقي دولة الظلم وإن كانت مسلمة .
كيف ذلك ؟ اذكر لنا ، فضلاً لا أمراً ، دليلاً على هكذا طرح .
وهل أنكر فلاسفة الإسلام " المنطق " بدءاً بابن تيمية وليس انتهاءً بالأساتذة المحدثين والمعاصرين ؟ إن القرآن الكريم يحض / يحث على التفكير المنطقي ، والذي هو ، في أبسط تعريفاته ، ربط النتائج بأسبابها .
|
ومرة أخرى ، وأرجو ، أخي الكريم ، ألا أكون أمللتك ، : ما دخل هذا بموضوع الورقة حتى ساعته وتاريخه ؟ .
|
وهل قال هؤلاء المذكورون ، حتى الآن ، ما يفيد أنهم غير مؤمنين بالعقل وقيمته حتى نسوق هكذا عبارة ؟ .
والشكر لسيادتك أولى .
أحبك الله ، وجعلنا ، وما نكتب ، عند حسن ظنك .
وهذا شرف للمواضيع وكاتبها .
أما أفلاطون (427-428 ق م ) ، ففكرة الإله تحتلّ المقامَ الأهم في فلسفته ، حتى أسماه المؤرخون أفلاطون الإلهي ، حيث الله في فكر الرجل :
– هو خالق العالم ،
– هو مثال القداسة ،
– هو الحي العاقل ،
– هو إله الآلهة ،
– هو المنبع الأبدي الوجود ،
– هو خالق الكون ومنسّقه ،
– هو الجمال الأبدي المطلق الذي تهفو إليه النفوس ، ذلك عند رؤيتها لما في هذا العالم الأرضي من جمال حسي عابر .
في رأي أفلاطون أن النفس البشرية هبطت من عالمها الأول ، عالم الجمال والخير ، وحال ترى ، في هذه الحياة الدنيا ، جمالاً حسياً ، فإنه يذكّرها بالجمال الذي قد كانت فيه ، وهو جمال لا نهائي ، كانت النفس تشاهده وتنعم برؤيته قبل أن تنزل لتسكن ، أو تُسجن ، في حيز البدن / الجسم .
النفس ، من ثَم ، تحاول ، ودائماً ، أن تصعد إلى عالمها الأول ، ولن يتسنى لها هذا العَوْد إلا بالتطّهر من " خطيئتها الأولى " بأمرين : العمل الصالح ، والتفلسف ، فليس هناك ما يفوق الحكمة والمعرفة في السمو بالنفس إلا نوع من الإلهام يغمر النفس المتفلسفة فتشرق عليها المعارف إشراقاً حقيقياً فتنال المعرفةَ الحقيقية فتسمو بها ، وتكون أقربَ إلى الخلاص من الجسم الذي هو قبرٌ لها ، وهنا يصبح الموت هو السبيل الأوحد لخلاص النفس من جسمها الذي هو سِجْنُها ، لترقى إلى ما كانت فيه قبل هبوطها لهكذا جسم / سجن … وتظل النفس ترتحل من بدن إلى آخر ، حتى يفيض عليها الإله فترقى إلى حيث " عالَم المثل " .
ويقدم أفلاطون غير برهان على خلود النفس وعلى وجود " حياة أُخروية " كضرورة لأن يكون لكل من العدل والفضيلة معنىً وقيمة .
إنه بفرض أن النفس غير خالدة ( = فانية ) لما صار " الظلم " مريعاً ، ولصار الداعون إلى الفضيلة والعدل محل إشفاق ، بل وسخرية ، من الآخرين حيث نرى هؤلاء الداعين إلى هكذا فضيلة وعدل كثيراً ما يقاسون الفقر والمرض والكثير من صنوف العذاب في هذه الحياة الآنية … كل ذلك لأجل أن يسود ما هم معتقدون فيه : الفضيلة والعدل .
كما أنه بحال صار الاعتقاد بأن الإنسان يفنى جسداً وروحاً حال يأتيه الموت ، لصار كل شرير ضامناً أن يهرب بخطاياه وذنوبه ، ما يعني أن يصبح الأشرار هم أكثر الناس سعادةً في دنيا الناس ! من حيث إنهم سوف يتحررون ، بالموت ، من أجسامهم ونفوسهم وشرورهم .
لا يجعل أفلاطون للحياة الإنسانية قيمةً ولا معنىً إلا إذا كان هناك اعتقادٌ بوجود عالم آخر تصعد إليه النفس البشرية هو " عالم الجمال الأبدي الذي لا يكسوه لحم ، ولا ألوان ولا حلى بشرية مزيفة كتب عليها أن تندثر " ، ولا قيمة لهذه الحياة إن لم يقم وعدٌ بأن يقف الإنسان وجهاً لوجه قبالة الجمال الإلهي الوحيد .
لهذا كله يطلق أفلاطون أسماء كثيرة على الإله … منها : الخير ، والوجود ، والعقل ، والجمال ، والملك الحي .
وحال يشك الإنسان في وجود هذا الإله ، فإنه " لا يستخدم عقله على النحو الذي ينبغي له " .
وتقوم صلةٌ ما بين الله وبين الإنسان : فالله هو الذي يلهمنا كاشفاً لنا عن حقائق الأشياء ، أو بعض هذه الحقائق ، التي نعجز عن الوصول إليها .
والرأي السائد عن أفلاطون أنه يأخذ بالقول بوجود إله واحد كما كان الأمر عند أستاذه سقراط ، وإن كنا نلاحظ أن الرجل لم يعلن ذلك صراحةً ! وقد نعلل الأمر بأن أفلاطون لم يكن صريحاً في هكذا إشكالية لأمرين :
الأول : أنه خشي أن يلاحقه ، كما لاحقَ أستاذه سقراط ، الاتهام بالخروج على عقائد الإغريق .
الثاني : أنه رأى أن " التعدد " عنصر أساس في الذهنية الإغريقية خاصة لدى العامة ، وحال إنكار هذا التعدد فإنه يُخشى أن ينتهي الأمر بإنكار الإله الواحد الذي يؤمن به الخاصة .
يُتْبع …
أما أرسطو طاليس ( 384 ق م – 322 ق م ) ، فهو ، كأستاذيه سقراط وأفلاطون ، يؤمن بإلهٍ خالقٍ للكون ، مع إقراره بآلهة الإغريق بعد أن برّأها من / عن الصفات البشرية التي خلعها عليها المنتسبون إليها ، فيرى أنه لابد من وجود " إله أكبر " يكون " رئيساً للآلهة " .
الإله عند أرسطو :
– خالٍ من المادة ،
– مصدر الاتساق في هذا العالم ،
– ضروري للعالم ، لأن هذا العالم لا يحتمل الفوضى ،
– هو المحرك الأول ،
– هو علة العلل ،
– هو المحرك الذي لا يتحرك ؛ لأنه لو كان متحركاً لافتقر إلى محرك ، ولافتقر هذا المحرك ، أيضاً ، إلى محرك … وهكذا التسلسل ، لكن لابد أن ينقطع التسلسل ، ولا بد من الوقوف عند محرك أول لا يتحرك وليس له محرك من خارج ،
– هو أزلي أبدي ، لأنه إذا كانت الحركة لا بداية لها ولا نهاية ، فإن المحرك الأول الذي أحدث الحركة هو ، أيضاً ، لا ابتداء له ولا انتهاء من ،
– هو واحد من كل الوجوه ، بدليل وحدانية نظام العالم وتناسُب الحركات مع بعضها البعض ،
– هو بسيط لا تركيب فيه ولا كثرة ،
– هو صورة محضة / صِرْف خالصة ، ليست تشوبها الهيولَى بحال ،
– هو فعل محض ليس فيه شيء مما هو بـ " القوة " ،
– هو خير محض ،
– هو عقل محض ،
– هو عقل قائم بذاته عاقل لذاته معقول لذاته ،
– هو يحرك العالَم على سبيل الشوق .
إذاً ، مثّل كلٌّ من سقراط وأفلاطون وأرسطو أهمّ ثلاثة فلاسفة " روحانيين " قبالة الفلاسفة " الماديين " .
يُتْبع …
ديمقريطس :
الرجل ، عاش ( 460 ق م -370 ق م ) ، يُعرف بفيلسوف الذرّة ، نسبةً إلى المذهب الذري الذي تبناه الرجل تفسيراً لنشأة الكون .
الكون نشأ من كتلة لا نهايةَ لها ، وهذه الكتلة تحتوي على بذور جميع الأكوان من حيث هي عدد لا نهائي من الأجسام الصغيرة / الدقيقة التي لا تقبل الانقسام ، وهي قديمة أبدية لا تفنى ، ولكل منها شكله الخاص ، والاختلاف القائم بينها إنما هو في الحجم والمقدار ، وحال يتحد بعض هذه الذرات في الشكل أو في المقدار ، فإنها تختلف إما من جهة الوضع ، أو من جهة المكان . ولابد من وجود الفراغ / الفضاء لتتحرك فيه هذه الذرات ، وهي حال تتحرك تصطدم ، ما يؤدي إلى أن تهبط الذرات الثقيلة نحو مركز الكون الذي هو الأرض ، أما الذرات الخفيفة فإنها تصعد مكونةً الفلك الأول .
ينتهي ديمقريطس إلى أنه ليس هناك قوة ، أو إدراك ، أو عقل ، يوجه هذه الذرات التي تتحرك حركة دائمة على هيئة دوامة أبدية .
وكل شيء عند الرجل إنما هو مفسَّر بالذرات … حتى النفْس : هي مجموعة من الذرات النارية التي يزكيها التنفس فتستمر حيةً وقتاً ما ، ثم تتبدد لتدخل في نفوس أخرى .
حتى الإحساس ، يتم تفسيره بالذرات أيضاً : فإن بعض الذرات الخفيفة تخرج من الأجسام المادية على صورة أشباح فتخترق أعضاء الحس محمولةً بطريق الهواء الذي يعد الناقل / الحامل لها .
ونفس التفسير يلحق بالتفكير : فهو ، أيضاً ، ظاهرة مادية ، حيث تتكدس بعض الذرات في المخ . ولا يظهر التفكير طفرة ، بل هو يمر بمراحل تطور للمادة من أدنى الدرجات إلى أرقاها / أسماها ، والأدني هو " الحمأ الرطب " الذي مر بمراحل متوسطة كالمعادن والنباتات وباقي العضويات ، وهذا يؤدي إلى نشأة الشعور والتفكير لدى الكائن المفكر .
والأمر نفسه ينطبق حتى على الآلهة : فهي تتكون من ذرات تخضع لقانون الحركات الذرية وهو قانون المصادفة الصرف .
والأخلاق عند الرجل نسبية ليست عن وحي وليس لها مصدر إلهي ، حيث لا يقر الرجل أن هناك قوة مدبّرة / منظِّمة ، كما أنه ليست هناك علة للوجود ، وليس لـ الآلهة أية وظيفة ذات تعلق بالكون سواء على سبيل الإيجاد أو على سبيل التدبير ! ما يعني أن يكون الإيمان بإله موجد ومدبّر للكون ليس إلا تعبيراً عن الفزع الذي يسكن المرء تجاه ما يراه من ظواهر طبيعية في الكون .
وهذا الطرح من ديمقريطس ترك أثره على جوانب عديدة في المجتمع الإغريقي القديم سواء على صعيد الأخلاق أو الفلسفة أو الاجتماع .
يُتْبع …
بفعلٍ من آراء ديمقريطس انصرف الإغريق عن كثير من أعرافهم الاجتماعية وتقاليدهم ، ومعتقداتهم ، الدينية التي دان بها ، لزمن طويل ، الإغريقي القديمُ .
ظهر السوفسطائيون ، وهم مَن مالَ بالحياة ، الاجتماعية تحديداً ، نحو التحرر من الآراء المتوارَثة ، واتجهوا إلى الاهتمام بالحياة الفردية بناء على تصور لديهم : أن المفكرين والفلاسفة لم يتفقوا على تفسير واحد لنشأة الكون ، وكيف ظهرت الحياة الحية واللاحية ، كما لم يأتوا بجديد يحل محل العقائد الدينية التي أصبحت محل نفور كثيرين من الإغريق .
وتاريخياً ، فقد كان لانتصار الإغريق على الفُرس أثرُه الكبير في نجاح هكذا دعوة ، فظهرت ، أو شاعت ، الدعةُ ما أنتج رغبةً شيطانية في إشباع الشهوات والرغبات التي كانت الحروب سبباً في كتمها !!! .
وشيئاً فشيئاً ، ظهرتْ الآراءُ ، والمذاهبُ ، الهادمة لكثير من القيم الإنسانية التي بخلوِّ مجتمعٍ ما منها يكون معرضاً للانهيار .
ظهر القورينائيون ، وظهر الكلبيون ، وظهر الأبيقوريون .
وكان جُل اهتمام هذه المذاهب منصباً على الجانب الخُلُقي ، وهو الجانب الذي أسس فضيلتَه السابقون على هذه المذاهب كـ سقراط وأفلاطون وأرسطو طاليس .
وانحاز الإغريق إلى هذه المذاهب بالنظر لأنها تشبع لديهم رغبات ونزعات وشهوات وملذات ، ما عجّل بتدهور الدولة ، ثم سقوطها أمام الرومان الذين قضوا على هذه الحضارة … إلى أن أحياها العرب ، والمسلمون ، من جديد .
يُتْبع …