الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من أخلاق العرب السامية : خلق الغيرة : هذا الخلق كان العرب في جاهليتهم يعرفون به , وقد أفرطوا فيه وغالوا وتشددوا ، وتجاوزوا حده المشروع، حتى وصل بهم إلى وأد بناتهم خشية العار.
جاء الإسلام فأقر أصل الغيرة ، لكنه هذبها وعَدَّلَها؛ لتكون بين الإفراط والتفريط ، وبين الغلو والتقصير.
وقلةُ الغيرة من قلة الإيمان ؛ لأن المؤمنَ يَغَارُ ؛ يَغَارُ لنفسه إذا شورك في شيء يختص به ، ويغار لله تعالى إذا انتهكت محارم الله تعالى ، أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «إن الله يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه». [رواه البخاري: 5223، ومسلم 2761] ، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «ليس أحد أحبَّ إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حَرَّمَ الفواحش، وليس أحدٌ أحبَّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل». [رواه البخاري: 5220 ومسلم: 2760].
*المؤمن غيور: من صفات المؤمنين أنهم غيورون؛ يغارون على حرمات الله تعالى أن تنتهك، ويغارون على محارمهم وما يخصهم، ورسول الله r أشد الناس غيرة، ثم صحابته من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم.
وعند مسلم (1498) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: «يا رسول الله ، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء». قال رسول الله r: «نعم». قال: «كلا ، والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك». قال رسول الله r: «اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ، إنه لغيور ، وإني لأغير منه ، والله أغير مني».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وبَيَّنَ النبيُّ r أنه أغير من غيرة المؤمن ، وأن المؤمن يغار، والله يحب الغيرة، وذلك في الريبة، ومن لا يغار فهو ديوث». وقد جاء في الحديث: «لا يدخل الجنة ديوث». [رواه أحمد: 2/128]؛ فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى ، وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله ، وهي أن تؤتى الفواحش الباطنةُ والظاهرة .
لكن غيرة العبد الخاصة هي من أن يشركه الغير في أهله؛ فغيرته عن فاحشة أهله ليست كغيرته من زنا الغير؛ لأن هذا ما يتعلق به، وذاك لا يتعلق إلا من جهة بغضه لمبغضة الله، ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي من غيرته على أهله، وأعظم ذلك امرأته ثم أقاربه، ومن هو تحت طاعته، ولهذا كان له إذا زنت أن يلاعنها؛ لما عليه في ذلك من الضرر؛ بخلاف ما إذا زنا غير امرأته ». [الاستقامة 2/7].
*أقسام الناس في الغيرة: قَسَّمَ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بني آدم في الغيرة إلى أربعة أقسام:
1- قومٌ لا يغارون على حرمات الله بحال ولا عن حُرُمِها ، مثل الديوث ، ومثل أهل الإباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ، ومنهم من يجعل ذلك ديناً وطريقاً: }وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ{. [الاعراف: 28].
2- وقوم يغارون على ما حَرَّمَه الله وعلى ما أمر به مما هو من نوع الحب والكره ، يجعلون ذلك غيرة ؛ فيكره أحدهم من غيره أموراً يحبها الله ورسوله، ومنهم من جعل ذلك طريقاً وديناً، ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما أحبه الله ورسوله غيرة.
3- وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه، فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها؛ بل يبغضون الصلوات والعبادات؛ كما قال تعالى: }فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا{. [مريم: 59].
4- وقوم يغارون مما يكرهه الله، ويحبون ما يحبه الله، هؤلاء هم أهل الإيمان. ا هـ كلامه رحمه الله تعالى. [الاستقامة 2/9 -10].
*ما ينقص الغيرة: الذنوب والمعاصي سبب لنقص الغيرة واضمحلالها وذهابها؛ ولذا فإن أكثر الناس غيرة أتقاهم لله تعالى، وتنقص الغيرة من قلب العبد بقدر نقص تقواه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: «ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه؛ كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن؛ فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد.
وأشرف الناس وأجدهم وأعلاهم همة أشدهم غيرة على نفسه وخاصّته وعموم الناس، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة، والله سبحانه أشد غيرة منه …
إلى أن قال: فإن كثيراً ممن تشتد غيرته من المخلوقين تحمله شدةُ الغيرة على سرعة الإيقاع والعقوبة من غير إعذار، ومن غير قبول العذر ممن اعتذر إليه؛ بل يكون له في نفس الأمر عذر، ولا تدعه شدة الغيرة أن يقبل عذره.
وكثير ممن يقبل المعاذير، ويرى عذراً ما ليس بعذر، حتى يعتذر كثير منهم – يعني على معاصيهم – بالقَدَرِ، وكل منهما غير ممدوح على الإطلاق.. وإنما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر؛ فيغار في محل الغيرة، ويعذر في موضع العذر، ومن كان هكذا فهو الممدوح حقاً». [الداء والدواء: 108].
وقال أيضاً: «والمقصود أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جداً حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح؛ لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك، وكثير من هؤلاء، ولا يقتصر على عدم الاستقباح؛ بل يُحَسِّنُ الفواحش والظلم لغيره ، ويزينه له ، ويدعوه إليه ، ويحثه عليه ، ويسعى له في تحصيله ، ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله ، والجنة حرام عليه ، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزيِّنه له ؛ فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة ، وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ، ومن لا غيرة له لا دين له ؛ فالغيرة تحمي القلب ؛ فتحمي له الجوارح ؛ فتدفع السوء والفواحش ، وعدم الغيرة يميت القلب فتموت الجوارح ، فلا يبقى عندها دفع البتة. ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه ، فإذا ذهبت القوة وَجَدَ الداءُ المحلَّ قابلًا ، ولم يجد دافعًا ، فتمكن فكان الهلاك». [الداء والدواء: 110].
*منافع الغيرة وأهميتها: الغيرة الموزونة بميزان الشرع سبب للخير ، وهي تدفع الشر، وتقمع أهل الريب والفساد ؛ غضب أبو بكر رضي الله عنه لما ارتد المرتدون، ومنع الزكاة المانعون .. غضب رضي الله تعالى عنه وقال لعمر لما حاول تهدئته : «يا عمر: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟!» وانطلقت قولته المشهورة التي أصبحت نبراسًا يستضاء به: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله r لقاتلتهم عليه». [رواه البخاري: 7284 ، ومسلم: 2]، قال ذلك غيرة لله تعالى، وقاتل أهل الردة، فأعز الله به الإسلام.
وهكذا يكون أبو بكر رضي الله عنه أنموذجاً صالحاً وأسوة حسنة لكل عبد غيور على دين الله تعالى ، قوي في الحق ، آمر بالمعروف ، ناه عن المنكر ، لا كحال كثير من الناس الذين يرون حرمات الله تعالى تنتهك جهاراً نهاراً فلا يغارون لله تعالى ، ولكن كيف يغارون إذا كان في الناس من تنتهك حرماته ولا يغار!! نعوذ بالله من ذلك .
إن حدود الرجم والجلد والتغريب في الزنا ما شرعت إلا محافظة على الأعراض أن تنتهك، وإن آداب الاستئذان ، وكيفية الدخول على البيوت والمحارم ، ومنع النظر إلى الأجنبيات ما جاء إلا حفاظاً على الأعراض ، وإن جلد القاذف ما شرِّع إلا حفظاً للنساء الطاهرات العفيفات من أن تقع فيهن الألسن الجارحة العاصية، واللعان بين الزوجين ما شُرِّعَ إلا ليضبط غيرة الرجل على أهله؛ فلا تتعدى حدود غير الريبة.
ما شُرِّعَ ذلك كله إلا لمكانة الأعراض وأهميتها في دين الله تعالى، ولكن ما حال الناس أمام هذه الحرمة العظيمة؟ وما مقدار الغيرة في ظل بث الفضائيات الخبيثة التي تنشر الفساد والإباحية ، وفي ظل المجلات الخليعة التي تسهل طرق الفاحشة؟ ما حال مراهق أو مراهقة يخلو كل واحد منهما في غرفته ، تنتقل عينه من فضائية إلى أخرى! فبالله العظيم وبعيداً عن المزايدة في الكلام ، والتسويغات السامجة ، والأعذار الواهية ، ماذا سيكون جواب صاحب البيت الآمن حينما جلب النار والعار ووضعهما في أيدي أبنائه وبناته؟
ليس حديثي هذا للمنافقين ؛ فالمنافقون أخبر الله عنهم بأنهم }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا{، [النور: 19]؛ لذا لا غرابة أن يقلبوا الموازين ، ويخلطوا المفاهيم ، ويجعلوا الفاحشة رقياً وتقدماً ، وحضارة ومجداً ويصفوا الغيرة وحفظ الأعراض بالجمود والقيود والأغلال ، وإنما الحديث لأهل الإيمان والفطر السوية ، التي ترفض الفاحشة ، وتأبى الانحلال ، لكن فعلها إلى استقبال خبيث الفضاء تقليد على غير هدى في غفلة مع الغافلين.
كانوا يظنون أن الأمر سهل ويسير ، وفيه متعة وتسلية للأولاد ، أما وقد بان لهم أمرها ، وظهر أمامهم خبثها ونتنها ، فهل من عودة إلى الحق، ورجعة إلى الله تعالى ، وتوبة وإنابة تقود إلى تنظيف البيوت الآمنة من أسلحة غزاة الفساد والفاحشة ، حماية للأعراض ، وغيرة على المحارم؟ هذا هو الظن بهم؛ أن يستجيبوا لله ولرسوله ، ويقطعوا طرق الشيطان والفاحشة ، والله تعالى يناديهم فيقول عز مِن قائل: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ{، [النور: 21].
فما أقوى نفوسهم إن تغلبت على الهوى والشيطان، وما أضعفها وأعجزها وأجبنها إن استمرت في غَيِّها، «والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بيوتنا من الفساد والانحلال، وقلوبنا من الزيغ والضلال ، وأن يمن علينا بهداه ، ويجعل عملنا في رضاه ، ويهدينا صراطه المستقيم ، ويجنبنا طريق الشيطان وأعوانه؛ إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بارك الله فيك